ولم يزل في سقطته تلك حتى مر به بعض السابلة، وكان قد رآه عند حضوره فعرفه، فآذن به سائق عجلته فهرع إليه الحوذي وأخذ بيده حتى أركبه العجلة ثم ذهب به إلى منزله.
فما انفرد بنفسه في غرفته حتى أخذ يصيح صياح المجانين ويضرب رأسه بالجدران وهو يقول: «آه، لقد فقدتك يا ماجدولين!» (63) من استيفن إلى ماجدولين
أصحيح يا ماجدولين أن ما كان بيننا قد انقضى؟! وأننا أصبحنا متناكرين غير متعارفين، لا يذكر الواحد منا صاحبه إلا كما يذكر حلما من أحلام صباه قد عفت آثاره الأيام والأعوام؟
أصحيح أننا إذا التقينا بعد اليوم في طريق واحد مضى كل منا في سبيله دون أن يلوي على صاحبه؟ أو في مجتمع لا يكون بيننا من الشأن إلا كما يكون بين سائر رجال ذلك المجتمع ونسائه؟ أو في خلوة لا نجد ما نتحدث به أو لا نتحدث إلا بحديث الأجواء والأمطار؟
ما أسرع تقلبات الأيام! وما أغرب تصاريفها وشئونها! أفيم بين يوم وليلة تنهدم جميع الآمال الجسام التي بنيناها وأحكمنا بناءها وبذلنا في سبيلها همومنا وآلامنا، وأرقنا من أجلها كل ما نملك من دموع وشئون، وتصبح أثرا من الآثار الدارسة التي يتحدث عنها التاريخ الحاضر كما يتحدث عن التاريخ الغابر؟!
هكذا تقوم الساعة، وهكذا ترجف الراجفة، وهكذا تنتثر الكواكب في الفضاء، وتطوى السماء طي السجل للكتاب.
لقد كنت أحسب يا ماجدلوين ألا يتولى ذلك الأمر منا غير الموت، أما وقد توليناه من أنفسنا بأنفسنا ونسجنا خيوطه بأيدينا ونحن أحياء، فتلك أعجوبة الدهر التي لم ير مثلها راء، ولا سمع بمثل حدثيها سامع!
ماذا أنكرت مني يا ماجدولين؟ وماذا دهاني عندك؟
لقد أحببتك حبا لم يحبه أحد من قبلي أحدا، وأخلصت لك إخلاصا لا يضمر مثله أخ لأخيه، ولا والد لولده، وأجللتك إجلال العابد لمعبوده، فما خنتك في سر ولا جهر، ولا كذبتك في قول ولا عمل، وملأت فراغ حياتي كله بك، فلا أنظر إلا إليك، ولا أشعر إلا بك، ولا أحلم إلا بطيفك، ولا أطرب لرؤية الشمس ساعة شروقها إلا لأني أسمع فيها نغمة حديثك، ولا لمنظر الأزهار الضاحكة في أكمامها إلا لأنها تمثل لي ألوان جمالك، ولا تمنيت لنفسي سعادة في هذه الحياة إلا من أجل سعادتك، ولا آثرت البقاء فيها إلا لأعيش بجانبك، وأستمتع برؤيتك.
إن كنت ترين أني لا أستحق محبتك، وأني أصغر شأنا من أن أملأ فراغ قلبك، فأحبي في حبي إياك، وإخلاصي لك، واجزيني خيرا بما بذلت لك في حياتي من دموع والآم، وشجون وأحزان، واعلمي أنك إن استطعت أن تجدي بين الرجال من يرضيك بجماله أو ماله، أو حسبه أو جاهه، فإنك لا تستطيعين أن تجدي فيهم من يحبك محبتي، أو يخلص لك إخلاصي.
Неизвестная страница