Мадина Фадила
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Жанры
وقد ألحق بيكر منذ إتمامه الدراسة بوظائف التعليم في الجامعات، وعانى الكثير في أول الأمر، قال تلميذه جرشوي: إن التدريس في مستهل عمله في الجامعة كان شاقا قاسيا عليه، وبلغ منه التهيب أن مجرد التفكير في مواجهة طلابه كان يشقيه،
5
إلا أنه تغلب شيئا فشيئا على ذلك، إلى أن أصبح الاجتماع بتلاميذه بالنسبة له، وبالنسبة لهم من أسعد أوقاتهم.
درس بيكر في عدة جامعات، وكان أول عهده بكرسي الأستاذية، حينما عين أستاذا للتاريخ في جامعة كنساس، ومن كنساس انتقل لكرسي التاريخ في جامعة كورنل في سنة 1917، وبقي فيها أستاذا، ثم أستاذا فخريا حتى وفاته في سنة 1945.
والمتتبع لمذهب بيكر في التاريخ - كما طبقه في اختيار موضوعاته وفي طريقة تأليفها وتصنيفها - يلاحظ عليه تماسك أجزائه وانسجامها وائتلافها، تماسكا وانسجاما وائتلافا يبلغ أقصى الحدود، والمذهب تام النمو، مكتمل التكوين من مبدأ حياته العملية، والمذهب أيضا مذهب صنعه صاحب أدق صناعة، فلم يطرأ إلهاما أو توفيقا أو عفو الخاطر، بل كان مذهبا عقليا، دقيقا من الطراز الأول، والمذهب يقتضي أن يكون المؤرخ عنصرا فعالا في عملية التفكير التاريخي والتأليف، وليس ذلك على اعتبار أن المؤرخ يفكر ويكتب، أو يؤلف فحسب، بل على اعتبار أنه متضمن هو نفسه فيما يفكر فيه أو يؤلف فيه.
والمؤرخ - عند بيكر - حينما يدرس حدثا أو أحداثا أو ما إلى ذلك، يدرس في الواقع حالة من حالات الشعور أو العقل، ترتب وجودها واكتسبت شكلها من عوامل طارئة على حالة عقلية أو شعورية سابقة، فأينما يبدأ المؤلف فإن مادته تتركب من قديم متطور تحت تأثير طارئ عليه، وينبغي ألا يفوتنا أن هذا التطور أو التحول ليس عملا آليا أو تلقائيا، بل إنه يحدث في الغالب استجابة لمقتضيات اجتماعية جديدة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك المؤرخ، حينما يختار الموضوع، وحينما يحاول التفكير والتأليف فيه، لا يستطيع بالمرة أن يعتزل عصره أو - بعبارة أدق - جوه الفكري، لينتقل إلى الجو الفكري لما اختاره؛ ولذا تعين على المؤرخ أن يعرف نفسه قبل أن يعرف غيره، وأن يعرف زمانه قبل أن يعرف زمان غيره، فإن نفسه وزمانه جزآن لا يتجزآن من مادة التفكير والتأليف. وعالم التاريخ - عند بيكر - أشبه ما يكون ببهو من المرايا، الخيال فيها يعكس خيالا آخر، بحيث يصعب الاهتداء إلى الأصل، وجو المؤرخ الفكري - عند بيكر - هو المرآة العاكسة التي لا يرى الماضي إلا بواسطتها.
هذا مذهب بيكر إجمالا، فماذا نقول فيه؟ نقول فيه: إنه يمثل الواقع، وإن كان لا يمثل المثل الأعلى. والفرق بين بيكر وزملائه في أمريكا وفي غير أمريكا، أنه سجل هذا الواقع، وأنه رأى أن التسجيل هو الأجدى والأخلق بالمؤرخ، إن أراد أن يعمل عملا خالصا لغاية، بينما هم رفضوا التنكر للعرف الأكاديمي أو - إن جاز لنا أن نقول - «لسر المهنة».
وعلينا أن نتبع بيكر قليلا فيما ذهب إليه من أثر نفس المؤرخ وزمان المؤرخ في عمل المؤرخ؛ لكي نرى ما كان لنفس بيكر وزمان بيكر في عمل بيكر، وقد جاء في «المدينة الفاضلة» قوله:
إن فلاسفة القرن الثامن عشر حين كتبوا عن أثينا وروما، أو الصين والهند، كانوا لم يغادروا فرنسا أو أوروبا، ولا القرن الثامن عشر إطلاقا. وبيكر كذلك حين كتب عن القرن الثامن عشر، لم يغادر القرن العشرين أو أميركا القرن العشرين، فالقرن العشرون وبصفة خاصة الفترة بين الحربين العالميتين، كان المرآة العاكسة التي رأى بها القرن الثامن عشر.
وقد شهد أصدقاء بيكر، وتشهد الكتب، أن الرجل على تلهيه بما يلهو به الناس، وعلى رصانة الأسلوب واتزان العبارة وبراءة الدعابة ولين النقد، كان ذا نفس حيرى، وأكاد ألمس في كلامه عن بسكال كلاما صادرا عن القلب، وخصوصا حين يقول: إن الكون لا يكترث إطلاقا لهذا الإنسان، كما أكاد ألمس ذلك أيضا في مقاله المؤثر «حيرة ديدرو»،
Неизвестная страница