ثالثا:
هي أعظم المشكلات ، إذ ما عساه أن يكون أعظم من محاولة العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق؟ وأي فعل يمكن أن يقارن بالارتفاع فوق كل شيء حتى الارتفاع نفسه؟
رابعا:
المتعالي الذي يسمو فوق كل شيء هو في نفس الوقت أكثر الأشياء عمقا؛ فكما أن العلو يكون من أسفل إلى أعلى، فكذلك يكون من أعلى إلى أسفل، من القمة إلى الأعماق. حقا إن هذه مفارقة تأباها لغتنا وتفكيرنا اليومي، كما يرفضها ما نسميه عادة بالحس السليم، ولكن لا بد من قبولها في الفلسفة والفن والدين؛ إذ لا حياة لها جميعا بغير المفارقة التي تتجاوز منطق المعقول والمقبول.
خامسا:
مشكلة المتعالي هي آخر المشكلات، وهي كذلك أخطرها، وهل هناك أخطر من أن يطمح الإنسان إلى العلو فوق كل شيء، بينما يتهدده السقوط إلى أعمق الأعماق؟ أليس أقرب الناس إلى التردي في الحضيض أعلاهم فوق القمة؟
سادسا:
مشكلة المتعالي هي أقرب المشكلات إلينا وألصقها بوجودنا، ولما لم يكن هناك وجود ولا حياة بغير موت وفناء، كان ارتباط التعالي بالموت أوثق ما يكون الارتباط، وكانت مشكلته أكثر مشكلات الإنسان إنسانية، ألسنا نقول الآن ونريد أن نبين فيما بعد أننا لا نعلو على أنفسنا إلا لنعود إليها، وأن الإنسان لا يشعر بإنسانيته حتى يعلو عليها ويتجاوزها؟
قلنا: إن مشكلة التعالي هي المشكلة على وجه الحقيقة. ونذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أنه حيث لا وجود لمشكلة التعالي فلا وجود لمشكلة الموت ولا لمشكلتي الزمان والمكان، بيد أن التعالي موجود، وسيظل موجودا ما بقي الإنسان حريصا على إنسانيته، وإذا كنا نلاحظ اليوم أنه تراجع من وجدان هذا الزمان، بحيث لم يبق منه سوى بضعة حروف سوداء في معاجم الفلسفة، فليس معنى هذا أنه اختفى من هذا الوجدان (إذ ما من شيء يختفي الحقيقة كل الاختفاء، وإنما كل شيء يتغير)، بل معناه أنه راقد فيه يحتاج إلى من يوقظه من سباته، ولا مفر لكل من يفكر فيه من المخاطرة على الطريق الخطر. إنه مضطر إلى التفكير في عصره ، وربما اضطر أيضا إلى التفكير ضد عصره.
كذلك قلنا: إن مشكلة التعالي هي أولى المشكلات وآخرها، وإنها أعمقها وأخطرها وأشدها التصاقا بوجود الإنسان، ولا نعني بهذا القول أنها مشكلة كسائر المشكلات تقارن بها فتزيد عليها أو تنقص عنها في الأهمية، فالواقع أن هذه الصفات التي نطلقها عليها شبيهة بتلك السلالم التي تحدث عنها الفيلسوف المنطقي المتصوف فتجنشتين في نهاية «رسالته المنطقية الفلسفية» حيث يقول: إن على المرء أن يلقي بها بعيدا بعد أن يصعد عليها ويصل إلى حيث أراد الوصول، نقول إلى «حيث»، وكأننا نريد أن نصل بالعلو إلى مكان أو موضع، وفي هذا القول خطأ لا بد من الاعتذار عنه؛ فالتعالي فعل فريد، وكل تعال يكون «فوق» شيء و«إلى» شيء، أما التعالي الذي نتحدث عنه فهو كما عرفناه علو على كل شيء على وجه الإطلاق، علو تقف لغتنا حياله عاجزة لا تملك التعبير، إنها تغير عندئذ دلالتها كما تغير وظيفتها، فتكتفي بالتلميح إلى ما لا تستطيع أن تصرح به كلمة أو ينطق به لسان.
Неизвестная страница