Платоновский стол: Разговоры о любви
مائدة أفلاطون: كلام في الحب
Жанры
قضت الفلسفة اليونانية اثني عشر قرنا متمتعة بالعقل الإنساني، وقضى العقل هذا الحين من الدهر متمتعا بالحرية، ولم يجرؤ أحد على إلحاق الأذى بالعقل بتقييده، ولم يجرؤ أحد على إرغام العقل على القول بآراء لا يؤمن بها.
ولكن بعد اثني عشر قرنا من الحرية العقلية جرؤ جوستنيان الروماني على مصادرة مدارس أثينا مهد الحكمة، ومصدر النور للإنسانية باسم الدين، ولعمري إن الحكمة بريئة من العداء والدين كذلك بريء من الاضطهاد، وإن لكل منهما طريقا يسلكها، ودربا يسير عليه، ولكن القائمين بالاثنين معا هم الذين فقدوا ميزان الاعتدال، فخلطوا بينهما باسم التوفيق، وألحقوا الأذى بهما باسم الحق، وما كانوا يعملون إلا باطلا.
أرسطوطاليس أعمق فلاسفة اليونان وأبعدهم غورا. قال شيشرون إن طالب حكمة أرسطو محتاج إلى بذل مجهود عقلي عظيم ليستطيع إدراك خفاياها، ولا غرابة إذا رأينا فلاسفة العرب أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد يقضون أعمارهم في تفهم تلك الحكمة الأرسطية وتفهيمها، على أن أعمارهم وجهودهم لم تذهب سدى؛ فقد صاروا بفضل هذا الفهم والتفهيم فلاسفة مع أنهم لم يعملوا أكثر من أنهم شرحوا بعض كتب أرسطو شروحا وجيزة ومتوسطة ومسهبة، وأخطأ بعضهم إذ حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، ولست أدري لماذا كان ميل حكماء العرب للتوفيق شديدا، وقد حداهم مرارا إلى الوقوع في الخطأ؛ فقد ألف الفارابي رسالة في التوفيق بين الحكيمين أرسطو وأفلاطون، مع أنه لم يقل أحد من الذين درسوا كتبهما ومبادئهما بالتوفيق بينهما إلا الفارابي، وكأننا به قد عز عليه وجود خلاف بين التلميذ وأستاذه، فأبى أن يودع العالم دون أن يعقد بينهما معاهدة صلح دائم، ولكن هذا الحكيم الجليل نسي أن في التوفيق بينهما إضرارا بالفلسفة؛ لأن أفلاطون كان شاعرا ومفكرا أكثر منه فيلسوفا، أما أرسطو فكان فيلسوفا عالما بعيدا عن الشعر والخيال؛ لأجل هذا قال شيشرون بصعوبة الوقوف على أفكاره بدون بذل جهد عظيم.
كتب أرسطو في ما وراء الطبيعة، ولكنه لم ينجز البحث، وقضى نحبه قبل تمامه. ولا يمكن القول بأن ما تركه أرسطو يعد كتابا، إنما هو نبذ ومتفرقات وخواطر بدون ارتباط ظاهر بينها، ولكن المسائل التي يكتشفها العبقري، ويسعى في حلها لا تموت بموته، بل تحيى، خذ لذلك مثل المواضيع الجليلة التي عالج الفيلسوف بحثها؛ فقد نظر في تعريف الفلسفة، وفي نظرية الأعداد التي جعلها فيثاغورس أساسا لفلسفته الشهيرة باسمه، وقد حاول أرسطو أن يهدم آراء فيثاغورس، وتكلم في نظرية «المعنى»، وحاول فيها هدم آراء أستاذه أفلاطون، وفاز بغايته؛ لأجل هذا استغربنا كثيرا رسالة الفارابي في التوفيق بين الحكيمين، مع أن أرسطو جعل معظم همه موجها لتصحيح آراء أستاذه ونقدها ، ونقض ما كان منها مخالفا لطريقة فكره، ونظر أرسطو في فلسفة السفسطائيين، أهل التمويه والمغالطة، وعلى رأسهم بروتاجوراس الذي أسلفنا الكلام عليه في بابه، وهم القائلون بعدم استطاعة الإنسان الوصول إلى الحقيقة، وفند آراءهم بكل ما وصل إليه جهده من البحث.
وبعد أن فرغ أرسطو من تعريف الفلسفة، ودحض آراء أسلافه وتصحيح مبادئهم، أخذ في شرح آرائه الذاتية؛ فتكلم عن مبدأ التناقض، ومبدأ المادة، ونظرية الأسباب الأربعة، ونظرية النظام العام، ثم تكلم عن العدل الإلهي (تيوديقي).
فأي عقل إنساني قبل أرسطو أو بعده (بقطع النظر عن الحكماء الذين استعانوا بالعلوم الحديثة أمثال أوجست كومت) بلغ هذا الشأو في التفكير، وألم هذا الإلمام بحكمة الإنسان وعلومه؟ وأي سلف من أسلافه أحاط بالفلسفة إحاطته بها، وعرف طبيعتها، وعين مجالها؟ ونحن لا نفضل عليه أحدا قديما ولا حديثا.
إن أرسطو تناول الفلسفة بحذق وطمأنينة لم يذق لذتهما ديكارت، ولا من جاء بعده حتى، ولا فلاسفة القرن العشرين، أمثال ويليام جيمس بأمريكا وبرجسون بفرنسا، ويظهر من درس كتبه التي بلغتنا أن أرسطو كان متعلقا بالحقيقة الراهنة، ومنصرفا إلى درسها وتحديدها وتقديرها بقدر ما كان أستاذه أفلاطون متعلقا بالمثل الأعلى، ومنصرفا إلى تمييزه وتمجيده وتطبيقه على مطالب الحياة المادية والحياة الأدبية.
وبعبارة أخرى كان أفلاطون (أيدياليست)، وكان أرسطو (رياليست)، كان أفلاطون مشتغلا بالنظريات وأرسطو مهتما بالعمل والتطبيق، وهذا ظاهر من مؤلفات كل منهم؛ ولذا قال أحد مؤرخي الفلسفة اليونانية إن كل إنسان يولد إما أفلاطونيا أو أرسطويا؛ إشارة إلى التباين بين مبدأيهما. وسيرى القارئ أثناء هذه النبذة الوجيزة أن وصول أرسطو إلى ما وصل إليه كان أمرا طبيعيا وترتيبا محتما في تاريخ الفكر الإنساني لا بد من الوصول إليه. كان أفلاطون حكيما شعريا، وقد وصف في بعض محاوراته شخصية الفيلسوف الحقيقي التي تنطبق على المثل الأعلى في نظره، فشاءت الأقدار أن يكون هو أستاذ ذلك الفيلسوف وموجده؛ لأن الفيلسوف في نظر أفلاطون هو الذي يأخذ الأشياء كما هي؛ أي على حقيقتها ويفحصها بحالة وجودها التي هي عليه. وكان أرسطو كذلك؛ أي كان أرسطو فيلسوف الحقائق، وهو بلا ريب أول حكيم استفاد بالحقائق العلمية، واتبع التنظيم والتقسيم والترتيب في مؤلفاته، وسار على القواعد الملائمة للفلسفة الصحية التي هي علم العلوم وأم المباحث، والثمرة الناضجة لغرس العقل البشري أرسطو لا يفكر في شيء بغير تنظيم وترتيب؛ أي إنه السابق إلى وضع «طرق البحث الفلسفي»، وأول راسم لخطة الدرس العلمي.
إن كثيرين من الآخذين من الأمور بظاهرها يجرءون على تفضيل أرسطو على أفلاطون كما يفضلون أفلاطون على سقراط، وهذا حمق منهم وخرق؛ لأنه لولا سقراط ما كان أفلاطون الفيلسوف؛ فقد كان أفلاطون مندفعا بفطرته إلى الشعر، فربما صار سياسيا عظيما، أو شاعرا عبقريا، أو مؤلفا تمثيليا؛ لأن مواهبه العظمى كانت تؤدي به إلى إحدى هذه السبل الثلاث، ولكن تعليم سقراط وعشرته ومثاله هي التي شكلت تلك المواهب، وحولتها نحو الحكمة، وأنتجت ثماره الناضجة، وإن كان سقراط نجح في توليد أحد تلاميذه بالطريقة التي شرحناها في عرض الكلام عليه، فقد نجح في توليد أفلاطون، كذلك لولا أفلاطون الذي علم أرسطو أكثر من عشرين عاما لقضى أرسطو عمره في الأبحاث الطبيعية، أو في دراسة كتب الفلسفة والأدب؛ لأن مواهبه كانت تؤهله إلى ذلك، ولكن احتكاكه بعقل أفلاطون العظيم فتح أمامه أبواب الفكر العليا، وأرشده إلى طريقته التي جعلته صاحب العقل الأول.
وكان أفلاطون يسميه عقل المدرسة، ويسمي بيته «بيت القارئ»، وفي الوصف الأول مدح، وفي الثاني قدح؛ لأن أفلاطون كما أسلفنا لم يكن يجعل شأنا كبيرا للكتب، ولعلها خصلة كسبها من سقراط الذي لم يدون سطرا. لما صار أرسطو أستاذا للإسكندر المقدوني كان موضع الإكرام والإجلال، ولكن لدى موت الإسكندر تألب عليه المتعصبون من أبناء وطنه، واتهموه بالإلحاد، وحاولوا الحكم عليه بالقتل، فلم يجد بدا من الفرار، ففر من أثينا، وقد علل فراره تعليلا حسنا؛ إذ قال أشفقت على أهل أثينا أن يقترفوا جريمة ثانية على الفلسفة؛ مشيرا بذلك إلى ما وقع لسقراط. والحقيقة أن موت سقراط كان ضروريا لختام حياته الجميلة ليكون رمزا دائما في تاريخ البشر على جهل الجمهور، وغباوة الأغلبية، ودليلا على شجاعة الحكماء وقوة روح البذل والتضحية.
Неизвестная страница