معجم متن اللغة
معجم متن اللغة
Издатель
دار مكتبة الحياة
Место издания
بيروت
Жанры
معجم
متن اللغة
موسوعة لغوية حديثة
للعلامة اللغوي الشيخ أحمد رضا
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
المجلد الأول
دار مكتبة الحياة
بيروت
١٣٧٧ هـ - ١٩٥٨ م
1 / 1
معجم
متن اللغة
١
1 / 3
كلمة الدار
إن الإنجازات التي حققتها وتحققها دار مكتبة الحياة، في حقل الترجمة والنشر، لهي الآية الكبرى على فائق اهتمام هذه الدار بالتراث العربي والإنتاج العلمي واللغوي، اللذين تغني بها الثقافة العربية، وتعمق بهما جذورها في نفوس أفراد الجيل الجديد.
وليس إقدام الدار على تحقيق طباعة متن اللغة، ثم الوسيط والموجز، إلا حلقة من سلسلة مشروعاتها الكبرى التي تتقدم بها إلى الرأي العام العربي الواعي، راجية التأييد والتشجيع، لتتمكن من متابعة جهودها في تعميق النتاج الثقافي العربي وتوسيعه.
والدار قبل هذا كله، تقدم على عملها، متوكلة على الله، راجية منه تعالى التوفيق والرعاية.
دار مكتبة الحياة
1 / 5
تصدير
أتى على العربية حين من الدهر طويل، لملمت فيه أطرافها، وسكنت خلاله إلى جهود جهابذتها الأولين؛ ثم لم تجد من أبنائها من يكرس جهده أو بعضًا منه لنشر ما طوي منها في بطون الكتب وإحياء ما كاد يدرس من معالمها. لولا أن انفجرت في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حماسة كانت راكدة، ورغبات أمست باردة؛ فلم يلبث فريق من رواد البحث اللغوي الحديث، تحت تأثير النهضة القومية، وتوق أبناء العروبة إلى تجددي ما بلي أو كاد يبلي من تراثها، حتى اندفع في تقييد أوابدها وتجميع شواردها والتفريع عن أصولها، مستهدفًا اللحاق بالركب العالمي، جاهدًا في استيعاب ما تجدد من الفكر والصناعات، مستنيرًا بمعطيات اللغة الأصيلة وفلسفة تكوينها، فأصاب من التوفيق ما تفاوت بتفاوت حظوظ أفراده، من الثبات في العمل، والسعة في الإدراك، والقدرة على التحميص.
ثم نشأت أثناء ذلك مجامع ومؤسسات، وبخاصة في القاهرة ودمشق؛ فكان في القاهرة مجمع دار العلوم والمجمع المكي، وكان في دمشق المجمع العلمي العربي، تضاف إليها جهود أعلام في مصر وبلاد الشام، من بينهم المغفور له الشيخ محمد عبده، وأحمد تيمور، والمرصفي، ثم الأب أنستاس الكرملي وغيرهم من المتخصصين في دراسة اللغة العربية، ممن لا تتسع هذه العجالة لذكر أعمالهم واستعراض مباحثهم.
كانت هذه المحاولات الأولية شهبًا اخترقت ظلمات الليل، ومصابيح ألقت شعاعًا على جوانب خفية من اللغة العربية ذات أصالة بالغة. وقد دفعت المجمع العلمي العربي بدمشق إلى تكليف المغفور له العلامة الشيخ أحمد رضا خلال سنة ١٩٣٠ م (١٣٤٩ هـ) العمل على إعداد معجم مطول يجمع فيه ما تناثر من جواهر العربية في بطون المطولات اللغوية القديمة، وإلحاق ما استحدث من الألفاظ والمصطلحات به؛ فعل هذا ثقة منه بكفاءة الشيخ العلامة، وقدرته الفائقة على الصبر في التمحيص، والثبات في الجمع، والعمق في الوعي اللغوي وإدراك أسرار العربية.
فما تردد المرحوم في النهوض لهذه المهمة، ولا نكص عما هم به من هذا العمل الجليل. ثم
1 / 6
عكف على البحث والتنقيب مفنيًا في التحصيل والتنسيق والجمع والوضع، سنوات طويلة من حياته الدراسية، معتمدًا على المطولات اللغوية القديمة: كلسان العرب، والتاج، ومحكم ابن سيده، وصحاح الجوهري، وجمهرة ابن دريد، ونهاية ابن الأثير، وتهذيب الأزهري، وأساس اللغة للزمخشري، والمصباح المنير للفيومي.
ومضت سنوات طويلة أخرى اقتنص خلالها ما وضعه اللغويون المحدثون، أو صحح بعض ما وضعوه من كلمات مستحدثة للمعاني الجديدة، مضيفًا إليها ما وضعوه هو شخصيًا من الألفاظ، نشرت في أعداد متتابعة مجلة المجمع، ذاكرًا الكلمات العامية التي لها أساس صحيح ثم حرفتها العامة، وما جرى على أسلات أقلام الكتاب والأدباء وعم وشاع. وقد أفرد الكلمات العامية المحرفة في كتاب خصا سماه "رد العامي إلى الفصيح" وطبع في مطبعة العرفان بصيدا.
وفي سنة ١٩٤٧ تمت ملحمته الخالدة. فكان نتاج عمله تتويجًا لجهده المستمر وإخلاصه الذكي. ثم أعاد الكرة يصحح يضبط مرة ومرات كثيرة حتى أصبح المعجم معدًا للطبع والإخراج.
ثم ألحق بمعجمه المطول قاموسين آخرين: الوسيط من متن اللغة، والموجز، تسهيلًا على الطلاب والمبتدئين، في الرجوع إلى مصدر مناسب لهم. وأفرد للكلمات المستحدثة للمعاني الجديدة كتابًا خاصًا سماه "التذكرة في الأسماء المنتخبة للمعاني المستحدثة.".
وكاد المجمع العلمي العربي يباشر طبع المعجم المطول الذي قدمه المؤلف، ﵀، إليه تحت عنوان: متن اللغة، بعد أن أرصد له في ميزانيته مبلغ "٤٢٥٠٠" ليرة سورية سنة ١٩٤٨ وحوله إلى لجنة مؤلفة من الأساتذة: محمد كرد علي رئيسًا، وخليل مردم بك، والأمير سعيد الجزائري، والشيخ عبد القادر المغربي، والدكتور جميل صليبا أعضاء، لولا أن مرضا ألم بالمؤلف فقعد به عن متابعة الاهتمام بالطبع والإخراج، بعد أن فجعه الدهر في الثامن من آذار ١٩٤٨ بولده البكر الدكتور محمد علي رضا، وهو بعد في ميعان الصبا وبوادر الشباب. وبعد إبلاله من مرضه حالت الأحداث السياسية في سوريا العزيزة، وما رافقها من انقلابات عسكرية، دون تحقيق هذه الأمنية؛ فاختفى المجمع واختفت معه مشاريعه، ولم تبق منه غير الذكريات.
وفي السابع من تموز سنة ألف وتسعمائة وثلاث وخمسين لبى داعي ربه، بعد أن ملأ حياته بصالح الأعمال، وزود أمته بتراث لغوي خصب وجهود تطويرية قيمة.
ومرت سنوات قليلة أخرى حالت فيها الظروف المادية دون مباشرة الإخراج والطبع، حتى قيض الله لهذه المهمة أحد المواطنين في الكويت الشقيقة، رجلًا لم يخل حق من حقول الخير في لبنان بخاصة من فيض يده وسماحة نفسه، نمسك هنا عن ذكر اسمه عملًا بمشيئته، والتلميح إليه
1 / 7
كما لا يخفى يغني عن التوضيح، فتبرع بمبلغ عشرة آلاف ليرة لبنانية مؤازرة منه لهذا المشروع الطباعي الضخم. ثم تقدمت دار مكتبة الحياة في بيروت لحمل ما بقي من عبء إنجازه، ثقة منها بعظيم فائدة المعجم والقاموسين وجليل آثارها كلها، في نشر تراثنا اللغوي، وتطويره والتمكين له في نفوس الناشئة والحقول الجامعية.
وقد تألفت لطبع هذه الآثار: متن اللغة، والوسيط، والموجز، لجنة من الأساتذة: الشيخ سليمان الظاهر، الشيخ أحمد عارف الزين، الدكتور عمر فروخ، محمود صفي الدين، الدكتور كمال الحاج، السيد محمد الحسن، محمد جميل بيهم، الدكتور نزار رضا، رمضان لاوند، مصطفى دمشقية، غالب رضا، يحيى الخليل، واضعة ثقتها المطلقة في العناية الإلهية، مطمئنة إلى تشجيع الرأي العام وتأييده، شاكرة للذين يشاركونها من ذوي الرأي والاختصاص في إخراج هذه الأسفار النفيسة، جميل سعيهم وخالص جهودهم، ذاكرة بالثناء العاطر مبادرة كثير من الإخوان المهاجرين في المهاجر الأفريقية والأميركية إلى تشجيعها على تحقيق هذه الخطوات المباركة، وتأييد بعض المسؤولين في حكومات عربية شقيقة، وفي لبنان، راجية أن يجد القارئ والباحث والطالب ما هم في حاجة إليه من هذه الموسوعات المعدة للطبع، والإخراج في أجمل حلة وأصح منهج وطريقة.
والله من وراء القصد ...
1 / 8
ترجمة حياة المؤلف
نشأ المؤلف نشأة أترابه من أبناء مدينة النبطية الصغيرة الواقعة إلى الجنوب من لبنان. وقد ولد في اليوم الرابع من حزيران ١٨٧٢؛ ثم ألحقه والده سنة ١٨٧٨ بكتاب البلدة، فقرأ فيه القرآن وجوده، كما تعلم أصول الخط. وفي سنة ١٨٨٠ رحل الطفل، وهو بعد في الثامنة من عمره، إلى قرية أنصار، لطلب العلم فيها على يد العلامة السيد حسن إبراهيم، فدرس فيها الصرف والنحو. حتى إذا قضى عشرين شهرًا بين يدي أستاذه، استدعاه والده، بعد أن فقد عليًا أكبر أبنائه، ليتسلى به عن همومه. فأخذ الطفل يتردد في بلدته على مدرسة النبطية الرسمية، متعلمًا فيها مبادئ الحساب والجغرافيا، كما راح يختلف إلى مجلس العلامة السيد نور الدين قارئًا عليه شرح الألفية لابن الناظم.
ثم انقطع عن طلب العلم بعد أن توفي والده خلال عام ١٨٨٤. ولم يصل ما انقطع من دراسته حتى هبط إلى بلدته السيد محمد إبراهيم، العالم الذي تميز بالخبرة، والسعة في الأفق، والشمول في المعرفة، فلازمه وقرأ عليه علوم المعاني والبيان والمنطق والطبيعيات، وتأثر بأستاذه تأثرًا بالغًا في شغفه بالعلوم العصرية والدراسات الفلسفية. ولما لم يكن يومئذ مدارس تتيح له فرصة التزيد من هذه العلوم فقد اجتهد وسعه في المطالعة وتثقيف نفسه، وبذل جهدًا شديدًا في اقتناء الكتب معلقًا عليها، شارحًا ما غمض منها، مستعينًا بمن يفوقه في المعرفة والدراية حتى أدى به ذلك إلى قصر البصر.
كان انتشار الجهل يؤلمه، وفقدان المدارس يحز في نفسه. فكأنه، في إكثاره من المطالعة والدراسة، يحاول أن يعوض عن الأمية الشاملة التي أخنت بكلكلها على بلدته. وما كاد يبلغ السابعة عشرة من عمره حتى وضع، مع فريق من إخوانه، حجر الأساس لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في النبطية، مستهدفًا بها تأسيس مدرسة أو أكثر لتسهيل أسباب المعرفة أمام سكان بلدته.، وقد استولى الأتراك على ممتلكات هذه الجمعية وألغوا رخصتها خلال الحرب العالمية الأولى؛ ثم هدمت تلك الممتلكات. ولكنه أعاد الكرة بعد الحرب يؤازره إخوان له، فاستعاد للجمعية قوتها حتى أصبحت لها ممتلكات تقدر قيمتها- اليوم- بمليون ليرة لبنانية.
وفي سنة ١٨٩١ قدم العلامة السيد حسن يوسف مكي إلى النبطية، وافتتح فيها مدرسة
1 / 9
الحميدية التي التحق بها المؤلف الشاب طالبًا ومعلمًا. فكان يلقي دروسًا في النحو والصرف والمنطق والبيان على طلاب الصفوف الأولية، ويتلقى، بدوره من رئيس المدرسة، دروسًا في الفقه وأصوله وعلم الكلام والفقه الاستدلالي. ثم سافر غلى الحجاز لأداء فريضة الحج سنة ١٨٩٣.
حياته السياسية والعلمية
كان، ﵀، دائم التطلع إلى كل جديد، تدفعه رغبة شديدة في تغيير الأوضاع السيئة التي وجد عليها سكان بلدته بصورة خاصة، وأولئك الذين كانوا يعيشون في مختلف القرى والدساكر المحيطة بالبلدة. كل شيء كان يؤلمه: الفقر، والجهل، والتمسك الأعمى بالتقاليد، وسلطان الإقطاع العشائري، وتخلف الناس واستسلامهم للأغلال التي كانوا يرسفون بها فلا يكادون يتحركون. فأقبل على مقاومة هذه العلل ما وسعته المقاومة، مستعينًا بالوسائل التي تهيأت له، رغم اشتغاله بتجارته، فتعاون مع إخوان له في تأسيس محافل أدبية وعلمية، وجمعيات سرية ذات أهداف سياسية لم تلبث أن تهاوت جميعها بسبب طغيان النظام الإقطاعي، وعجز المواطنين عن إدراك حقيقة أهدافه. ولكن محاولاته كانت مسمارًا، بل مسامير دقت في نعش هذا الإقطاع. ثم كرر هذه المحاولات وأعاد النظر في أساليبه، وبقي جاهدًا مناضلًا، رغم تقدم السن به، حتى آخر نفس من أنفاس حياته.
ولما لم يجد في بلدته ما يحقق له خطته بالسرعة التي يريدها، التحق بالحركات التحريرية العربية، واشترك في معترك السياسة العامة. فكان عضوًا مسؤولًا في يبعض الجمعيات السرية التي كانت تسعى إلى تحرير البلاد العربية من نير الحكم العثماني.
واكتشفت السلطات العثمانية الحلقات السرية لهذه الجمعيات أو أكثرها، فكان المؤلف مع رضا بك الصلح وولده رياض وعبد الكريم الخليل وغيرهم من أفراد القافلة الأولى التي قدمها السفاح جمال باشا للمحاكم العرفية في بلدة عالية. ولكن الله سلمه كما سلم المرحومين رضا بك ورياضًا من حبل المشنقة.
ولما لمك يجد ورفاقه، بعد انسحاب الأتراك، ما يحقق لهم "أهدافهم الوطنية" تابعوا نضالهم وقاوموا الانتداب الفرنسي مقاومة شديدة بالغة، واشترك المؤلف في ثورة جبل عامل على الاحتلال الفرنسي سنة ١٩٢٠، فنكل به وأبعد عن بلده، كجزء من خطة وضعها الاستعمار الفرنسي للقضاء على القائلين بالأمة العربية الواحدة ذات السيادة الكاملة التامة.
وقد مثل بلاده في عدة مؤتمرات سياسية وأدبية، منها: مؤتمر الوحدة السورية، ومؤتمر الساحل، ومؤتمر بلودان، ثم المؤتمر الإسلامي العام في القدس، وانتخب عضوًا فخريًا بلجنة دار الكتب في المسجد الأقصى، وأخيرًا مؤتمر بيت مري الثقافي الذي عقدته جامعة الدول العربية.
1 / 10
وفي اليوم الثامن عشر من شهر تشرين الأول سنة ١٩٢٠ قرر المجمع العلمي العربي بدمشق انتخاب صاحب الترجمة عضوًا في المجمع. وكتب إليه ما نصه: "كتابي إليكم والمجمع في جلسته الثمانين المنعقدة لاثني عشر يومًا خلت من شهر تشرين الأول سنة عشرين وتسعمائة وألف قد قرر انتخابكم عضو شرف لما يعهد فيكم من الكتابة في العلم والتمكن من آداب اللغة العربية التي نعدكم من فرسانها، لما قمتم به من الخدمات الجلي بلسانها، ولذلك يرجو مجمعنا هاذ، الصغير بأعماله اليوم، الكبير بآماله، أن يصل بكم حبله ويشد بمعاضدتكم عضده، وينير بنبراس أبحاثكم سبله، عسى أن يبلغ أمله وأمده ... الخ".
وفي سنة ١٩٣٠ م (١٣٤٩ هـ) انتدبه المجمع العلمي العربي بدمشق لتأليف معجم يجمع فيه متن اللغة باختصار مفيد، ويضم إليه ما وضعه مجمعًا دمشق ومصر من الكلمات المنتخبة للمعاني المستحدثة، وما دخل في الاستعمال وطرأ على اللغة زمن العباسيين والأيوبيين ومن بعدهم. فتم له ذلك كله بعد جهد ونصب داما نحو ثماني عشرة سنة.
وخلاصة القول أنه كان للمؤلف أثر بارز، وكانت له مشاركات واسعة في مختلف وجوه النشاط السياسي والثقافي والاجتماعي، يملأ وقته كله بالتفكير والكتابة، فهو مناضل سياسي، وهو مؤلف وكاتب. نشر مئات المقالات في مختلف المجلات والجرائد، وعند صداقات واسعة صحيحة مع رجال العلم والأدب والسياسة، فكانت له في القلوب منزلة الراعي الأديب والعالم الثقة.
مؤلفاته
طبع منها:
رسالة الخط، هداية المتعلمين، الدروس الفقهية، رد العامي إلى الفصيح.
قيد الطبع:
معجم متن اللغة.
المخطوطة:
معجم الوسيط، المعجم الموجز، التذكرة في الأسماء المنتخبة للمعاني المستحدثة. كتاب الوافي بالكفاية والعمدة.
أما مقالاته اللغوية والعلمية والأدبية والسياسية والتاريخية وقصائده الشعرية، فما تزال متفرقة في بطون المجلات والجرائد من مثل مجلة المقتطف بمصر، ومجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجلة الكلية، ومجلة المقتبس، ومجلة العرفان بصيدا، وجريدة جبل عامل بالنبطية وغيرها.
1 / 11
وفاته:
فجع المؤلف سنة ١٩٤٨ بوفاة أكبر أبنائه وأقربهم إليه، الدكتور محمد علي رضا، وهو في شرخ شبابه وميعة صباه، فأصابه من هذه الكارثة شر كثير طرحه في فراش المرض سنتين ونيفًا صور خلالها آلامه في قصائد شعرية مختلفة. وفي ليلة السابع من تموز ١٩٥٣ لبى داعي ربه بعد حياة حافلة بالنشاط المستمر والتضحيات الجلى.
لقد كان ﵀ رائد نهضة، ومعلم جيل، ومدماكًا من مداميك التقدمية في جبل عامل، مسقط رأسه، وملعب طفولته.
اللجنة.
1 / 12
مقدمة المؤلف
(مولد اللغة) (١)
نشأة اللغات وطوائفها
اللغة "فعلة" بضم الفاء؛ قال الجوهري: أصلها لغي أو لغو، والهاء عوض. وزاد أبو البقاء: ومصدره اللغو وهو الطرح، فالكلام لكثرة الحاجة إليه يرمى به، وحذفت الواو تخفيفًا. جمعه لغات، ولغون، ولغى، والفعل لغا يلغو لغوًا إذا تكلم؛ أو من لغي به لغًا "كرضي" إذا لهج به.
وقال الراغب: لغي بكذا إذا لهج به، ولهج العصفور بلغاه أي بصوته. ومنه قيل للكلام الذي يله جبه فرقة فرقة: لغة.
وفي المصباح: لغي بالأمر يلغى، من باب "تعب": لهج به. وفي الأساس: "لغوت بكذا: لفظت به وتكلمت. وإذا أردت أن تسمع من الأعراب فاستلغهم واستنطقهم. ومنه اللغة." وجاء في لسان العرب: "اللغة اللسن، وحدها أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهي "فعلة" من لغوت أي تكلمت."
الحاجة إلى اللغة
الإنسان أرقى أنواع الحيوان وأوسعها إدراكًا. وبسعة إدراكه كثرت حاجاته كثرة لا يستطيع معها الاستقلال بها وحده. فاحتاج إلى التعاون مع بني نوعه. لكن هذا التعاون يحتاج إلى تفاهم، وإلى أن يعرف كل من المتعاونين ما عند الآخر، وإلا تعذر العمل. فهو بذلك محتاج إلى واسطة للتفاهم، وقد منحه الله قوة النطق. وهو أخصر طريق للإفهام وأوفاه بالمراد، فلم لا يكون به وفاء الحاجة؟
_________
(١) ألحقت هذه المقدمة الطويلة بالمعجم لأنها تمثل القواعد النظرية التي صدر عنها المؤلف ﵀ في إخراج معجمه. وهي تساعد الباحث على تتبع خطواته في مختلف مراحل تأليفه- اللجنة.
1 / 13
كيف تكلم الإنسان؟
قلنا: إن الإنسان باتساع إدراكه احتاج إلى التعاون، فاحتاج من ثم إلى اللغة؛ ولا ريب في أن اتساع المدارك كان يتدرج بتدرج النمو فيها، فيكون احتياج اللغة بطريق التدرج أيضًا. وبعد أن كان التفاهم بالإشارات ثم بالمقاطع الصوتية القليلة، أصبح بمقاطع أكثر لحاجات أكثر؛ وهكذا إلى أن نمت اللغة بنمو الإدراك وتكاثر الحاجة، وكيفت المقاطع حروفًا أمكن حصرها، فكان منها اللغة.
هل أم اللغات واحدة؟
إذا ساغ لنا أن نسمي ما تفاهم به الإنسان الأول من المقاطع البسيطة والألفاظ القليلة لغة، صح لنا أن نقول: إن أم اللغات واحدة كما اتفق عليه الجمهور. وهذا القول مبني على وحدة أصل النوع، ثم تفرعت اللغات بتفرق الناس واختلاف أحوالهم، وبنسبة التغير والتبدل الطارئ مع تشتت الحال والديار.
كانت اللغة التي نسميها أم اللغات بسيطة جدًا، خاضعة كثيرًا لسنة التغيير والتبديل والتحريف والاستنباط الجديد، مع اختلاف العادات والمعايش وسائر الأحوال.
وربما أنكر السامع بادئ ذي بدء، ولأول وهلة، أن اللغة الصينية هي أخت اللغة العربية، أي أنها أمهما الأولى واحدة وأنهما من أصل واحد، مع ما بينهما من الفروق الكثيرة والبون الشاسع الذي يستبعد معه العقل أن يسلم باتحاد الأصل. ولكن التوغل في قدم افتراق الألسن، وشدة تأثير الزمان والمكان في تكييف اللغة- ولاسيما في لغة ليست بذات أصول وقواعد تمسكها عن التهور في التغيير والتبديل- كل ذلك يجعل الاختلاف في بنات الأصل الواحد إلى هذا الحد، غير مستحيل عادة.
وقد أثبت الماجور "كوندر (١) " في مقال قرأه في جمعية فيكتوريا الفلسفية، أن الأصول في اللغات الآرية والسامية والمغولية، وفي اللغتين القديمتين الأكدية والمصرية، كلها متشابهة، تدل على أصل واحد، وأتى بأربعة آلاف كلمة من هذه اللغات لإظهار المشابهة.
من هو واضع اللغة الأولى؟
ترى الطفل أول ما يلغى ويتحرك لسانه بالكلام يكون ذلك منه بالحروف السهلة على النطق، فإذا أدرك الأشياء أخذ يطلق عليها من هذه الحروف ما لا يخلو من مناسبة مع اسمها الموضوع لها في اللغة التي فتق عليها سمعه، فإذا اتسع إدراكه وانطلق لسانه بالحروف الأخرى،
_________
(١) المقطف م: ١٧ ص: ٥٦٤.
1 / 14
قلد من هم حواليه بما يسمعه منهم من إطلاق الألفاظ على معانيها، وهو في ذلك ينتقل في كلامه من لغو الأطفال، إلى لثغة الوليد، إلى تمرين الصبي، ثم إلى بهجة العشيرة، فتهذيب المدرسة. وهكذا تلقن اللغة. ولا أحسب أن في هذا جدالًا يعتد به، ولو فرض وجوده فهو بلا ثمرة، وإنما الكلام في الأصل الذي نشأت منه هذه الألفاظ التي فتق عليها سمع الصبي حتى أصبحت لغة يأخذها الوليد بالتقليد. وقد ذهب علماء اللغات قديمًا وحديثًا في أصل الوضع مذاهب ستى، فقال بعضهم بالوحي والإلهام.
اللغة من وحي الله وإلهامه:
قالوا: إن اللغة تعليم من الله علمه آدم/ وفسروا الآية: "وعلم آدم الأسماء كلها" بأنها هذه الأسماء التي يتعارفها الناس. رووا ذلك عن ابن عباس، وزادوا فقالوا: إن الأسماء التي تعلمها آدم هي أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها إلى أن تفرق ولده في الدنيا. وعلق كل فريق بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهده بها. وأراد بالأسماء هنا اللغة كلها: أسماءها وأفعالها وحروفها على التغليب، لأن الأسماء ركن في الكلام لا يمكن خلو جملة من جمله عنها، فصح، والحال هذه، إطلاقها عليها بخلاف الفعل إذ يجوز خلو الجمل عنه.
وعلى هذا المذهب تكون اللغة محصورة في ما علمه الله آدم من اللغات، فلا تغيير ولا تبديل فيها، بل هي على ما تكلم به أبو البشر بلا تحريف آخر الدهر. وهذا معنى قولهم: إن اللغات توقيفية لا تتعدى اورد.
والظاهر أن ناموس التغير والتبدل لم يخطر لأصحاب هذا المذهب ببال. فحسبوا أن اللغة باقية على وضعها الأول الذي تعلمه آدم في كل لغة من اللغات، وانتقلت متوزعة بين أبنائه كما كان ألقاها هو.
مذهب ابن فارس:
وقال أبو الحسين أحمد بن فارس، في كتابه "فقه اللغة" المعروف بالصاحبي: "والدليل على صحة ما نذهب إليه من التوقيف، إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأسعارهم. ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحًا، لم يكن أولئك بالاحتجاج بأولى منا لو اصطلحنا على لغة، اليوم، ولا فرق. ولعل ظانًا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيفية إنما جاءت جملة واحدة، وفي زمن واحد، وليس الأمر كذلك، بل وقف الله آدم، ﵇، على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله،
1 / 15
ثم علم بعد آدم من عرب الأنبياء، صلوات الله عليهم، نبيًا نبيًا، ما شاء أني علمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد، ﵌، فآتاه الله ﷿ من ذلك ما لم يؤته أحدًا قبله، تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قر الأمر قراره فلم نعلم لغة بعده حدثت. أهـ".
ثم قال: "وقد كان في الصحابة، رضوان الله عليهم، وهم البلغاء الفصحاء، من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به، وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم. ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلا بانقضائه، ولا تزول إلا بزواله، وفي ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من هذا الباب. أهـ".
الرد على هذا المذهب:
يظهر أن أبا الحسين بن فارس يخص بحثه باللغة العربية فيقول: إنها جاءت بالوحي والإلهام إلى الأنبياء من أبناء العرب، من آدم إلى خاتم الأنبياء، صلعم، وإنها كانت تأتي على قدر الحاجة من طريقهم فقط. ولكنها تثبت كما أتت زكما نصوا عليه. ويقول بنفي المواضعة والاصطلاح، ثم أورد دلليه على ذلك.
أما حصر بحثه في اللغة العربية فلأنها مدار البحث في كتابه. وأما الوحي والإلهام، وأنه كان يأتي على قدر الحاجة فلا نعرف له دليلًا مما جاء به على صحته. ولم نجد في تعاليم نبي من الأنبياء مما وصل إلينا منها ما يدل على شيء من ذلك، فهي إذًا دعوى بلا دليل.
والدعاوى، ما لم تقيموا عليها ... بينات، أبناؤها أدعياء
وأما نفيه المواضعة والاصطلاح فله رأيه، وكثير غيره نفوه، ولكن ما أورده من الدليل لا ينهض بالمراد، وليس فيه قوة ولا شبه قوة تؤيد إنكاره هذا لها.
وما كان إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم ليمنع من كونها مواضعة واصطلاحًا، بل يصح لنا الاحتجاج بكلامهم على هذا التقدير كما نحتج في أصل أو قاعدة من أصول العلم وقواعده بكلام الأئمة في ذلك العلم. فكذا يصح لنا الاحتجاج هناك مع كونه اصطلاحًا عليه، يصح لنا الاحتجاج هنا مع كونها كذلك لا فرق. وكما لا يصح لنا أن نجعل موضوعات وأصولًا جديدة في أصول العلم المصطلح عليها لشلا تقع الفوضى في الوضع، كذلك لا يصح لنا وضع أسماء لما وضعوا له، ليكون لنا مثل حالهم من حق الاحتجاج بكلامهم.
ثم إننا اصطلحنا على لغة اليوم، كما قال ابن فارس، فهل يكون اصطلاحنا هذا هو من تلك اللغة؟ - والمفروض أنه مغاير لاصطلاحهم - أو هو إحداث لغة جديدة؟
1 / 16
لا حاجة إلى القول، بأن ما نصطلح عليه هو غير تلك اللغة المصطلح عليها قبلنا، والتي نريد الاحتجاج لها كما هو المفروض؛ لأن اصطلاحنا الجديد إن لم يكن غير المصطلح القديم، كان نفسه أو مماثلًا له، فيكون اصطلاحنا على هذا تحصيلًا للحاصل ولا فائدة منه. فكيف لا يكونون أولى منا؟ وأين مكان الأولوية لوضعنا الجديد؟ ولو صح لكل متكلم أن يقول: أنا اصطلحت وأنا وضعت، لكانت الفوضى بعينها، وهل الفوضى غير ذلك؟
أما إحداث الألفاظ الجديدة، فإن كان لمعان جديدة طارئة على اللغة لم تكن قبل، فهو صحيح لا غبار عليه، ولا يجوز أن يكون مثله محظورًا. والمعاني تتجدد على مرور الزمن بتجدد حوادث العالم، وابن فارس نفسه يقول: "إن حوادث العالم لا تنقضي إلا بانقضائه ولا تزول إلا بزواله.".
وإن كان إحداثها لمعان ليست طارئة بل لها مسميات في اللغة وأسماء، فإن كان لزيادة في المعنى أو نقصان، أو لنكتة سائغة أو لمقتضيات أخر فلا بأس، ولا يعارض ذلك الوضع القديم؛ وإن كان ليس لشيء من ذلك بل لشهوة الوضع وحب التفنن فيه وإظهار الحذق، فهو لزوم ما لا يلزم، وهو غير مرغوب فيه بل هو مما يرغب عنه.
اللغة مواضعة واصطلاح:
قال ابن جني في الخصائص: "إن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف. وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا يحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات فيضعون لكل سمة لفظًا إذا ذكر عرف به مسماه.". ثم قال: "ولابد لأولها من أن يكون تواضعًا بالمشاهدة والإيماء.".
الظاهر أن هذا القول كسابقه لا يعترف بتطور اللغة، والظاهر أيضًا، أن القائلين به يريدون أصل كل اللغات بدليل قول ابن جني: "ولابد لأولها من أن يكون تواضعًا بالمشاهدة والإيماء" وإن الحكماء يجمعونه ليضعوا بطريق المشاهدة والإيماء أسماء لمسميات. فهؤلاء الحكماء، إما أن يكونوا ليسوا بذوي لغة أصلًا كما هو الظاهر، فلا أعلم، بل لا أتصور كيف يفي الإماء بحاجاتهم في مثل اجتماعهم هذا، المنعقد لوضع ألفاظ ثابتة على الدهر، للغة لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحرف، وهم ليسوا بأصحاب لغة؛ ولا كيف كانوا حكماء واضعين وليس لهم لغة تصل بهم إلى الحكمة ليكونوا فيها بهذه المرتبة التي لا يبلغها أحد بغير التعلم. والعلم ينحصر بالفهم الذي لا يكاد يتم على الوجه الأوفى أو الوافي على الأقل بغير مطارحة الكلام المتوقفة على معرفة اللغة. وإما أن يكون هؤلاء الحكماء أولي لغة سابقة واجتمعوا لإحداث لغة جديدة، فلا إخال أن الباحثين عن أصل
1 / 17
اللغات يريدونه. ثم لا أعلم ما الفائدة لقوم أولي صالحة للتفاهم، يجتمعون لإحداث لغة جديدة على لغتهم، إلا إذا كانوا يريدون تهذيب اللغة والتوسع فيها بوضع ألفاظ لمعان طارئة بحوادث الزمن كما تفعل المجامع اللغوية اليوم. فهم إذًا على هذا ليسوا بواضعين، وإنما هم مهذبون، وهو غير مراد في هذا البحث.
اللغة أصوات طبيعية عامة:
قال ابن جني: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو الأصوات المسموعة كحنين الريح، ودوي الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونغيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات من ذلك فيما بعد". قال: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب مقتبل.".
أو ليس بغريب أن نسمع من مثل ابن جني هذا القول، المبني على إعمالا الفكر المجرد دون تقيد بتقاليد سابقة، فكان في ذلك على غير سنن الكثير من علماء عصره؟ وإنه لم يرض أن يكون القول بالإلهام والوحي قولًا برأسه، بل صرفه بالتأويل المقبول إلى غير ما حملوه عليه فقال: "إن أبا علي قال لي يومًا: هي من عند الله، واحتج بقوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها." وهذا لا يتناول موضع الخلاف لأنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله لا محالة، فإذا كان ذلك غير مستنكر سقط الاستدلال."
وهذا لمذهب قال به جماعة من المتأخرين مثل "آدم سميث" و"دوكلد ستيورت" ونقل عنهم: أن الإنسان كان يعبر عما في ضميره بالإشارات والحركات حتى تكاثرت، فجعل يحكي الأصوات التي يسمعها، فكان إذا أراد أن يشير إلى الغراب قال: غاق، ولما وجد حكاية الأصوات هذه تفي بالمقصود اعتمد عليها فحصلت منها أصوات اللغة؛ ثم طرأ عليها التركيب والنحت والحذف والتغيير وما شاكل، فتألفت سائر ألفاظ عن كل خاطر يخطر في النفس (١).
مذهب ابن جني:
لكن ابن جني لم يمض في الجزم بترجيحه هذا الرأي على غيره، بل تردد فقال: "واعلم أنني، على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضوع، فأجد الدواعي والخوالج قائمة التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك لأنني تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، فوجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاب والرقة ما ملك على جانب الفكر، فعرضت
_________
(١) المقطف: م ٦ ص: ٩٩.
1 / 18
صحة ما وفقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توفيقًا من الله سبحانه وأنها وحي. ثم أقول في ضد هذا أنه كما وقع لأصحابها ولنا، وتنبهوا وتنبهنا على تأمل الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك، لا ننكر أن يكون الله قد خلق قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانًا وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا .... فأقف بين الخلتين حسيرًا وأكاثرهما فانكفئ مكثورًا. وإن خطر خاطر بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به."
اللغة من الأصوات الطبيعية للإنسان:
وقالوا في نفي القول المتقدم وإثبات ما يريدون: إن الإنسان الذي هو أرقى الحيوانات أجدر أن لا يقلد العجماوات، مع أن له أصواتًا خاصة طبيعية تعرض له عند تقلب حالاته، فله العويل في البكاء، والقهقهة في الفرح، وآخ في الألم، وآه عند التوجع، وأوه عند التضجر، وأشباه ذلك، أفلا تكون هذه الأصوات الطبيعية أصل اللغات؟
- ما قيل في هذين القولين:
وقيل فيهما: إنه لو كانت اللغات مشتقة من هذا أو ذاك، لكان الشبه بين الأصوات والمسميات حاصلًا، مع أن التباين واضح بحيث يعسر رد أحدهما إلى الآخر. وأي مناسبة بين نزيب الظبي واسمه، وبين عواء الكلب واسمه، وبين "آخ" الصادر عن الألم وكلمة ألم الموضوعة له. وقد علم أنه بزيادة تحليل الألفاظ وتجريد الأصول، يقل عدد الكلمات المحكية حتى لا يبقى ريب في أن الأصول ليست منها.
رد مكس مللر على المذهبين:
ورد مكس مللر على المذهبين: "بأن حكاية الأصوات إن استعملها المتكلم عندما تعوزه الحاجة إلى الكلام، إنما يريد بها جزئيًا مشخصًا، لأنها تحل محل الإشارة التي تتخصص بالدلالة على الجزئي دون الكلي. فإذا قلد الهر بالمواء وهو يريد الإشارة إلى هر خاص، فهو إنما يريد هذا الجزئي، ثم أطلقه على كل هر لعدم الفارق عنده بين هذا الجزئي وكليه. ولكن الصحيح أن الإنسان وضع الألفاظ للدلالة على الصور الكلية ثم طبقها على الجزئيات."
اللغة صوت طبيعي لقوة في الدماغ:
ثم قال مكس ملللر: "إن لكل جسم من الأجسام صوتًا خاصًا به إذا قرع ظهر هذا الصوت متميزًا عن غيره. فللذهب مثلًا رنة غير رنة الفضة، وهكذا الحديد والخزف والخشب،
1 / 19
فلكل منها غير ما لصاحبه. وفي الإنسان قوة من شأنها التعبير عما في ضميره بكلمات ملفوظ فكان الفكر أول ما يجول في دماغه، كأنه يقرع تلك القوة فتصوت بألفاظ يفهم الفكر منها، وهذه الألفاظ هي أصول اللغة، ثم تقلبت عليها أطوار التعبير والتركيب فتألفت مفردات اللغة. ولما تم الاستنباط درج عليها الاستعمال ولم يبق لهذه القوة من حاجة، فأهملت وتضعضعت ولم تعد تحس، كما يضعف البصر والسمع لقلة الاستعمال."
في هذا الرأي نظر، وذلك لأن خلاصة ما فهمته من هذا المذهب أمران:
الأول: قرع الفكر عند جولانه لتلك القوة، وأنه صوت طبيعي لها كرنة الذهب إذا قرع. فالصوت لازم طبعًا لهذه القوة عند جولان الفكر، ويفهم الفكر من هذا الصوت، وهذه هي أصول اللغة.
الثاني: أنه بعد أن تم استنباط الأصول من هذا الصوت الطبيعي قل قرع الفكر لهذه القوة، فأهمت فلم تعد تحس لقلة الاستعمال، وإذا كان هذا الصوت نتيجة طبيعية لجولان الفكر كان غير اختياري، لأن ما يكون بالطبع لا مجال فيه للاختيار.
لكنا لا نعلم كيف يحصل الإهمال للقوة حتى يقل قرع الفكر لها، مع أن الفكر في الإنسان لا يسكن في نوم ولا يقظة، فهو دائم الجولان فيكون دائم القرع. وهذا حكم اللازم الطبيعي وإلا لم يكن لازمًا، فتكون هذه الأصوات دائمة ما دام القرع، لأن علة لها، فتكون دائمة ما دام الفكر. والفكر دائم، فهي دائمة. فمن أين أتى هذا الإهمال؟
نعم إن استنباط الألفاظ الأصول يقلل المبالاة بالأصوات المذكورة، ولكنه لا يضعفها لأنه نتيجة طبيعية للفكر. والفكر مستعمل دائمًا فكيف يتأتى الإهمال فالضعف؟ فإذا هي غير مهملة فلا تضعف فلا تفقد. ولكن الواقع المحسوس به أنها مفقودة ولا دليل على وجودها سوى: الحدس والافتراض، وهما غير الحس والوجود، فلا يرويان غلة ولا يؤيدان دعوى.
خير ما يقال في أصل اللغة:
وهو الذي يمكن أن يستقر عليه الرأي من تلك الأقوال ومن القياس على الأشباه والنظائر. إن اللغة نشأت متدرجة من إيماء وإشارات إلى مقاطع صوتية على أبسط ما تكون، وفيها تقليد وحكايات للأصوات الطارئة على سمع الإنسان، طبيعية كانت أو غير طبيعية، مختلفة باختلاف المناسبات الطبيعية أو المرتجلة من القوة والضعف، والقرب والبعد. وكان للبيئة والزمان والأحوال
1 / 20
العارضة تأثيرها الفعال، فكان التشتت والتشعب. وازداد بطول المدة، وبعد الاتصال بين الفروع والأصول، حتى ضعفت دلائل الاتصال وازدادت ضعفًا على تطاول العهد.
ونستدل على ذلك:
أولًا: إننا نجد الطفل قبل أن يفهم اللغة يحاول إطلاق الأسماء للدلالة على مسمياتها ولا علم له بما وضع لها من الأسماء، فيسميها بالمقاطع المشابهة لأصواتها كما يطلق على البقر اسم "النع" وعلى الجمل اسم "الهب" وعلى الكلب اسم "العو" أو "التوتو" "من الصوت الذي يدعى به -تي تي-" وعلى المعزى "المآء" - "بالمد" - وعلى ما يخفيه من غول ونحوه "الهم" وما هي إلا أشباه أصوات هذه المسميات.
فلم لا نقول في الإنسان أول عهده بالكلام مثل هذا أو ما يقرب منه؟
ثانيًا: إذا أغلق على المستدل باب الدليل الحسي في أمر يريد الاستدلال به، صح له المصير إلى التمثيل والقياس بالاشتباه والنظائر. وهذا الرأي يجري فيه قياس التمثيل بتطور الكتابة التي هي اقرب شيء إلى التكلم من حيث الغاية. وقد دلت الآثار لدلالة يحس بها على تطورها فتقول:
أثبت الباحثون ودلت الآثار على أن الكتابة بدأت بتصوير الوقائع ثم اتسعت الحال وكثرت الحاجة إلى الكتابة، فأصبح تصوير الوقائع أمراض عسيرًا لا يفي بالحاجة، فصنفت المقاطع الصوتية وكانت حروفًا تتدرج مخارجها من أقصى الحلق غلى الشفتين، وجعل لكل حرف صورة، فبعد أن كانت تصور صورة الجمل للدلالة على معناهـ، أصبحت الصورة رمزًا لمقطع الجيم الذي هو أول حروفه، ثم اتسعت الحاجة فاختصرت رسوم الكتابة، وأبحتن صورة رأس الجمل للدلالة على مقطع الجيم، ثم تقدمت الكتابة واتسعت صورها، واختلف باختلاف الزمان والمكان وتصاريف الأحوال، فتغيرت عن وضعها، وتباينت صورها باختلاف الشعوب وتفرقها واختلاف عاداتها. فكما أثبت الباحثون في الكتابة، نقول في اللغة أيضًا: إنها بدأت طبيعية بحكاية الأصوات، للدلالة على ما تصدر منه مما له صوت مثل: قط للقطع، وهف لهبوب الريح، والصهيل والنهيق والأطيط .. أو بحكاية ما يناسبها، مما ليس بله صوت ... أو بإحداث مقاطع صوتية مرتجلة، من غير تعمل، - قالها بعض فتبعه آخرون سمعوه، فشاعت فاستقرت.
ثم إنه كان للإنسان أصوات تدل على حالات النفس: فللجوع والعطش وللنجدة وللحرب وللسرور وللحزن ولغيرها مقاطع أو أصوات شبه المقاطع تدل عليها، فأشبه هذا تصوير الوقائع في الكتابة أي انه كان على البساطة الفطرية.
ثم اتسعت الحال باتساع الحاجة، فاحتاج الإنسان، مع اتساع تمدنه، إلى زيادة في التفاهم مع
1 / 21
إخوانه ومعاشريه. ولكن هذه المقاطع التي صيغت له على البساطة الفطرية لا تقوم بالحاجة ولا تفي بالغرض، فعمد إلى التوسع؛ فربما تركب المعنى أمامه، فركب المقاطع الدالة على جزأيه تركيبًا مزجيًا، ثم شذ بها بالنحت، فخرجت كلمة جديدة، كما قالوا في "أجنك فعلت" أي من أجل أنك فعلت. وقالوا: "برقل برقلة، بمعنى: كذب." - قال الخليل: إنه من قولهم: برق لا مطر معه -وقالوا: "حبرم: أي اتخذ حب الرمان." وكما في: بسمل، وحوقل، وجعفل، وطلبق، وكثير أمثال ذلك؛ فأشبه هذا الانتقال في الكتابة من دلالة الصور على الوقائع إلى جعلها رمزًا لمقطع حرفي.
وربما عر ض للإنسان معنى يقرب من بعض المعاني التي لها مقاطع صوتية، فدل عليها بما يقرب من ذلك المقطع مع شيء من تحريف أو تبديل كما في: "درأ وطلع" أو تقديم وتأخير كما في: "جذب وجبذ"؛ وربما أطلق الكلمة على غير معناها لمناسبة أو شبه مناسبة أو لأدنى ملابسة، ثم يشيع هذا الإطلاق فيصبح وضعًا مستقلًا. وحيث أنهم لم يشترطوا في أصل الوضع قوة المناسبة، وقرب المعنى من اللفظ، اتسع نطاق إطلاق الألفاظ على المعاني بادئ بدء، فاتسعت اللغة واختلف الزمان والمكان، وطال المدى، وتعددتا الشعوب، فاختلفت جهات الاستعمال: فكانت اللغات القريبة التناسب والبعيدة فيه، كما كان ذلك في الكتابة وتنوعها.
التسامح في رعاية المناسبة عند الوضع:
أما أن إطلاق اللفظ على المعنى أول وضعه وكونه يصح لأقل مناسبة، فلا أحسب أحدًا يسلم به.، وما أشبه الإنسان الأول - وقد احتاج إلى ألفاظ لمعان يريدها ثم لم يجدها، فتناول ما تيسرت له معرفته، وإن كانت فيه نفحة من الملابسة - ما أشبهه بالطفل الذي يرى الأشياء أمامه ولا يعرف أسماءها، فيختار لها من مخزون ذهنه الصغير اللفظ الذي ينطلق به لسانه، فيطلقه عليه. وقد رأيت بعض الأطفال الصغار لأول عهده بالكلام يسمي العصا "توتو" لأنه أول ما رآها مضروبًا بها الكلب، فكان هذا الاسم مخزونًا في ذهنه فأطلقه على العصا لأنه رآها وهو يضرب بها.
وأذكر مما كنت قرأته أن بضع القبائل البادية، كانت تدل على الكلب بسحب السبابة والوسطى من الأصابع على الأرض منفرجتين، لأنهم كانوا وقت ارتحالهم يلقون عمد البيوت على أعناق الكلاب مقرونة عمودين عمودين، فتجرها هذه إلى حيث ينزلون. وإذا راجعت كتب اللغة تجد ما يدلك على التوسع في إطلاق الكلمات على المعاني المتقاربة وغيرها لأقل ملابسة.
فقد جاء في اللغة، كما في المصباح: عقره عقرًا "من باب ضرب": جرحه. وعقر البعير بالسيف عقرًا: ضرب قوائمه (ولا يطلق العقر في غير القوائم). وقال أبو زيد في نوادره:
1 / 22