خطاب الحياة
أتدرون يا بني لم دعوتكم؟ دعوتكم لما شجرت بينكم شواجر البغضاء، وتقطعت بكم أسباب الرحم، فعدا بعضكم على بعض، وأصبح الحي منكم ينظر إلى سائر الأحياء، كأنه الحي وحده وهي أحجار صماء، لا شعور لها، ولا رغبة في البقاء عندها، أو هو لا يعرف فيها الحياة إلا ليراها أصلح لخدمته، وأهيب من المادة الجامدة لسطوته.
هذا وأنتم جميعا أبنائي، أرضعتكم لباني، وسرت في عروقكم دمائي، وميزتكم عن الجماد، فجعلتكم جندا لي على أعدائي، يؤلمني الألم في أصغركم وأوضعكم كما يؤلمني في أضخمكم وأرفعكم، وأعالج من الأوجاع والحسرات لمفارقة الجثة الناقصة الدقيقة ما أعالجه لمفارقة البنية التامة القويمة.
غركم تباين خلقكم، وتعدد سماتكم وسحنكم، فخلتم أنكم شتيت مفلول، ونثير مبدد، لا تفيئون إلى أصل، ولا تلتقون عند غاية، فهل نسيتم أن كلمة الأحياء تشملكم؟ وأن الموت عدو لكم؟ وأنتم بين جنوده وعناصره في هذا الكون وحدكم؟
فاليوم أجمعكم في هذه الغاب ليمشي بعضكم إلى بعض بالسلم فتعتصموا به، وتتناصحوا فيما باعد بينكم وأولع بعضكم ببعض فتقلعوا عنه، ذلك أولى لكم من هذه الشحناء التي شقت عصاكم، وأشمتت الجماد بكم، وصيرت بعضكم يتمنى لو أنه صخرة جامدة أو جثة خامدة، ويحسب الحياة لعنة عليه وعلى الخلق أجمعين.
إنكم تفهمونني جميعا وتفقهون ما أوحي إليكم به الآن، لكنكم لا يفهم بعضكم بعضا، ولا يعي أحدكم سريرة صاحبه إلا رجما بالغيب وأخذا بالظن، فليكن لكم ما دمتم في هذا الحشد علم الإنسان وبيانه وبصيرته، ولتشرب أرواحكم فنونه وتواريخه وأديانه؛ تتعاونون بها على التفاهم والإبانة عما في سرائركم، أما طبائعكم فحافظوا عليها جد المحافظة، فإنها دليلكم فيما سينطق به كل منكم عن رغبته وفكره، والمعالم التي تميز بين أحدكم وغيره، وهي قوام أنفسكم وملاك وجودكم، وليس التجاوز عن هذه المعالم بأسهل علي أو عليكم من التجاوز عن الحياة.
فابدءوا باسم الخلاق الحكيم، وتكلمي يا يمامة فإنك رمز السلم والسلامة، قرن الله بهما عملكم، وأظل بهما في التفرق والاجتماع شملكم.
فجأروا بلغة واحدة وصوت واحد بين زئير الأسد وصرير الجندب: آمين آمين. •••
وقبل أن تبدأ اليمامة خطابها نظرت أتصفح ما حوته الغاب من تلك الوجوه، فسرعان ما توسمت العقل والمعرفة والتؤدة في الأناسي منهم والوحوش، فقلت: تالله لقد أخطأت الحياة، فإني لا أرى هنا إلا خلقا واحدا، سوى أن هذي دواب في أشكال الأناسي، وهذي أناسي في أشكال الدواب!
ثم صعدت اليمامة على ذؤابة شجرة عالية، وهتفت قائلة ...
Неизвестная страница