وفي السماء رزقكم وما توعدون
وقدم الشيخ الجليل تفسيرا بعيدا عن منطوق الآية وعن مفهومها البسيط؛ إذ فوجئت به يقول إن معنى الآية أن الله سبحانه ينزل المطر على الجبال، فتحمل المياه المنحدرة الطمي وتذهب به إلى الأنهار، ويستعمل الإنسان ماء الأنهار إلى الري، فيخصب الطمي الأرض وينتج عنها الرزق. وفي الجزيرة العربية التي نزل فيها قرآننا الكريم لا توجد أنهار ولا طمي، ولم يكن العرب البدو الذين نزل القرآن الكريم لهدايتهم يعرفون حكاية الأمطار التي تسقط على جبال الحبشة وتحمل معها مياه الطمي إلى وادي النيل. الأمثلة كثيرة وليس هذا مجال تعدادها، ولكني أردت أن أوضح إلى أي مدى أسيء استعمال التليفزيون: صوت الحكومة من ناحية، ومن ناحية أخرى نفاق صارخ لنوع غريب من الإسلام فرضه علينا التليفزيون فرضا.
أما النفاق الآخر لجماهير الشعب فهو ذلك الترفيه الأبله الغريب الذي تحفل به قنوات التليفزيون ومنذ إنشائه إلى الآن: مسرحيات هلس، أفلام هلس، برامج هلس في هلس، لا يكاد يستثنى إلا بعض البرامج القليلة جدا التي تبدو عارية تماما وسط ذئاب الهلس وكلابه النابحة.
ولهذا لم يعد غريبا أن ينتقل الهلس والتفريط في القيم والإسلام الخالي من المحتوى الحقيقي لرسالة الإسلام العظيمة، أن ينقل كل هذا من الشاشة إلى الحياة، وأن تصبح حياتنا في معظمها هلسا في هلس، وأن تبلغ إنتاجية العامل والموظف 27 دقيقة في اليوم، كأننا تحولنا إلى متفرجين على الحياة في عالم جاد يأخذ حياته وأموره بجدية، ولا يخجل أبدا من نواقصه وعيوبه بل يفضها ويناقشها ويعالجها.
ظاهرة الذين يأخذون الملايين من البنوك ويهربون أو يعلنون إفلاسهم كيف لا يناقشها التليفزيون، الغش الجماعي، الإرهاب، غلو الأسعار وجشع التجار، التعليم الخاص الذي أصبح مهزلة، والعلاج الخاص الذي أصبح أكثر ربحا من تجارة المخدرات، سياستنا الخارجية، قطاعنا العام، قوانين الانتخاب، أحكام القضاء ... ألف قضية وقضية كان من الممكن أن يخوض فيها التليفزيون دون أن تسقط - لا قدر الله - الدولة أو تحدث ثورة؛ فالثورات والسقوط تحدث حين يتجاهل الحكام ما تحفل به صدور الناس وما تختنق به حلوقهم من غيظ مكبوت، أما المناقشة - وهي الديمقراطية الحقيقية - فهي التي لا تجعل إنسانا يمسك ببندقية آلية ويقتل غيره، وفي نفس الوقت يعرض نفسه للقتل أو للإعدام.
وبصراحة أقل: إن سبب هذا كله هو عدم وجود سياسة إعلامية، سواء في جرائدنا أو إذاعتنا، وبالذات في تليفزيوننا - نظرا لأهميته القصوى - لقد اشترى الشعب المصري تليفزيونات بمليارات الجنيهات ويصرف على ال 26 ألف موظف في مبنى الإذاعة والتليفزيون الملايين والملايين، وكل هذا لنرفه عن أنفسنا بعد يوم لم نعمل فيه لنتعب سوى نصف ساعة. ووجود سياسة إعلامية يحتم لا بد أن يكون هناك مشروع قومي لمصر الآن: صنع في مصر شعار جميل، ولكنه شعار الإنتاج أيضا، شعار أن ننتج غذاءنا شعار أيضا، ولكن المشروع القومي هو شيء آخر هو «كل» يشمل هذه الأجزاء وغيرها، ماذا نريد أن نصنعه خلال السنوات العشر القادمة؟ وكيف نصنعه؟ ماذا في مجتمعنا من عيوب تدفعنا إلى الاستدانة وكيف نخرج من المأزق؟ إن أخطر أمور حياتنا متروكة للاتكال وللشطارة الفردية التي أصبحت وسيلة كل مصري للحصول على قوت يومه وتأمين حياته، وكأننا كشعب قد انفكت حزمتنا القومية وتحولنا كلنا إلى أكل عيش ومستهلكين بطريقة أصبح معها من يفكر في مصلحة الشعب مثارا للسخرية والتهكم. ولا شك أن هناك خطة معادية وراء فك الشعب المصري، ولكنها خطة تعتمد في تنفيذها علينا نحن كشعب، وعلى إذكاء روح الاتكال والإهمال وتكريه بعضنا في بعضنا الآخر، وقسمتنا إلى مسلمين وغير مسلمين وجنود الله وجنود الشيطان، وإقامة بعض منا لأنفسهم مقام المولى سبحانه وتعالى في محاسبة خلقه، ليس فقط عما يفعل أو يرتكب، وإنما حتى على ما يحتويه مكنون ضميره والحكم عليه واتباع الحكم بالتنفيذ المدعوم المعجل.
وإذا كنت أصر على التليفزيون دون سواه؛ فلأننا نؤمن إيمانا لا شك فيه أن هذا الجهاز بما يمتلكه من شعبية وتأثير كفيل بأن يغير تماما من موقف الإنسان المصري وسلوكه وطموحه، ويحل الجماعية القومية محل الفردية الانتهازية، ويوقظ الضمائر التي ماتت أو في طريقها إلى الموت، ويخفض من صوت الميكروفونات العالية التي تصم آذاننا عن أن نسمع أصوات ضمائرنا، وأن نتأمل في هدوء سلوكنا على ضوء تعاليم إسلامنا أو مسيحيتنا.
في عام واحد - وأكاد أقسم - يستطيع التليفزيون بسياسة إعلامية ديمقراطية حقيقية أن يغير تماما من وجه مصر والمصريين، ذلك الوجه الذي أصبح مثار شكوانا، بل وثورتنا بل والباعث الحقيقي الكامن وراء عمليات القتل ومحاولاته والتعصب الأعمى والإرهاب.
في عام واحد يستطيع التليفزيون أن يعلمنا الكثير، ليس على نسق دروس المواد التعليمية، وإنما باستخدام كل طاقاتنا وذكائنا من أجل أن نبتكر طرقا لمخاطبة شعبنا مخاطبة تعلمه وتمتعه، ومنها يصعد إلى المستوى الذي يصبح التعليم والتثقيف والإدراك والوعي - في حد ذاتها - متعة لا تقارن بكل متع الأرض.
الشعب القوي هو الذي يغير
Неизвестная страница