Разумное и неразумное в нашем интеллектуальном наследии
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Жанры
وتوكيدا لهذا الأساس النقدي عنده، تراه لا ينفك يردد - صفحة بعد صفحة - بأن اللفظ في ذاته ليس مناط الحكم في وجود الجمال الأدبي أو امتناعه، حتى فيما قد يظن بأن للفظ الدور الأول فيه، كالتجنيس والاستعارة مثلا، فيقول في التجنيس: «ما يعطى التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى؛ إذ لو كان باللفظ وحده، لما كان فيه مستحسن، ولما وجد فيه إلا معيب مستهجن ...» (ص5)، «فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته» (الموضع السابق نفسه)، وكذلك يقول في الاستعارة: «أما الاستعارة فهي ضرب من التشبيه، ونمط من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما ... تدركه العقول، وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان» (ص15).
هكذا أصبح الأمر غاية في الوضوح، فإذا سئلت: ما وجه الجمال في هذا البيت من الشعر، أو في هذه الجملة من النثر؟ كان جوابك: إنه هو الطريقة التي رتبت بها الألفاظ ترتيبا منطقيا معقولا، كما ترتب خطوات البرهان في نظرية هندسية، دون أن يكون للفظ نفسه بما قد يكون فيه من صقل وبريق ونغم أي دخل في صحة الحكم، فالجمال الأدبي هو نفسه أداء المعنى أداء لا يلتاث فيه القول ولا يلتوي؛ لأن الأدب هو فوق كل شيء «للتفاهم»، فهؤلاء الذين يزوقون الكلام ينسون أن المتكلم إنما «يتكلم ليفهم، ويقول ليبين» (ص6)، و«لن تجد ... أجلب للاستحسان من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلا ما يليق بها» (ص10).
على أن المعاني التي يراد لها أن تؤدى، والتي بأدائها على الوجه الأفضل (والوجه الأفضل هو دائما الأقرب إلى التسلسل المنطقي بين لاحق وسابق) يكون للعبارة التي قامت بالأداء «معنى» ويكون لها في الوقت نفسه «جمال» أدبي، أقول إن هذه المعاني التي يراد لها أن تؤدى، ليست كلها سواء في المنزلة والرتبة؛ لأن منها ما هو تافه ومنها ما هو شريف جليل، وكنت أتمنى لو أن الجرجاني أعطانا الميزان الذي نفرق فيه بين المعنى التافه والمعنى الشريف، لكنه لم يفعل، وتحدث كما لو كان الأمر واضحا في ذاته، لا يحتاج إلى مزيد من إيضاح، [وأرجو أن يلاحظ بأن سياق الحديث هنا فيه نوع من الترجمة التي أترجم بها ما ظننت أن الجرجاني يريده، وإلا فلم يذكر هو شيئا صريحا عن هذا التفاوت بين التافه والشريف، وإنما الفهم والتعبير من عندي]، كل ما أراد أن يلفت إليه الأنظار، هو أن عبارتين قد تشتركان في طريقة كل منهما لأداء معناها، لكنهما بعد ذلك يتفاوتان؛ فإحداهما تخلد وتبقى لأن المدار فيها هو جوهر شريف في ذاته، يظل على نفاسته مهما تغيرت صورته، وأما الأخرى فتنطوي على باطن هزيل؛ ولذلك فسرعان ما تفقد قيمتها إذا زالت عنها الظروف التي أكسبتها تلك القيمة، والأمر في هذا شبيه بصياغة واحدة تجريها على قطعة من الذهب وقطعة من الجص، فالأولى تظل ذهبا حتى لو أعدت تشكيلها، وأما الثانية فتفقد قيمتها لو فقدت زخرفها ... «إن من الكلام ما هو كما هو، شريف في جوهره، كالذهب الإبريز، الذي تختلف عليه الصور، وتتعاقب عليه الصناعات، وجل المعول في شرفه على ذاته، وإن كان التصوير قد يزيد في قيمته ويرفع في قدره، ومنه [أي من الكلام] ما هو كالمصنوعات العجيبة من مواد غير شريفة، فلها - ما دامت الصورة محفوظة عليها لم تنقض، وأثر الصنعة باقيا معها لم يبطل - قيمة تغلو ومنزلة تعلو ... حتى إذا خانت الأيام فيها أصحابها ... وفجعتهم فيها بما يسلب حسنها المكتسب بالصنعة ، فلم يبق إلا المادة العارية من التصوير، والطينة الخالية من التشكيل، سقطت قيمتها ...» (ص20-21).
42
وننتقل مع الجرجاني إلى قضية أخرى، لو كان في عصرنا وعرضها كما عرضها، لعد من زمرة أدبية نقدية تجعل «الصورة الذهنية» مدارا يدور عليه الحكم بالقيمة الأدبية وجودا وامتناعا، فلا أدب عند هؤلاء إلا إذا صيغ في «صورة» يكون بينها وبين المعنى المراد عرضه علاقة موازاة؛ بعبارة أخرى، إذا كانت الجملة «العلمية» عليها أن تصف الواقعة أو الحقيقة وصفا مباشرا، فالجملة الأدبية مطالبة بأن تشير إلى المعنى المراد بطريق غير مباشر؛ لأنها ترسم لنا صورة، فننظر نحو إلى هذه الصورة ونتأملها، حتى ننتقل خلالها إلى ما يريد الأديب أن يسوقه إليك من معان أو مواقف.
في ذلك يقول الجرجاني: «جل محاسن الكلام، إن لم نقل كلها، متفرعة عن التشبيه والتمثيل والاستعارة، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها» (ص20). ولكن أين الجانب «العقلي» في مبدأ كهذا؟ نجيب فنقول - على ضوء التحليلات المنطقية الرياضية المعاصرة - إن علاقة «التشابه»، أو كما يسمونها في المنطق الرياضي «علاقة واحد بواحد»، هي آخر الأمر ما ينتهي إليه تحليلنا للفكر البشري بأسره؛ فالفكر يبدأ حين يبدأ «التعميم»، والتعميم لا يكون إلا إذا وجدت معطيين حسيين قد وازى أحدهما الآخر في طريقة البناء، انظر إلى الطفل - مثلا - وهو يتعلم حرفا من حروف الهجاء، ولنقل إنه حرف «ج»، فنحن نقدم له أول الأمر هذا الرسم مرة، ثم مرة ثانية، وثالثة ... وقد يختلف الرسم في كل مرة، لونا وحجما، وطريقة كتابة، وفي لحظة من لحظات المقارنة يلقف الطفل أساس البنية التي تشترك فيها هذه الحالات جميعا، بما يلحظه بينها من «علاقة واحد بواحد» (أي التشابه) فكل طرف في إحداها يقابله طرف في الأخرى، وكل علاقة في إحداها بين طرفين، يقابلها علاقة مثلها في الأخرى، وها هنا تتكون لديه «صورة» لما يراد له أن يتعلمه، وإذا لم ترتسم في ذهنه هذه «الصورة»، أي هذا الإطار المكون فقط من أطراف وعلاقات، بغض النظر عن المادة التي كتبنا الحرف بها، أهي الطباشير أم المداد أم الرصاص، وبغض النظر عن اللون، أهو أحمر أم أزرق أم أخضر، وبغض النظر عن الحجم، أهو يملأ الصفحة كلها أو السبورة كلها، أم يملأ نصفها أم يكتفي بمساحة ضئيلة، أقول: إنه إذا لم ترتسم في ذهنه هذه «الصورة» العامة، لما جاز أن نقول عنه إنه «تعلم» ما يراد له أن يتعلمه ... وهذا نفسه ما نبلغه في «الصورة» الأدبية؛ فليس المراد أن نقف عندها لذاتها - عند أصحاب هذا المذهب - بل نؤمل لمطالعها أن يستشف وراءها من مواقف الحياة الفعلية ما يوازيها طرفا بطرف وعلاقة بعلاقة، وإذا كان إدراك البنية المشتركة، أو التشابه، هو أعمق أساس ترتكز عليه العملية العقلية، فكذلك يكون الأخذ بمذهب الاستعانة «بالصور» في البناء الأدبي، موقفا عقليا في صميمه.
ولا يكتفي الجرجاني بأن يذكر هذه الحقيقة ذكرا عابرا، بل - مدفوعا بنظرته المنطقية إلى الأمور - يحاول تعليلها، والتعليل في كل صوره عملية عقلية، فلماذا يشترط في العبارة الأدبية أن تلتمس «صورة ذهنية» توازي في تكوينها الحقيقة المراد ذكرها؟ لماذا لا نذكر تلك الحقيقة المقصودة ذكرا مباشرا، بغير التوسل إليها بصورة نرسمها لتوازيها؟ يجيب الجرجاني بقوله: «إن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء - تعلمها إياه - إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع؛ لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع، وعلى حد الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر ... وكما قالوا: ليس الخبر كالمعاينة» (ص102-103).
ها هنا يعطيك الجرجاني التعليل على درجتين؛ فالتعليل على الدرجة الأولى، هو أن قيمة الصورة التي توازي الحقيقة المراد ذكرها، هي في أنها بمثابة ما ينقلنا من حالة الغموض إلى حالة الوضوح، من حالة يكتنفها فيها الضباب فتنطمس الأشياء أمام البصر، إلى أخرى تسطع فيها الشموس فتنجلي أمامنا الأشياء بملامحها وحدودها، والغرض هنا هو أن تكون الحقيقة المراد ذكرها مما تتعذر رؤيته في جلاء، وأن الصورة التي رسمت موازية لها في التكوين هي من خبراتنا المألوفة، ومن ثم فهي واضحة الدلالة، وأما التعليل على الدرجة الثانية، فهو مقام على أساس التدرج الإدراكي عند الإنسان من المحسوس إلى المعقول، أي مما ندركه بإحدى حواسنا من بصر وسمع وغيرهما، إلى ما ندركه بعقولنا وهو في حالة من الفكر المجرد، كما يتدرج الطفل في إدراكه من رؤيته إلى رجل مفرد معين هو أبوه، لا يدرك منه إلا ما يقع عليه البصر من شكل وحركة، وما يقع على سمعه من صوته وهكذا، إلى إدراكه للإنسان من حيث هو فكرة عامة مجردة، لم يكن أبوه إلا مثلا واحدا من أمثلتها، ولا شك أن الانتقال من المحسوس إلى المعقول المجرد هو انتقال أيضا من البساطة إلى التركيب، ومن يسر الإدراك إلى عسره، فإذا كنا نستعين على الحقيقة المراد عرضها بصورة ذهنية توازيها، فالشرط هو أن تكون الصورة مما يحس في دنيا الأشياء الجزئية المجسدة، وإلا فلو كان ما نستعين به على فهمنا لفكرة مجردة هو فكرة مجردة أخرى، فإننا نكون في كلتا الحالتين على مستوى الحقائق النظرية، وتزول الصفة «الأدبية» عن الموقف، وإنما يكون للموقف التعبيري خاصته الأدبية، إذا وازينا بين ما هو مجرد من جهة وما هو محس من جهة أخرى، فيجيء هذا معينا على ذلك.
وفي هذه التفرقة بين المحسوس والمعقول، يقول الجرجاني: «ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولا من طريق الحواس والطباع، ثم من جهة النظر والروية، فهو إذن [أي العلم الأول] أمس بها رحما، وإذا نقلتها [أي النفس] ... عن المدرك بالعقل المحض، وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس، أو يعلم بالطبع ... فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم» (الموضع السابق ذكره) ... خذ مثلا لذلك قول القائل: فإن تفق الأنام وأنت منهم، فإن المسك بعض دم الغزال، ها هنا جانبان؛ أولهما فكرة مجردة عقلية، والآخر صورة محسوسة ومستقاة من الخبرة المألوفة، فإذا أخذتك الريبة والدهشة من الحقيقة الأولى حتى شككت في صوابها، جاءتك «الصورة» فأخرجتك من ريبتك إلى حيث ترى الحق واضحا، فربما تساءلت عن الجانب الأول من البيت المذكور؛ كيف يعقل أن يكون الفرد المعين عضوا في مجموعة وفي الوقت نفسه يفوق أقرانه فيها؟ أليس هنالك تناقض بين أن يكون الفرد عضوا في نوع، وفي الوقت نفسه يكون كأنه نوع متميز قائم برأسه؟ إنه لأمر غريب «أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به، إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس»؟ لكنك عند انتقالك إلى الشطر الثاني تواجهك «صورة» من مألوف خبرتك في حياتك العملية، فها هو دم الغزال يؤخذ ليستخرج منه بعضه فإذا هذا المستخرج مسك، هو من دم الغزال لكنه يفوق سائر العناصر المشاركة له.
خذ مثلا ثانيا «للصورة» كيف تأتي في العبارة الأدبية معينة على جلاء ما في الحقيقة المراد ذكرها من مضمون فكري:
Неизвестная страница