وكذلك الأمر حين يفاجئنا الإحساس بالقلق فنشعر بأننا نعلو على كل شيء، بل بأننا نعلو على قلقنا نفسه، وأن كل شيء ينزلق منا كما يقول باسكال، وفي تجربة الوجد التي تحدثنا عنها شاهد على ذلك.
فقد رأينا - فيما تقدم - أن التعالي يحمل طابع الوجد أو الجذب، أي أنه حال يخرج فيها الإنسان عن نفسه وعن العالم كله، فهل يكون التعالي بذلك فعلا كبقية الأفعال التي تجري في الزمان؟ لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن الزمن نفسه يعلى عليه، أين إذن يحدث هذا العلو؟ في اللحظة، فجأة وعلى غير انتظار، وقولنا «يحدث» اضطرار يدفع إليه قصور اللغة، فليس هنا ثمة حادث يتم في زمان؛ لأن الزمان لا بد أن يعلى عليه، ما دمنا سنعلو على كل شيء، وبالتالي على الزمان.
كذلك فإن التعالي ليس فعلا من أفعال الذات.
ومعنى هذا أن التعالي لا يقوم به الإنسان بنفسه، بل يحققه ذلك «الآخر» الذي نحاول العلو إليه، وإذا شئنا الدقة وجب علينا - كما تقدم - أن نفكر في الإنسان من ناحية المتعالي لا العكس، وهنا لا نكون في حاجة إلى القول بأن الإنسان «يعلو»، بل ينبغي عندئذ أن نقول: إنه «يعلى به»، وليس معنى هذا أنه سلبي مستسلم ينتظر اليد التي ترفعه فوق السحاب، بل معناه أن التعالي ليس على الحقيقة فعلا من أفعاله، يقوم به متى شاء وكيف شاء «وإن يكن قد عانى كل ألوان المشقة وتخلى عن كل ما يشغله من هذا العالم؛ لكي يكون على استعداد لتلقي شعاع واحد من نوره»، وليس معناه أيضا أننا نلغي الذات الإنسانية أو نمحوها؛ لأن الذي يعلو فوق ذاته هو وحده الذي يستطيع أن يعود إليها بحق.
لا بد الآن أن القارئ يسأل: ولكن كيف يعود من يعلو على نفسه أول ما يعود إلى نفسه؟
إن الإنسان الذي يعاني تجربة المتعالي إنسان وحيد، وحدته هذه ليست اعتذارا عن تعاسته؛ لأنها وحدة مع الواحد، وليست وحدة فاسدة لمن يعيش بمفرده بعيدا عن الآخرين. ولا أحسبني في حاجة لبيان الفارق الكبير بين الوحدة والانفراد؛ فالوحدة معناها الذي نفهمه هنا لا تنفصل عن الجماعة؛ لأن الوحيد وحدة أصيلة هو في نفس الوقت من يعيش مع الآخرين، أما المنفرد فهو الذي يعيش حقا «وحيدا» بمفرده، ولكنه يتلفت بقلبه على الدوام صوب الآخرين.
فليس انفراده في الحقيقة تفردا أصيلا، ولو عاش بين جدران أربعة، إنه يفتقدهم دائما ولا يستطيع أن يستغني عنهم لينفرد بحق مع من لا يصح الانفراد بأحد سواه، وأعني به الواحد الآخر الهو، وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى العودة إلى المفارقة لنقول: إن الوحيد بحق هو من لا يعيش وحيدا، ولقد كان أفلوطين - كما قدمنا - هو أول من عاش حياة الوحدة، ولكنه لم ينطو على نفسه أو ينعزل عن الناس، بل عاش - على حد تعبيره - «وحيدا مع الواحد»، فالوحيد حر لا تربطه صلة بأي شيء أو أي موجود، وقد نستطيع أن نصفه بصفة صوفية أصيلة، فنقول: إنه عريان عن كل شيء، فهو مستغن عن كل شيء؛ لأنه غني «بالكل» عن كل شيء، وهو متحرر من كل شيء؛ لأن باطنه متصل بأصل الأشياء جميعا، مكتف بالوجود نفسه عن سائر الموجودات.
بهذا المعنى الأصيل للوحدة نجد الصلة الوثيقة بما سميناه بالانفتاح، فنحصل على راموز أو شفرة جديدة للمتعالي، ألا وهي الحرية، وهنا أيضا يفاجئنا اعتراض خطير: إلى أين يفضي بنا العري عن كل شيء إن لم يكن إلى الفراغ؟
ونرد على هذا الاعتراض قائلين: إن خلاص الإنسان من كل صلة بالموجود، هو في الوقت نفسه ارتباط بالمطلق، أي أن وحدته بعيدا عن كل موجود، هي في حقيقة الأمر وحدته مع الواحد الموجود، والإنسان لن يستطيع أن يكون وحيدا وحدة حقيقية إلا في لحظة - وأقول في لحظة - علوه فوق كل شيء على وجه الإطلاق، هنالك يتفتح له سر هذا الشيء الغامض الذي كافحت الإنسانية على مر الأجيال لتؤكده، ألا وهو الشخصية، وليس معنى هذا أنه يكتشف في تجربة العلو أنه فرد فريد وحسب، بل معناه أن العلو أو التعالي فعل شخصي محض، لا بل هو الفعل الشخصي الذي لا يستطيع أحد أن يعاوننا على مكابدته أو ينوب عنا فيه. مثل تجربة العلو في هذا كمثل تجربة الموت، إن صح أن للموت تجربة؛ فليس لأحد أن يحتمل عنا عذابه أو ينوب عنا ساعة الاحتضار، كتب علينا أن نموت وحدنا، كما كتب علينا أن نحقق تجربة العلو وحدنا.
إذن فلا تعالي بغير وحدة، ولا وحدة بمعناها الأصيل بغير تعال، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك أن يكون وحيدا وحدة كاملة؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يعلو على ذاته وعلى العالم، أي إلى معنى هذا العالم وقيمته العليا التي لا يمكن - حتى من الناحية المنطقية البحتة - أن تكون قائمة في داخله، كما يلاحظ فتجنشتين بحق في نهاية رسالته المنطقية الفلسفية، وهو على الرغم من كل ألوان التعاسة التي يلمسها كل يوم، يملك تلك الغريزة التي لا يستطيع - على حد قول باسكال (الفقرة 411) - أن يكبتها في نفسه ، والتي ترفعه - على الرغم من كل شيء - فوق كل شيء؛ سيعجز حين يصل إليه أو يظنه أنه وصل إليه عن التعبير، وسيجد أن المضمون الحق يمتنع أصلا على التفكير، وأن الواحد الفرد المفرد - أو ما نشاء له من أسماء - لا يمكن أن يكون موضوعا للتفكير المنطقي المستمد من العقل، ملكة الحساب والاستنتاج والترتيب (ليس معنى هذا أننا نغض من شأن العقل، فهو أساس كل تفكير علمي، ولولاه ما كان علم فزيائي ولا رياضي، ولا قامت حضارة ولا صناعة)؛ ذلك لأن الفكر الحق لا يفكر في موضوعه، ولا يجعل منه موضوعا يقابل الذات المفكرة لتقبل عليه بالتفسير والتحليل والتعليل، وتقع في شباك الصراع الأزلي بين الذات والموضوع، إنه يصطدم بالموجود الحق، أو قل: يشتعل به ويتقد. كذلك كان يفكر بارمنيدز وهيراقليطس وأفلاطون حتى يصل هذا الفكر إلى ذروته عند أفلوطين ومن بعده من متصوفي الشرق والغرب، فالفكر عندهم هو - قبل كل شيء - تجربة وجد وانفعال وحماس، وهو في صميمه تجربة اندهاش بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي جعلها أفلاطون أصل كل تفلسف، أمس واليوم وغدا إلى أبد الآبدين، هنالك يفقد الإنسان نفسه ويجدها، يحترق ويصفو، يتعذب ويصمت.
Неизвестная страница