ومن الصعب أن نفهم كيف استطاع نيتشه أن يخطو هذه الخطوة نحو حب القدر، وأن يسير من النفي إلى نفي النفي، أو إلى النعم العليا، أو محبة القدر
Amor fati
كما يسميها.
إنه يتحدث في «هكذا تكلم زرادشت» عن الإرادة الكارهة
Widerwille
للزمن ول «قد كان»، كما يتحدث عن الخلاص من هذه الإرادة الكارهة أو من عدم الإرادة (لا عن الإرادة بوجه مطلق؛ إذ إنه في حديثه ذاك إشارة إلى شوبنهور والبوذية اللذين يستنكر كلاهما عن الإرادة ويصفه بأنه أغنية الجنون الخرافية)، هذه الإرادة الكارهة للزمن أو المضادة له، والنزعة التي تميل إلى المخالفة والهجوم بوجه عام، علامة من العلامات الدالة على تفكير نيتشه في مجموعه،
3
ولكننا نعلم أن كل نزعة مضادة أو مخالفة تظل على نحو من الأنحاء حبيسة لما تخالفه أو تكون ضدا له، فما من مخالفة لا تنطوي على نصيب من المشاركة ولا من تفكير يهاجم الميتافيزيقا أو الأفلاطونية أو المسيحية أو الزمن المعاصر له إلا ويظل بوجه من الوجوه ميتافيزيقيا أو أفلاطونيا أو مسيحيا أو معاصرا، وهذا القول ينطبق على نيتشه أكثر من أي مفكر سواه، بل نحن اليوم أقدر على قوله والإحساس به أكثر منه، ربما لبعدنا عنه البعد الكافي لإصدار هذا الحكم الذي لم يكن في استطاعته أن يعيه أو يصدره بنفسه.
مهما يكن من شيء، ففي إمكاننا - من وجهة النظر هذه - أن نضع فلسفة نيتشه في مكانها، ونخطو خطوة على طريق النقد الشامل لها. يمكننا أن نقول - وهذا ما قاله الكثيرون وقاموا به بالفعل: إن فلسفة نيتشه تمثل الكمال والنضوج في مرحلة من مراحل الفكر الغربي، كما تمثل في نفس الوقت غاية هذه المرحلة ونهايتها، فهي في رأي هؤلاء المفسرين (والمقصود بهم هيدجر وتلاميذه بنوع خاص) تمثل كلمة الختام في الفلسفة الحديثة من حيث هي فلسفة الفكر والإرادة الإنسانية التي تنعكس على نفسها أو تضع نفسها بنفسها، ومن ثم يكون تفسيره للحياة والوجود بأنه إرادة القوة هو أقصى مرحلة لميتافيزيقا الذاتية، أي للفلسفة الحديثة التي يعرفونها أيضا بهذه الصفة، حيث تبلغ هذه الفلسفة غاية إمكاناتها من حيث هي فلسفة ذاتية للإرادة. فإذا كان نيتشه قد وصل بهذه الذاتية إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وبلغ بها عن طريق تطرفه الحاسم الصريح إلى آخر حدودها، فلا شك أيضا في أنه قد ظل أسير مملكتها ورهين أفكارها، ومع ذلك فإذا كانت هذه النظرة تنطبق إلى حد كبير على فلسفة نيتشه أو تمثل على الأقل جانبا هاما من جوانبها، فلا شك أيضا في أنها ليست هي النظرة الوحيدة الممكنة إلى هذه الفلسفة الخصبة المتعددة الجوانب والوجوه، أضف إلى ذلك أن الزج بإحدى الفلسفات في صيغة تاريخية أو مذهبية بعينها - مهما كان نوع هذه الصيغة - لا بد أن ينطوي على شيء من الإجحاف والظلم لتلك الفلسفة. وإذا صدق هذا القول على فلسفة ما، فهو أصدق ما يكون على فلسفة نيتشه؛ فالمتأمل لها لا بد أن تأتي عليه لحظة يسأل فيها نفسه: هل هذه الفلسفة شكل من الأشكال العديدة للفلسفة الحديثة؟ أم هي إلى جانب ذلك وفوق ذلك شيء آخر مختلف وجديد؟! •••
ليست الكلمات التي تعبر عن «الضد» والمخالفة هي وحدها التي تدل على تفكير نيتشه، بل إن الكلمات التي تعبر عن التجاوز والعلو والمفارقة - مثل فوق ووراء وبعد التي تتكرر كثيرا في كتاباته وبخاصة في زرادشت - قد تكون أكثر دلالة على طابعه الفكري والفلسفي، وكثيرا ما قيل: إن هذه الكلمات وحدها تعبير واضح عن تطرف نيتشه أو تهوره، وهذا صحيح بالفعل، غير أنها لا تستخدم دائما للدلالة على صيغة التفضيل أو المبالغة، بل كثيرا ما يراد بها التعبير عن تجاوز الضدين جميعا، والعلو فوق كل ما عرفته الإنسانية من أشكال التصور والتفكير. وأوضح مثل على هذا هو حرف فوق
Неизвестная страница