مديح القرآن الصغير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الهدى فيما نزل من كتابه مكملا، ونزل برحمته للعباد منه بيانا كريما مفصلا، فيه لمن استغنى به أغنى الغنى، ولمن اجتنى ثمرات هداه أكرم مجتنى، لا يجتوي عن جناه أبدا مجتو، ولا يدوى مع شفائه أبدا مدو، نور أعين القلوب المبصرة، وحياة ألباب النفوس المطهرة، إلف فكر كل حكيم، وسكن نفس كل كريم، وقصص الأنباء الصادقة، ونبأ الأمثال المتحققة، ويقين شكوك حيرة أولي الألباب، وخير ما صحب من الأصحاب، سر أسرار الحكمة، ومفتاح كل نجاة ورحمة، قول أرحم الراحمين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فأي منزل سبحانه ونازل وتنزيل، لقد جل سبحانه وتنزيله عن كل تمثيل، وطهر وتقدس - إذ وليه بنفسه، ونزل به روح قدسه - عن قذف الشياطين وأكاذيبها، وافتراء مردة الآدميين وألاعيبها، فأحكم عن خطل الوهن والتداحض، وأكرم عن زلل الاختلاف والتناقض، فجعل بآياته مترافدا، وبضياء بيناته متشاهدا، غير متكاذب الأخبار، ولا متضايق الأنوار، بل ضحيان النور، فيحان الأمور، سيحان الأنهار بالحياة المنجية، واسع الأعطان والأفنية، ساطع النور والبرهان، جامع الفصل والبيان، فأنواره بضيائه زاهرة، وأسراره لأوليائه ظاهرة، فما إن يواري عن أهله الذين أستودعوا علمه من سرائر سريرة، ولا يدع ما وضح من نوره في قلوبهم من مشكلة حيرة، بعزائم حكماته المنزلة، ودلائل آياته المفصلة.
Страница 26
فسبحان من جاد به طولا، وجعل سببه به موصولا. لقد أجل سبحانه به المنة على العباد، ودلهم به تبارك وتعالى على كل رشاد، فجاد لهم سبحانه بما لا تجود به نفس وإن عظم جودها، وكبر في الجود بالعطايا المحمودة محمودها، لقد جاد لهم منه بكنوز لا تبلى، وأعطاهم به عطية لا يجد لها واجد وإن جهد، فبذل لهم به منه كنز الكنوز، ودلهم به على كل نجاة وفوز، فتح لهم أبواب الجنان، وهداهم به سبيل الرضوان، ونبأهم فيه عن نبأ السماوات العلى، وما مهد تحتهن من الأرضين السفلى، وما فتق من الأجواء، بين الأرض والسماء، وعن خلق الملائكة والجن والإنس فقد نبأهم، وعن كل علم كريم مكنون فقد به أتاهم، قص به عليهم أخبار القرون الماضية، وأخبرهم فيه بمن أهلك بذنبه من الأمم العاتية، فكل عجيب من الأشياء، أو قصة كريمة من قصص الأنبياء، فقد أوصل فيه علمها إليكم، وأورد عجيب نبأها به عليكم.
Страница 27
[وصية الإمام بالقرآن]
فعلى كتاب ربكم هداكم الله فاقتصروا، وبه فهو ذو العبرة فاعتبروا، ففيه نوافع العلم، وجوامع الكلم، التي يستدل بقليلها على كثير من ملتبس قال وقيل، ويستشفى من علمها بتفسير أدنى ما فيها من دليل.
فسبيل قصده فاسلكوا، وبه ما بقيتم فتمسكوا، فهو ذروة الذرى، وبصر من لا يرى، وعروة الله الوثقى، وروح من أرواح الهدى، سماوي أحله الله برحمته أرضه، وأحكم به في العباد فرضه، فلا يوصل إلى الخيرات أبدا إلا به، ولا تكشف الظلمات إلا بثواقب شهبه، من صحبه صحب سماويا لا يجهل، وهاديا إلى كل خير لا يضل، ومؤنسا لقرنائه لا يمل، وسليما لمن صحبه لا يغل، ونصيحا لمن ناصحه لا يغش، وأنيسا لمن آنسه لا يوحش، وحبيبا لمن حآبه لا يبغض، ومقبلا على من أقبل عليه لا يعرض، يأمر بالبر والتقوى، وينهى عن المنكر والأسواء، لا يكذب أبدا حديثا، ولا يخذل من أوليائه مستغيثا، إن وعد وعدا أنجزه، أو تعزز به أحد أعزه، لا تهن لأوليائه معه حجة، ولا تبلى له ما بقي أبدا بهجه، ولا يخلقه كر ولا ترداد، ولا يلم به وهن ولا فساد، ولا يعي به وإن لكن لسان، ولا يشبه فرقانه فرقان، ومن قبل ما صحب الروح الأمين، والملائكة المقربين، فكان لهم هاديا ومبينا، وازدادوا به من الله يقينا.
فاتخذوه هاديا ودليلا، واجعلوا سبيله لكم إلى الله سبيلا، حافظوا عليه ولا ترفضوه، واتخذوه حبيبا ولا تبغضوه، فإنه لا يحب أبدا له مبغضا، ولا يقبل على من كان عنه معرضا، ولا يهدى إليه من عاداه، ومن تعامى عنه أعماه، ولا يبصر ضياءه إلا من تأمله، ولا يعطي هداه إلا أهله، من ضل عنه أضله، يقلد جهله من جهله، إن أدبر عنه أدبر، أو أقبل عليه بصر .
Страница 28
جعله الله يتلون في ذلك بألوان، ويتفنن فيه على أفنان، فهو الهادي المضل، وهو المدبر المقبل، وهو المسمع المصم، وهو المهين المكرم، وهو المعطي المانع، وهو القريب الشاسع، وهو السر المكتوم، وهو العلانية المعلوم، فمرة يهدي إليه من اصطفاه، ومرة يضل من أبى قبول هداه، ومرة يقبل على من أقبل إليه، ومرة يدبر عن من التوى في الهدى عليه، ومرة يسمع من استمع منه، ومرة يصم من أعرض عنه، ومرة يهين الأعداء، ومرة يكرم الأولياء، يعطي من قبل عطاه، ويمنع من أبى قبول هداه، يقرب لمن ارتضاه، ويشسع عمن سخط قضاه، يعلن لأوليائه ويظهر، ويكتتم عن أعدائه ويستر، نور هدى على نور، وفرقان بين البر والفجور، أرشد زاجر وآمر، وأعدل مقسط ومعذر، يوقظ بزجره النوماء، ويعظ بأمره الحكماء، ويحيي بروحه الموتى، ولا يزيد من مات عنه إلا موتا، يعدل أبدا ولا يجور، وكل أمره فقدر مقدور، ظاهره ضياء وبهجة، وباطنه غور ولجة، لا يملك حسن أنواره، ولا يدرك باطن أغواره، فمن ظهر لظاهر مناظره، رأى أعاجيبه في موارده ومصادره، ومن بطن لمستبطنه، رأى مكنون محاسنه، من غرائب علمه، وأطايب حكمه، لباب كل لباب، وفصل كل خطاب، وحكمه من حكم رب الأرباب، اكتفى به منه في هداه لأوليائه، واصطفى به من خصه الله سبحانه باصطفائه، فمصابيح الهدى به، تزهر واهجة، وسبل التقوى به إلى الله تلوح ناهجة، يحتاج إليه ولا يحتاج، سراجه أبدا بنوره وهاج، يعلم ولا يعلم، ويقوم ولا يقوم، فهو المهيمن الأمين، والفاصل المبين، والكتاب الكريم، والذكر الحكيم، والرضى المقنع، والمنادي المسمع، والضياء الأضوى، والحبل الأقوى، والطود الأعلى، الذي يعلو فلا يعلى، ولا يؤتى لسورة من سوره أبدا بمثل ولا نظير، ولا يوجد فيه اختلاف في خبر ولا حكم ولا تقدير، فصل كل خطاب، وأصل كل صواب.
Страница 29
فجعلنا الله وإياكم من أهله، وعصمنا وإياكم بحبله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وأهله وسلم تسليما.
وبعد: فإنا لما رأينا - فيه من جوامع الهدى واليقين، وكان الهدى واليقين به مقدمة معتصم كل دين - علمنا متيقنين، وأيقنا مستيقنين، أن لن نصيب رشدا، ولن ننال مطلوب هدى، إلا به وعن تفسيره، وبما نور الله القلوب به من تنويره، فنظرنا عند ذلك فيه، واستعنا بالله عليه، فوجدناه بمن الله لكل علم من الهدى ينبوعا، ورأينا به كل خير في الهدى مجموعا، فلا خير في الحياة الدنيا كخيره، ولا يهتدى لأحكام الله بغيره، من طلب الهدى في غيره لم يجده أبدا، ومن طلبه به وجد فيه أفضل الهدى، فقصدنا قصده، والتمسنا رشده، فأي رشد فيه وجدنا ؟! وإلى أي قصد منه قصدنا؟! تالله ما غابت عنه من الهدى غائبة، ولا خابت لطالب فيه خائبة، لقد كشف ستور الأغطية، وأظهر مكنون سر الأخفية، فأوجد مطلوب ملتمسها، وأبان ملتبس مقتبسها.
Страница 30
[السياسة المنحرفة تحرف القرآن]
على ما بلي به قديما من تلبيس ملوك الجبابرة، وأتباعها من علماء العوام المتحيرة، في توجيهها له على أهوائها وتصريفه، وتأويلها له بخطئها على تحريفه، حتى عطل فيهم قضاؤه، وبدلت لديهم أسماؤه، فسميت الإساءة فيه إحسانا، والكفر بالله إيمانا، والهدى فيه عندهم ضلالا، وعلماء أهله به جهالا، ونور حكمه ظلما، وبصر ضيائه عمى، بل حتى كادت أن تجعل فاؤه ألفا، وألفه للجهل بالله فاءا، تلبيسا على الطالب المرتاد، وضلالة من العامة عن الرشاد، فنعوذ بالله من عماية العمين، والحمد لله رب العالمين.
فلو لا ما أبدى الله سبحانه من كتابه وحججه، وأذكى سبحانه من تنوير سرجه، لأباد حججه - بتظاهرهم - المبطلون، ولأطفأ سرجه الظلمة الذين لا يعقلون، ولكن الله سبحانه أبى له أن يطفى، وجعله سراجا لأوليائه أبدا لا يخفى، ولذلك ما يقول سبحانه: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} [التوبة: 32].
Страница 31
ولعلنا ولا قوة لا بالله العلي الكبير، وبالله نستعين على ما هممنا به لكتابه من التفسير، أن نضع مما علمنا الله فيه طرفا، وأن نصف فيه من وصف الحق وصفا، نبين عنه بما يحضرنا فيه الله من التبيين، ونعتمد فيه على ما نزله الله به من هذا اللسان العربي المبين، فإن الله جعله مفتاح علمه، ودليل من التمسه على حكمه، فلا يفتح أبدا إلا بمفاتيحه، ولا تكشف ظلمه إن عرضت في فهمه إلا بمصابيحه، فعنه فاستمعوا، وبه وفيه فانتفعوا، واعلموا أنا لن نضع من ذلك إلا قليلا وإن أكثرنا، وأنا وإن بلغنا من تفسيره كل مبلغ فلن نمسك عنه إلا وقد قصرنا، وإن لكل تفسير منه تفسيرا، وإن قل تفسيره كثيرا، ولكل باب منه أبواب، وكل سبب فقد تصله الأسباب، إلا أنا سنقول في ذلك بما يحضرنا الله فهمه، وما نسأل الله أن يهبنا في كتابه علمه.
ونبدأ من تفسير كتاب الله بما نرجو أن يكون الله به بدأ، من تفسير السورة التي أمر نبيه أن يسأله فيها الهدى، وسماها عوآم هذه الأمة فاتحة الكتاب والفرقان، وقال بعضهم: اسمها أم القرآن، وذلك مما يدل من يستدل، على أنها أول ما نزل، لا كما يقول بعض جهلة العوام بغير ما دليل ولا برهان، أن أول ما نزل من القرآن: {إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق} [العلق: 1 2].
ألا ترى كيف يقول: اقرأ ما يقريك، باسم ربك الذي نزل عليك، فأخبر جل ثناؤه أن قد نزل عليه قبلها، الاسم الذي أمره أن يقرأ به فيها ولها، وأن يقدمه في القراءة عليها، ثم يصير بعد القراءة به إليها.
ألا ترى أنه لو كان ما قد قرأ، هو ما أمر عليه السلام أن يقرأ، لكان إنما أمر بفعل تام مفعول، وقول قد تقدم مقول. وإنما اسم ربه الذي أمر أن يقرأ به بسم الله الرحمن الرحيم، الذي قدم به في صدر كل سورة عند أول كل تعليم.
Страница 32
والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى آله، تم المديح الصغير، بمن الله اللطيف الخبير.
Страница 33