ويكفي هذا الآن.
الهزيمة الثالثة
حسن جدا، فتورنا سببه موقف احتجاج لا واع على كثير، إن لم يكن كل شيء، مما يجري حولنا موقف احتجاج يدفعنا للإضراب غير المعلن بالطريقة التقليدية من اجتماعات ولافتات وهتافات وخطب، ولكن، كما ابتكر العمال الفرنسيون أثناء احتلال ألمانيا الهتلرية لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ابتكروا فكرة العمل ببطء؛ إذ لم يكونوا في موقف أو لديهم القدرة على الإضراب العلني أو الامتناع عن العمل؛ إذ كان الجستابو الرهيب وقوات العاصفة ستتولى ضربهم وتحطيمهم وتخريب المجتمع الفرنسي تماما، وهكذا ابتكروا فكرة أن يعملوا وفي نفس الوقت، وفي الحقيقة، لا يعملون؛ فالعمل الذي يمكن الانتهاء منه في ساعة يأخذون يوما بأكمله لإنهائه.
ولكن هذا كان من عمل وابتكار قيادة الشعب الفرنسي المغلوب على أمره، قيادة المقاومة الفرنسية ومفكري وفلاسفة هذه المقاومة، وهي كما نرى فكرة ليست في غاية الذكاء فقط، وفيها تعجيز شبه كامل لعملية إنتاج الذخيرة والمعدات العسكرية التي كانت تطلبها وتحتاجها آلة الحرب الألمانية الهتلرية، ولكن فيها أيضا - وهذا هو المهم - فكرة ألا تطلب من الناس العاديين، عمالا كانوا أم فلاحين أم حرفيين أم متعلمين، ألا تطلب منهم شيئا يعجزون عن تنفيذه، أو يؤدي تنفيذهم إياه إلى تعريض هؤلاء الناس للخطر وللتهلكة.
ولو كانت قياداتنا العربية، خاصة تلك القيادات التي تدعي الثورية القصوى والصمود والتصدي وتنادي بالقضاء قضاء مبرما على إسرائيل مهما امتدت واستطالت فترة الحرب والتصدي، ولو كان هؤلاء الناس قد ذاكروا التاريخ، وبالذات تاريخ الشعوب التي قاومت أعداءها ومستعمريها، لأخذوا مما فعلته قيادة حركة المقاومة الفرنسية السرية، درسا.
فالناس العاديون ليسوا بالضرورة والسلفية والوراثة مخلوقات خارقة البطولة أو هكذا يجب أن تكون، وأيضا الأبطال لا يصنعون بالقسر والأمر والقوة، البطولة عند الإنسان العادي تنشأ بالتاريخ الشديد، وبالتصعيد خطوة خطوة، ونتيجة اصطدامات بالعدو يتبدى من خلالها، وبوضوح ظاهر، أن الملاينة أو الاستكانة أو غض الطرف لم تكن كلها تجدي، والنتيجة أن الإنسان العادي، وبمنطقه العادي، يصل إلى اقتناع جازم أنه إذا استمر على منواله المستسلم المسالم فإنه لا محالة هالك، فإن لم يكن بالضرورة هو شخصيا، فأولاده وإخوته وأقرباؤه لا محالة هالكون. هنا يصل المواطن إلى درجة اليأس من الحل الاستسلامي الكامل، ويبدأ يقاوم، فيضرب، ويحسمها، فيجد أنه إذا استسلم لضربة رد الفعل فإن ضربا مبرحا آخر ينتظره؛ ولهذا فإن الأسلم له والحل «المعقول» الأصح هو أن يرد الضربة، فإذا فعل رد العدو عليه بضربة أقوى، ويحسبها مرة أخرى ليجد أن لا سبيل لأي حل آخر، فشيء من اثنين: إما أن يتراجع تراجعا كاملا فيعامل معاملة الكلاب النجسة التي لا تليق بأي آدمي، وإما أن يستمر يقول لا، وقد يعذب لقولها وينكل به، ولكن هذا لن يشكل مشكلة؛ فالعذاب والهوان نتيجة الملاينة سيستوي معه العذاب والهوان نتيجة المقاومة، وبالضرورة سيختار المقاومة.
هكذا يصعد الإنسان العادي سلم البطولة، ومن مستوى سطح الأرض والمعيشة، خطوة فخطوة يجد نفسه مضطرا لأن يصمد كل حين خطوة، وإلا هانت عليه نفسه وقضي على كيانه المعنوي قضاء تاما مع الموت الجسدي.
أقول: لو كان قادتنا الثوار العظماء المتحمسون لمعركة لا ينال فيها أحدهم أذى، ولا تخدش له إصبع، وإنما يموت فيها الناس البسطاء العاديون، ويفرون هم هاربين في آخر لحظة، أو حتى قبل آخر لحظة، لو كان هؤلاء القواد العظام قد أدركوا حقيقة الطبيعة البشرية، وطبيعة دور القائد أو القيادة من أنها تسبق القاعدة بخطوة واحدة لا تزيد، فلا تطلب من الشعب أبدا أن يقفز قفزة أكبر بكثير من قدراته العضلية أو الإرادية، وإنما القائد الثوري الحقيقي هو الذي يطلب من قاعدته الشيء أو الخطوة التي يرى ويرى الناس معه أنها ممكن أن تتحقق، فإذا تحققت فإن الشعب يتعلم اولا أنه يستطيع الخطو - وذلك في حد ذاته إنجاز عظيم - وثانيا يثق في أنه قادر على خطوة تالية مقبلة، وثالثا، وهذا هو الأهم، يثق ثقة عضوية ملموسة في قيادته، ويعرف أنها تدرك إمكاناته، ولا تطالبه بما لا طاقة لها به، وأنها في النهاية تعمل لمصلحته وليس لمصلحتها أو لتضخيم ذاتها.
ولو كنا كقادة عرب، أو مصريين بالذات، قد وعينا هذا الدرس لأدركنا أن القوات المسلحة وحدها، ولا فرق الصاعقة ولا المخابرات، ولا حتى كل احتياطي جيوشنا كفيل بأن يحسم معركتنا مع الاستعمار ومع إسرائيل، فنحن كنا لا نحارب دولة أو جارة، وإنما نحارب أخطبوطا ضاربا بآلاف سيقانه ومخالبه في كل أرجاء الأرض، وأن لا يقدر على هذا الأخطبوط إلا الشعب كله، ليس الشعب المصري وحده، ولكن الشعب العربي وشعوب العالم الثالث كلها، ولكنا قد فعلنا كما فعلت المقاومة الفرنسية، وبدأنا نعلم شعوبنا خطوات ممكنة محدودة ليقوموا بدور في المعركة، دور لا يمكن أن يعطي للعدو فرصة لتوجيه ضربة ساحقة إلى جماهير بالكاد بدأت تعرف العدو من الصديق، وعن طريق الخطوة الصغيرة إثر الخطوة الصغيرة يتصاعد الدور ويشتد عود الإنسان الفرد والإنسان الشعب والمجتمع، ويتعلم أن عليه أن يقوم بدور ما، وأن القيام به أمر ممكن، وهكذا نصل إلى اللحظة التي يمكن فيها أن نقوم بعمل جماعي كبير مرة واحدة وفي لحظة واحدة؛ إذ حتى لو لم يؤد هذا العمل إلى دحر كامل للعدو وانتصار كامل لنا، فإن فشلنا فيه لن يشتت شملنا، وما دمنا قد ذقنا متعة الكفاح معا، والثقة بأنفسنا معا، فإن التاريخ سيعيد نفسه وأن لا نكل حتى ننتصر.
إن نجاح ثورة 19 مرجعه إلى أن المطلب الشعبي فيها بدا بسيطا جدا وممكنا جدا، وقانونيا جدا ولا غبار عليه، أن يجمع الشعب توقيعات يوكل فيها قادة ثورة 19 بأن ينوبوا عن الشعب في مفاوضة الإنجليز.
Неизвестная страница