بل أكثر من هذا، سمحت لنفسي - ولست سياسيا - أن أتصور الغد الآسيوي، وهو غد يكاد يكون مفاجأة. لقد حاولت أمريكا أن تبني اليابان قاعدة رأسمالية تقود القارة إلى معسكر الرأسمال، ومنذ نهاية الحرب واليابان تبدو لأمريكا وكأنها أطوع لها من بنانها في هذا الاتجاه، ولكن المسائل بدأت تتكشف، ومع ازدياد القوة الاقتصادية اليابانية بدأت اتجاهاتها، أو رياح اتجاهاتها المستقلة تهب، وإذا كانت أمريكا قد بذلت المستحيل لتصنع من اليابان والصين إسفينا يبقي العداوة بينهما إلى الأبد، فإن تقديري الشخصي أن الإسفين سيتحول بطريقة لم يحلم بها أحد . ومنذ الآن تضع اليابان خططها لتتكامل اقتصاديا مع العملاق الأحمر المجاور، وبالصين واليابان معا، بآسيا الاشتراكية والرأسمالية التي بدأت تعود لتصبح وطنية بعد أن استنزفت ما استطاعت استنزافه من رأس المال الأمريكي، بهما معا، في القريب، ستنشأ كتلة أو معسكر متكامل متناسق آخذ من الغرب كل علمه وأسراره الرأسمالية ومن الشرق كل خلاصة تجاربه الاشتراكية، وبدأ وسيبدأ يحقق لآسيا وجودا لم يكن لها في يوم من الأيام، ومثلما خيل لبعض المعلقين أن احتمال حدوث الحرب بين أمريكا وروسيا أقل من حدوثها بين الصين وروسيا؛ فالاحتمال الذي سيكشف عنه المستقبل أن آسيا، بغربها وشرقها بصينها ويابانها، ستقف وجها لوجه أمام الاتحاد السوفييتي باشتراكيته، والغرب برأسماله. •••
وإذا كان هذان القطبان الآسيويان في مركز أقل، وليسا الدولتين الأعظم بعد، فإن الانفجار الاقتصادي والصناعي في الصين واليابان يتطور بسرعة مخيفة، وعلى يد العقلية الآسيوية الدائبة المتقشفة الظامئة إلى الوجود والتفوق من زمن طويل، سيصل إلى آفاق لا يمكن أن يتصورها أحد.
عصر آسيا
نحن مقبلون إذن على عصر آسيا ...
والصراع الآن على أشده.
اليابان تحاول أن تسحب من الرأسمالية الأوروبية والأمريكية، وتصبح هي موردة الصناعة والصناعات لبقية البلاد المرتبطة بالرأسمالية.
والصين تحاول أن تحل محل الاتحاد السوفييتي في قيادة الثورة ضد الاستعمار والنفوذ الاستعماري بكافة أشكاله في البلدان التي تبغي التحرر.
وإذا انقسم العالم في بحر السنوات المقبلة، فإنما سينقسم إلى حضارة رأسمالية نامية مكتسحة، وحضارة غربية تحاول الدفاع عن النفس والوقوف في وجه ثلثي سكان العالم وقد امتلكوا أخطر أسلحة العصر: العلم والتكنولوجيا، وفوق هذا كله قوة النمو المتفجرة الدامغة بعد طول صبر وطول مقاومة.
وسيكون الحياد حينئذ، حياد بقية أوروبا أو بقية آسيا وأفريقيا، حيادا من نوع آخر، ليس فقط حيادا بين المذاهب، ولا بين الاشتراكية والرأسمالية، وإنما حياد بين آسيويين لا نهائي العدد، «أمريكيون أوروبيون» انتهت خلافاتهم المذهبية والنظامية يقتلهم الرعب من الخطر «الأصفر» الذي طالما تخيلوا بتنبؤاتهم وجوده، ولكن مع هذا، أتمنى أن يحدث شيء آخر.
أتمنى أن يكون وقوف الإنسان الآسيوي على قدميه، ووقوف الإنسان الأفريقي على قدميه، فرصة أمام الواقفين على أقدامهم فعلا، لا لكي يقاوموا هذا الوقوف من الجانب الآخر أو يعتبروه الخطر الساحق، وإنما بداية لعالم آخر جديد، وقانون آخر يسود هذا العالم؛ قانون المساواة، قانون العالم الأنضج الأقوى، قانون لا يعود يسمح بقوة وحيدة ما، أو حضارة واحدة ما، أو منتصر واحد ما، يسود ويخضع له الباقون. وإنما تبلغ بعقولنا حد الاعتراف أن السيادة المفردة ولت أيامها وأن العصر عصر تعاون السادة، عصر التشارك وليس عصر التفرد، عصر التقاسم وليس عصر الاحتكار، عصر التنوع وليس عصر النموذج الواحد، عصر مساهمة الحضارات أجمع في رقي العالم أجمع، وليس عصر إملاء الحضارة الواحدة على العالم كله.
Неизвестная страница