هذا ضريح غاب فيه كوكب
قد كان متشحا بثوب النور
وعلى جوانبه المؤرخ نادبا
مطراننا أغناتيوس عجوري
ونال هذا الأسقف منزلة كبيرة لدى حكام عصره، ولا سيما إبراهيم باشا والأمير بشير وبهمته انتشرت تجارة الزحليين إلى حلب والعراق وأوروبة وأسس الأكليروس الأسقفي، الذي جاء بكهنته من حلب وبقي منهم الخوري بولس سنكي، فتولى الوكالة الأسقفية بعد وفاته. وأنشأ أيضا أخوية القربان المقدس وأخوية العذراء، وكان لا يسام أحد من الكهنة والرهبان إلا بعد أن يمتحنه الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم أو هذا الأسقف، كما تقرر في مجمع «دير البشارة» قرب زوق مكايل سنة 1831م. وفي هذه السنة على أثر ذلك جاء زحلة السيد مكسيموس المظلوم لانتخاب أسقف عوض أسقفها المتوفى. فانتخب الخوري باسيليوس شاهيات الحلبي من الرهبنة الشويرية الحناوية، فعارض فريق من السكان الذين يميلون إلى الرهبنة المخلصية، ويودون أن يكون أسقفهم منها. فرفع البطريرك الأمر إلى الكرسي الرسولي في رومية، وغادر زحلة غير راض عن بعض سكانها المعارضين. وبقي الكرسي فارغا ثلاث سنوات ووكيله الخوري بولس سنكي.
وسنة 1835م كان في زحلة طيفور بك المصري مع ألف جندي، ففرغ الزحليون لهم حارة الميدان فنزلوها، وكانوا يراقبون حركات الدروز، ويؤمنون الطرق المحدقة بزحلة والبقاع. وفي آخر هذه السنة سقط ثلج كثير تكاثف على الأرض، فتحير العسكر المصري في جرفه؛ لأنه لا يعرف ذلك، فتحمل الزحليون ثقلة جرفه لهم وإبعاده عن منازلهم؛ لأنهم لا يطيقون برده.
وفي هذه السنة انتظم مخايل بن حنا عطا الزحلي في سلك كهنة البطريرك مكسيموس مظلوم - وهو المطران غريغوريوس الشهير - فصار شماسا إنجيليا يرافق غبطته.
وفي صيف سنة 1836م ورد الأمر من الكرسي الرسولي أن يكون الخوري باسيليوس شاهيات الحلبي من الرهبنة الحناوية الشويرية الكاثوليكية أسقفا للفرزل وزحلة والبقاع، فاستقدمه إليه من عين تراز البطريرك مكسيموس مظلوم إلى دمشق مع الوكيل الأسقفي وبعض الأعيان، وسامه في كنيستها الكبرى (كاتدرائيتها) يوم خميس الصعود في 7 أيار من هذه السنة، وهو إذ ذاك ابن إحدى وأربعين سنة، فكان أول أسقف سيم فيها. ثم سار توا إلى بيت الدين وقابل الأمير بشير الشهابي ونال لديه منزلة، وعاد إلى زحلة وبدأ يرعى خرافه بغيرة وأسس الأكليروس الأسقفي الوطني الباقي إلى الآن، وأول من نعرفه منهم الخوري يوحنا ملوك الذي صار أسقفا بعد ذلك والخوري بطرس القطيني المعلوف والخوري فيلبس النمير، وقد سامهم في هذه الأثناء شمامسة وكان واعظا بليغا ومدبرا حكيما وراعيا ساهرا على أغنامه. ولما سافر البطريرك مكسيموس إلى مصر أقامه نائبا بطريركيا عاما، فسار إلى دمشق ولبث فيها ستة أشهر وعاد إلى زحلة مترددا بينها وبين دمشق، وهو أول من اتخذ سجلا للحوادث والوفيات والولادات ومنه اقتبسنا كثيرا من الفوائد.
وسنة 1837م أحدث الأمير بشير الكبير بيت مكس (كمرك) في زحلة لضمان ذبحية اللحم، ورتب الخرج (مال العنق) المسمى الفردة على سكانها لما شاهده فيها من رواج سوق الأعمال والحركة التجارية، ووكل تحصيل ذلك إلى خمسة من سكانها سماهم «الوكلاء»، كانوا يفضون مشاكل البلدة وقد ضمنوا (كمركها)، وصار الزحليون إذ ذاك يجلبون بضائعهم من بيروت بعد ما كانوا يستجلبونها من دمشق، وكانت هذه السنوات التي مرت على سورية بزمن الدولة المصرية أيام هناء وسلام ونجاح. ثم حدث غلاء عظيم فبيع مد الحنطة بثلاثين غرشا وذلك لم يسبق له مثيل، وفي أواخرها حدثت زلزلة قوية هدمت قباب الأجراس، وكانت حركتها من جهة طبرية وصفد حيث كان تأثيرها قويا وأضرارها كثيرة هنالك، أما في زحلة فلم يحدث عنها ضرر عظيم. ومنذ هذا الحين ضعفت سلطة الأمراء اللمعيين على سكان زحلة ومنعت مداخلة دهاقينهم (خوليتهم) بشئون سكانها فسعوا بتفريق كلمة الزحليين المجتمعة.
وسنة 1838م كان وكلاء زحلة المذكورون قد ضايقوا مواطنيهم بالرسوم التي يتقاضونها منهم وكثرت أحزابهم، فشكا الأهلون أمرهم إلى الأمير بشير مرارا فلم يعرهم أذنا صاغية؛ لأنه كان يحصل من زحلة بواسطة هذا الرسم أموالا طائلة، فأرسل السكان الخوري بولس سنكي النائب الأسقفي إلى بيت الدين لمقابلة الأمير، فلما فاوضه بذلك قال له الأمير: «هذا ما هو شغلك ولا يعنيك»، وكان هذا الأب جريئا فصيح اللسان قوي الحجة فأجابه: «يعنيني كثرة الخطايا الناتجة عن ذلك وتعطيل أشغال الفقراء.» وكانت عادة الأمير إذا تكدر من إنسان وأراد منعه عن الكلام يقول للواقف أمرق (انصرف)، وإذا لم ينصرف يأمر خدامه بطرده. فقال له بحنق «أمرق»؟ فأجابه الأب: «أنا مارق ومنصرف ولكن يوم القيامة يصيح الفقراء متظلمين أمام الله ولا تقدر أن تقول لهم امرقوا، وأنا سأشهد على ظلمهم، فأستغيث بالله وبسعادتك أن ترحمهم وترفع عنهم هذه المظلمة.» فأوغر كلامه صدر الأمير غيظا، وقال له بصوت ارتجت له القاعة: «قلت لك امرق»، فانصرف ملتفتا إليه وقائلا: «أنا منصرف ولكن الملاقاة عند الله الديان العظيم.»
Неизвестная страница