ولكنها لا تستمد قدرتها على الرؤية إلا من نور الشمس، بهذا النور الذي تستمده من الشمس يمكنها أن ترى الشمس نفسها، وإذا كانت الشمس هي مصدر النور، فهي بالمثل مصدر الرؤية.
والنفس في مجال المعرفة كالعين في مجال الرؤية، فإذا نحن وجهنا العين إلى عالم الليل والظلال بدلا من عالم النور والنهار؛ وهنت قدرتها على الإبصار، والنفس إن لم نوجهها إلى العالم الذي تضيئه أشعة الحقيقة والصدق؛ فقدت القدرة على الفهم والتفكير، وأصبحت معرفتها ظنا ورؤاها ظلالا وأشباحا، وكما تسكب الشمس نورها على المرئيات، كذلك يجود مثال الخير على كل ما تدركه النفس بالصدق والحقيقة، إنه الأصل في كل معرفة أو حقيقة من شأنها أن تجعل العالم المعقول قابلا للتعقل، وتهبه الواقعية والنبل والصفاء، كما أن الشمس هي مصدر النور الذي يجعل العالم المحسوس قابلا للرؤية، كما تمده بقوة الحياة والدفء والنماء، ومع أن أفلاطون لم يصف مثال الخير الأسمى صراحة بأنه إله، فهو في الحقيقة أولى المثل جميعا بصفات الإله. وإذا كانت كل ألوان الخير والفضيلة تشارك في الخير المطلق الأسمى، وكانت غاية حياة الفيلسوف الذي يهتدي بالخير والفضيلة هي التشبه بالإله؛
3
فهل هناك كمال أقصى من هذا الكمال الذي يسعى إليه سجين الكهف في رحلته المضنية إلى نور الشمس، مثال المثل وخير الخيرات أجمعين؟ وهل يكون التشبه بالإله شيئا غير هذا؟ •••
تعددت التأويلات التي ذهب إليها المفسرون لهذا الرمز الشاعري الجميل من العصور القديمة إلى اليوم، ومع ذلك فلعل التفسير الذي قال به أفلاطون نفسه في مبدأ الكلام عنه من أنه يدل على التربية أو نقص التربية؛ هو أقربها إلى الصواب، فصورة الشمس التي ترمز إلى مثال الخير الأسمى وصورة الكهف؛ كلتاهما تعبير عن طبيعة التربية، وعن موقف الإنسان من المعرفة أو الجهل، واليقين أو الظن، والتقدم أو التأخر؛ إنهما ترسمان الطريق الذي تصعد فيه الروح إلى الصدق والحقيقة والنور، حتى تصل إلى قمة المعرفة الفلسفية، ونعني بها مثال الخير.
4
ولم يكن هناك شيء يستطيع أن يعبر عما ستجربه النفس من تحول وما تكابده من مشقة وجهد حين تنتقل من الظلام إلى النور، ثم وهي تعود مرة أخرى من النور إلى الظلام لتدرك مقدار ما في وجود الإنسان بين الظلال والأشباح من هوان ومذلة؛ أقول: لم يكن هناك شيء يمكن أن يعبر عن هذا كله خيرا من صورة الكهف. كان من السهل على أفلاطون أن يلجأ إلى الطريقة المجردة المطلقة في شرح أفكاره، ولكن خطورة الموضوع - الذي هو بصدده - جعلته يعالجه على هذا النحو الإنساني الرائع؛ ليستطيع أن يبرز ما تعانيه النفس وهي تترك الشر إلى الخير وتنتقل من الظلام إلى النور، وتكابد كل ألوان العذاب التي توشك أن تنتهي بها إلى الهلاك. ولو أن الأمر كان يتعلق بالمعرفة فحسب لما كانت هناك حاجة إلى هذا الرمز الخصب، ومن ثم كان في حقيقته أكبر من ذلك وأخطر، إنه «تحرير» الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وإذا كان سقراط - بتواضعه المشهور - يصف صعود النفس إلى الخير الأسمى على أنه أمله الشخصي الذي يعلم الرب وحده مدى نصيبه من الحقيقة (الجمهورية 517 ب6)، ففي استطاعتنا اليوم أن نقول: إنه الواجب الأكبر على الإنسان، ومهما يكن فهمنا لهذا الكهف وللمساجين الذين يقيمون فيه وللعالم الخارجي الذي تضيئه الشمس، فلا شك في أننا نحمل على الدوام مسئولية التحرر منه إلى أرض العدل والحق والنور، ولا شك أن هذا سيظل واجبا على الإنسان، اليوم وغدا وإلى آخر الزمان، ويا ويلنا إن كانت حياتنا على الأرض وكان العالم الذي نعيش فيه هو هذا الكهف المظلم! ويا ويلنا إن لم نحاول كل يوم أن نخرج منه إلى نور العدل والحرية والحقيقة!
وحيدا مع الواحد
كلمات صغيرة عن مفكر كبير
يبدو أنه لم يكن يعير الكلمة المكتوبة ما نعيرها الآن من اهتمام، فلم يخطر بباله أن يمسك بالقلم إلا بعد أن تجاوز الخمسين، وعلم عشر سنوات في مدرسته الفلسفية في روما في النصف الثاني من القرن الثالث بعد المسيح. راح يكتب في عجلة كأنه ملهم أو ممسوس، في خط لا تكاد العين تتبين حروفه، ويظهر أنه شعر بما يشعر به كل من يكتب من خيبة الأمل حين يرى أفكاره الحية قد ذوت في رداء شاحب من الكلمات المكتوبة، ومن يدري؟ لعله ندم على ما فعل؛ فعاش بقية حياته - فيما يروي تلميذه وناشر أعماله فور فيريوس - لا يحتمل أن يسمع أحدا يقرأ عليه رسائله، ولا يحاول أن يعيد النظر فيها مرة واحدة.
Неизвестная страница