الخامس المعلومات بالتواتر: كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلاة الخمس، بل كعلمنا بأن مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي وغيره. فإن هذه أمور وراء المحسوس، اذ ليس للحس إلا أن يسمع صوتًا، المخبر بوجود مكة، فأما الحكم بصدقه فهو للعقل والته السمع ولا مجرد السمع بل تكرير السماع. ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو لتكرر التجربة، فإن كل مرة فيها شهادة أخرى تنضم إلى الآخر فلا يدري متى ينقلب الظن الحاصل منه يقينًا. فان ترقي الظن فيه وفي التواتر خفي التدريج لا تشعر به النفس البتة، كما أن نمو الشعر خفي التدريج لا يشعر بوقته ولكن بعد زمان يدرك التفاوت فكذا هذه العلوم، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة للبراهين التي تطيب منها النفس وما بعده ليس كذلك.
السادس الوهميات: وذلك ممل قضاء الوهم بان، كل موجود ينبغي أن يكون مشارًا إلى جهته، وأن موجودًا لا متصلًا بالعالم ولا منفصلًا ولا خارجًا ولا داخلًا محال. فإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال، وهو عمل قوة في التجويف الآخر من الدماغ تسمّى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات التي ألِفها، فليس في طبعها إلا النبوة عنها وانكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان، والأولى منهما ربما وقع كل الأنس بتكذيبها لكثرة ممارسَتك الأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة، والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك الأدلة الموجبة له. وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلا والملا غير ممكن فإنك إن اثبت خلاء فما أراك تجعله قديمًا. فإن الخلا ينعدم بالملا والقديم لا ينعدم، ولأنك تعرف أن لا قديم سوى الله وصفاته وإذا جعلته محدثًا لزمك أن يكون متناهيًا فينقطع، وإذا جاوزت المنقطع كنت معترفًا بأنه ليس بعده لا خلا ولا ملا. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي في النفس لا تتميّز عن الأوليات القطعية، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول الفطرة كما تشهد بالأوليات القطعية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعًا هو صادق بل الصادق ما تشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة. وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفته الدليل أيضًا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها. فان قلت فبماذا أُميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل، ومتى يحصل لي الأمان منها فأقول إن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيدًا لليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن،
1 / 234