وفي الوقت الذي كنا فيه - نحن أولاده - نسيء فهم تلك العلامات، كان هو بالتأكيد يتألم لشعوره بتلك التغيرات التي تعتريه؛ ذلك الشعور بالخوف الرهيب من أن شيئا معاديا يتملكه ولا يستطيع هو إلى مقاومته سبيلا. ولم يتفوه يوما بكلمة عن هذا الأمر، فقد كان تكتمه وعدم قدرته على التعبير عن مشاعره يقفان حاجزا أمام ذلك. لم يكن الحديث عن مشاعره يوما من سمات شخصيته؛ إذ لم يقم بذلك أبدا، وكان الوقت قد تأخر على الشروع في ذلك الآن. ومما جعل الأمور تزداد سوءا أنه قد ورث هذا الطبع لأولاده؛ لذا لم تأت من جانبنا أي مبادرة في هذا الاتجاه. لم يستطع أحد منا التغلب على ذلك، وتركنا الأمور تسير في مسارها. نعم، في الحقيقة كان أبي يبدو غريبا في بعض الأحيان، ولكن ألم يكن ذلك يحدث دائما؟ ومن ثم فقد كان سلوكه يبدو لنا كما ألفناه دائما. •••
في الحقيقة كانت جميع الأمور الغريبة تبدو في بادئ الأمر مجرد نتيجة منطقية لبعض سماته الشخصية في مواجهة موقف جديد؛ فقد كان أبي يكبر في السن، وتركته زوجته بعد زيجة استمرت ثلاثين عاما؛ ولهذا كان افتراض أنه يفتقد للدافعية أقرب للتصديق.
فقد أنهكه الانفصال عنها، وقد كان معارضا بشدة لفكرة الطلاق؛ لأنه كان من ناحية يريد البقاء مع أمي، ومن ناحية أخرى كان يرى أن بعض الأمور تمثل التزاما قويا. ولكنه لم يدرك بما يكفي أن هناك أمورا قد استنفد تحملها رصيد الصبر. فعلى العكس تماما من أنماط الحياة المرنة المعروفة اليوم كان أبي يتمسك بقرار تم اتخاذه قبل عقود ولم يرد فسخ عهد بعد توكيده. وكان في هذا الجانب أيضا ينتمي إلى جيل آخر غير الذي تنتمي إليه زوجته التي تصغره بخمسة عشر عاما؛ إذ لم يكن الأمر بالنسبة إليها يتعلق بوعد قطعته على نفسها، وإنما بحياتها وإمكانية أن تجد السعادة في مكان آخر. وعندما تركت أمي البيت ظل أبي متشبثا في داخله بتلك العلاقة المنتهية، وفيا لأمر قد ذهب أدراج الرياح.
أدى هجر أمي لأبي إلى دخوله في حالة من الاكتئاب والكسل، وكأنه آلة فقدت آخر زنبرك كان يعمل فيها. ترك أبي كل شيء، حتى العمل في الحديقة، مع أنه كان يعلم أن أولاده مشغولون جدا في أعمالهم، ويتأوهون ألما من هذا الحمل الإضافي. كان أبي قد تنصل فعليا من كل واجباته، ولم يبق أثر من همته ونشاطه كما كان في الأيام الخوالي؛ تلك الهمة التي كانت تجعله لعقود طويلة يحقق تقدما في كل ما يريد. أخبرنا أبي بطريقة مقتضبة أن الدور قد حان الآن على الشباب؛ لأنه قد عمل في حياته بما يكفي.
مثل هذه الأعذار كانت تضايقنا، إلا أنها كانت فعلا أعذارا، ولكن لشيء غير الذي ظنناه. كنا نعتقد أن السبب في حالة التراخي التي كانت تعتريه هو كسله، بينما كان العكس صحيحا؛ فقد كان كسله نتيجة للعجز الذي أصابه. ولأن الواجبات، حتى البسيط منها، كانت تتراكم عليه، فقد كان يشعر أنه فقد السيطرة على الأمور؛ لذا قرر التخلي عن أي مسئولية.
وبدلا من أن يسقي نباتات الطماطم يوميا، كان يمضي وقته في لعب الورق منفردا، أو في مشاهدة التليفزيون. أذكر كم كانت رتابة الأمور التي تمتعه تبدو لي مقززة. كانت حياته بالنسبة إلي، وأنا أحاول أن أجد طريقي في الحياة العملية وقتها، تفوح منها رائحة اللامبالاة العطنة. لعب الورق ومشاهدة التليفزيون؟! لا يمكن اعتبار تلك الأمور محتوى للحياة أبدا، هكذا كنت أرى الأمور، لكني لم أحاول أن أجعل من رأيي موضوعا للمناقشة. كنت أرجو أبي، كنت أسخر منه وكنت أستفزه، كنت أتحدث أمامه عن الكسل وفقدان العزيمة، إلا أن كل المحاولات - حتى أكثرها إلحاحا - لم تفلح تماما في إخراجه من الحالة التي كان عليها. وكان أبي يتلقى جميع الهجمات عليه دون أن يحرك ساكنا، وكأنه حصان يقف وسط العاصفة دون حراك، ثم كان يستكمل حياته اليومية كالمعتاد.
لو لم أكن في ذلك الوقت مضطرا إلى قضاء عدة أشهر كل عام في البيت، حيث كنت أعمل منفذ صوت وفيديو في مسرح مدينة بريجينتس لأكسب عيشي بجانب عملي في الكتابة، لكنت تجنبت المرور ببيت والدي تماما. وبعد مكوثي عدة أيام هناك كنت أغرق في حالة من الاكتئاب. وهكذا كان الوضع أيضا مع إخوتي الذين تركوا البيت الواحد بعد الآخر. تفرق الأبناء وأحكمت الوحدة شباكها حول أبي.
هكذا كانت حالتنا المزاجية في عام 2000 عندما لم يكتف المرض بافتراس عقل أبي، بل امتد أيضا إلى الصورة التي رسمتها له وأنا طفل فافترسها. طوال طفولتي كنت فخورا بأني ابنه، واليوم أصبحت وبصورة متزايدة أعتبره أحمق.
أعتقد أن جاك دريدا كان محقا عندما قال: «عندما يكتب المرء، فإنه يبحث دائما عن الغفران.» •••
حكت العمة هدفيج أنها جاءت ذات مرة لزيارة أبي بصحبة إميل - الأخ الأكبر من بين ستة إخوة لأبي - وكان إميل قد أحضر معه ماكينة ورداء الحلاقة، ولا تذكر عمتي إذا كان أبي قد وافق على قص شعره ذلك اليوم أم لا. كان اليوم قد انتصف عندما دهشت عمتي لرؤية طبق به بقايا طعام موضوعا على الأريكة في غرفة المعيشة. وبعد ذلك سقط كوب من يد أبي، وظل يحدق في الزجاج المحطم على الأرض عاجزا عن التصرف. عندها عرضت عليه عمتي أن تقوم هي برفع الزجاج من على الأرض، وسألته عن مكان المكنسة والجاروف، ولكنه عجز عن تحديد مكانهما، ورأت فجأة الدموع في عينيه. في هذه اللحظة تحديدا أدركت عمتي الأمر.
Неизвестная страница