وفي شهر تشرين الثاني جاء الحاج إسماعيل المذكور واستلم زمام أحكام بعلبك، وتأثر الأمير جهجاه حتى كرك نوح، ففر إلى زحلة وذهب معه بعض سكانها إلى فالوغا مستصرخا الأمراء آل مراد اللمعيين، فسكنوا روعه مدة ثم عاد إلى زحلة بكثير من الرجال، فبعث نقولا الدروبي من زحلة إلى الحاج إسماعيل في بعلبك يخبره بمجيئه، فقصده بست مائة فارس ومائة راجل ولما دنا من زحلة أرسل چاويشا ينادي فيها بالأمان، وأن لا يتعرض لأحد من الزحليين ولكنه يبغي القبض على الأمير جهجاه؛ فأجابوه أن هذا خصمك جهجاه خارج إليك فاعمل به ما تشاء. وكان جهجاه قد هجم برجاله وبينهم الزحليون، فدحر حاكم بعلبك وعسكره وتأثروهم وأعملوا السلاح في أقفيتهم، فقتلوا منهم نحو مائتي رجل دون أن يمسوا بسوء وبقي يطاردهم إلى قرب الزبداني، ثم عاد إلى زحلة، وكان ذلك في العاشر من كانون الثاني سنة 1790م. وفعل جهجاه أشياء منكرة مع من عاد إلى بعلبك، ولا سيما قطع رأس المفتي وغيره ممن حرضهم على تركها، فزاد في طين الخلاف بلة وأوغر صدر الوزير حقدا ونوى الاقتصاص منه ومهاجمة زحلة وإحراقها، فمنعه سقوط الثلج الذي برد نار انتقامه. فبلغ الزحليين قصده فتركوا بلدتهم، ثم توسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فأطلق سراح حريم الأمير جهجاه وأصلح بينه وبين الوزير على أن يغرم بأربعين كيسا، ويرهن أخاه لقاء الأموال الأميرية المتأخرة عنده وحمل إليه خلع الولاية، فطلب الأمير بشير مالا من الزحليين، فجمعوا له خمسة عشر كيسا وأرسلوها فلم يكتف بهذه المصادرة؛ بل أرسل من قبله من صادر أغنياءها، فأخذوا من فرنسيس ابن الحاج فرح البعلبكي نحو ثمانمائة غرش، ومن طنوس حجي خمسمائة ومن غيرهم غير ذلك، ثم فرض على زحلة 15 كيسا فتضايق الناس وفر بعضهم.
وفيها جاء زحلة الأمير قاسم الحرفوشي بإيعاز الأمير بشير والجزار، ومعه عسكر من الدروز والنصارى من دير القمر وجمع من زحلة نحو 500 راجل، وذهب بهم لمحاربة ابن عمه الأمير جهجاه الذي كان معسكرا في تمنين، فلاقاهم إلى أبلح فهرب الدروز ولحقهم جهجاه، فقتل بعضهم ونزع سلاح الآخرين، وذلك في 21 حزيران فبعث الأمير عسكرا لمصادرته، فجاء زحلة ونهب بغال دير مار إلياس الطوق وحرق بيادره.
وسنة 1791 اشتد الخلاف واتقدت نيران الفتن بين الأمراء الشهابيين، وشنق الجزار الشيخ غندور بن سعد الخوري وغيره. وكان بعض ممالئي الأمير يوسف الشهابي ضد الأمير بشير قد حركوا دفين حقده، فطلب الأمير بشير عسكرا من دمشق ومن الأمير أسعد الشهابي حاكم حاصبية وأرسلهم إلى البقاع، فخيموا في بر إلياس وهاجموا زحلة مرارا، فانتصر الزحليون عليهم وقتلوا منهم 15 شخصا، ثم نزل الدروز إليها وثقلوا على سكانها، ففر بعضهم والباقون حاربهم عسكر دمشق، فانتصر عليهم وأحرق زحلة في 26 تموز وأحرق دير النبي إلياس الطوق، ولما عاد العسكر إلى دمشق رجع الزحليون والأمراء إلى بلدتهم، وأعادوا بناء بيوتها حقيرة كبيوت القرى، ولكنها أحسن من ذي قبل.
وسنة 1793 اشتد الغلاء لكثرة الفتن والنهب، فصار كيل القمح الشامي بسعر 12 غرشا ولم يوجد، وقفة الأرز بثلاثين غرشا وكيل الذرة بثلاثة غروش
37
وتضايق الناس، فذهب بعض المكارين من زحلة إلى حلب لجلب الحنطة إذ كانت فيها رخيصة وكثيرة، فقبض عليهم متسلم حمص وأخذ منهم الحنطة، فاستغاث الزحليون بالأمير سليمان اللمعي في الشبانية، فأرسل أحد الأمراء وأمسك قفلا من المكارين ذاهبا إلى دمشق، وحجز عليه في مجدل عنجر، فطلب وكيل الجزار من متسلم حمص إرجاع بغال الزحليين فأبى، فقبض عليه وسجنه واسترجع الدمشقيون بضائعهم بتأدية قيمة مالية فكاكا.
وكثرت في هذه السنة الضرائب، فجمع حكام لبنان الشاشية من الفقير ثلاثين بارة ومن غيره أكثر، فجمعوا ثلاثين ألفا ثم جمعوا مالا ونصفا أيضا، ليدفعوا للجزار تتمة مائتي كيس صادرهم بها. وكان موسم الحرير غير جيد، فتضايق الناس أشد الضيق، وصار في هذه السنة ثمن كيل الحنطة الشامي 27 غرشا وكيل الذرة 18 غرشا ورطل الرز ريالا (عشرين بارة) ومد الكرسنة ريالا. وفشا الطاعون في البلاد.
وفي تلك الأثناء لما كثرت المهاجرة إلى زحلة بسبب الفتن التي سادت في سورية ولبنان وكثرة الضرائب التي استنزفت الأموال وضايقت الناس؛ صار الأمير بشير الشهابي يناوئ الزحليين ليعيد المهاجرين إلى مواطنهم، فقوى بني القنطار وحاطوم الذين كانوا في زحلة مع بني حسان، وجميعهم من الطائفة الدرزية من متن لبنان، فعاثوا في البلدة فسادا واشتد أزرهم، فازدادوا شرا وعتوا. وكان الأمراء الحرفوشيون قد شعروا بكثرة مهاجرة سكان بعلبك وقراها إلى زحلة، فأخذوا يصادرون المسيحيين ويقوون الدروز والشيعيين ليناوئوهم ولا سيما بنو مكارم الذين كانوا في ماسة من الدروز، وكثير من الإقطاعيين في البقاع.
ولكن الحواطمة الدروز سكان كفر سلوان وزحلة الذين كانوا من خاصة الأمراء اللمعيين، أوقدوا نار الثورة ضد الأمير بشير لما طلب الضرائب من اللبنانيين، فحاربهم بقيادة ابن عمه الأمير حيدر ملحم الشهابي الذي جاء بخمسين نفرا من العسكر ليحرق منازل بني حاطوم في كفر سلوان، فثار عليه أهل القرية واجتمع إليهم المتنيون وحاصروه في القرية ودخلوها وسلبوا رجاله، وقتلوا ثلثة منهم وقتل منهم هم خمسة، فامتدت الفتنة وامتنع اللبنانيون عن دفع الضرائب فأغر ذلك صدر الأمير غيظا.
وفي 19 حزيران سنة 1793 توفي المطران يوسف فرحات الكاثوليكي، وبقي مطرانا على «الفرزل والبقاع» كما كان يدعى إذ ذاك نحو ثماني عشرة سنة. وقد أرسل من قبله القس أنطون الجمال المخلصي لينوب عنه في المجمع الذي عقده البطريرك اثناسيوس جوهر في دير المخلص في 8 تشرين الثاني في سنة 1790م بعد تثبيته بطريرك على أثر وفاة البطريرك ثاودوسيوس الدهان. وكان برا تقيا محبا للزحليين ساعيا في ترقية شئونهم.
Неизвестная страница