Разумное и неразумное в нашем интеллектуальном наследии

Заки Наджиб Махмуд d. 1414 AH
106

Разумное и неразумное в нашем интеллектуальном наследии

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Жанры

ولنعد إلى المنهج الديكارتي المعروف، ما هيكله وتفصيلاته؟ إنه قائم على أساس أن يبدأ الناظر من مدركات مباشرة، لا يحتاج يقينها إلى أكثر من أن يراها رؤية باطنية بلا وسيط من عمليات الاستدلال، وذلك بعد أن يكون قد أفرغ نفسه من كل ما تحتوي عليه من محصول فكري جاءه من قبل عن طريق حواسه وعن طريق استدلالاته العقلية، فعندئذ ينظر في نفسه النقية هذه، ليرى ماذا يمكن أن يجد هناك من حقائق أولية تستحيل على الشك ثم يأخذ في توليد النتائج من تلك الأوليات اليقينية، فما دام الاستدلال سليما فلا بد أن تجيء النتائج صادقة صدق المقدمات الأولية، بذلك نقيم بناء العلم على يقين من أول خطوة فيه إلى آخر خطوة.

فاقرأ للغزالي عن هذه الخطوات نفسها: الشك في المعلومات التي سبق لنا أن حصلناها عن طريق الحواس أو عن طريق العقل، ثم البدء من أوليات يقينية تستمد يقينها من إدراكنا لها إدراكا مباشرا، ثم الانتهاء من تلك الأوليات اليقينية إلى نتائج تلزم عنها فتكون في مثل يقينها.

يقول الغزالي (في «المنقذ من الضلال» وهو بصدد تحليله لمعلوماته السابقة)، وذلك بعد أن استعرض معلوماته التي جاءته عن طريق الرواية والتقليد: «فقلت في نفسي إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي، فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا، لم يورث ذلك شكا وإنكارا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما الشك فيما علمته فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم حقيقي.

ثم فتشت عن علومي، فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة، إلا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لا مطمع في اكتساب المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات؛ أهو من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟

فأقبلت بجد بليغ، أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا [أي بعد أن كانت نفسه رفضت التسليم بمعلوماته الآتية إليه عن طريق النقل والتقليد والرواية] وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيه حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه، تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته.»

وهنا لا بد لي من وقفة جد قصيرة، قبل أن أمضي مع الغزالي في مراحل تشككه، التي هي المراحل نفسها التي سيرى العالم بعد ذلك بخمسة قرون ديكارت يسير فيها فيرسم لأوروبا الحديثة كلها منهاجا للسير. أقول: إنه لا بد لي هنا من وقفة جد قصيرة، أحذر فيها القارئ من سرعة الظن بأن الغزالي ومن بعده ديكارت، قد أصابا الحق حين تشككا في صدق الحواس على نحو ما فعلا، فأقول في ذلك ما قاله فلاسفة التحليل التجريبيون المعاصرون، في نقدهم لديكارت، إن ما قد ظنه الغزالي خطأ وقعت فيه حاسة البصر ثم صححه العقل، إنما هو خطأ في الاستدلال العقلي لا في الإدراك الحسي؛ وذلك أني إذا رأيت الظل واقفا غير متحرك، فاستدللت من ذلك نفي الحركة عنه، فإنما كان الخطأ هو في هذا الاستدلال؛ لأن الذي نبهني للخطأ بعد ذلك هو لقطة حسية أخرى جاءتني عن طريق المشاهدة - والمشاهدة إدراك بحاسة البصر - بعد ساعة، كما يقول الغزالي، وكذلك حين رأيت الكوكب صغيرا في مقدار دينار، فالخطأ هنا هو أن أستدل مما أراه نتيجة لا تلزم بالضرورة عنه ، والواجب المنهجي هو أن أقول: إن حجم الكوكب في رؤيتي هو كحجم الدينار، أما ماذا يكون حجمه في الحقيقة فطريق العلم به طريق آخر.

ولنعد بعد هذا التحذير الذي أردنا به ألا يتشكك القارئ - كما تشكك الغزالي وديكارت - في أمانة الحواس وما تدركه؛ لأن ما تدركه الحواس عن الأشياء الخارجية محال أن يكون كذبا من حيث هو خبرة معينة وقعت لصاحبها، حتى لو اختلف الناس جميعا بعد ذلك في خبراتهم عن تلك الخبرة المعينة، فما زالت خبرة المشاهد هي خبرته كما وقعت له، فإذا جاءت الحاسة نفسها بعد حين ولقطت من الشيء نفسه خبرة أخرى تصحح الخبرة السابقة، كأن أرى جسما من بعيد فأظنه إنسانا حتى إذا ما اقتربت منه وجدته شجرة، فلا ينبغي أن ننسى أن الذي صحح لنا الخبرة الحسية الأولى خبرة حسية ثانية. ومع ذلك فلا أحسب أن كلمة «صحح» هنا جائزة؛ لأنه لا خطأ في كلتا الحالتين؛ لأنه قد كان لنا في كل حالة منهما لقطة حسية متميزة بخصائصها، فالأصح أن نقول: إنه قد تعاقبت على المشاهد هنا لقطتان حسيتان؛ الأولى وهو بعيد، والثانية وهو قريب، والأرجح أن تكون اللقطة من قريب هي المنبئة عن حقيقة الواقع، لكن ذلك لا ينفي أن اللقطة البصرية الأولى كانت تشبه ما نلقطه إذا وقع البصر على إنسان لا على شجرة ... فلنستأنف بعد ذلك حديث الغزالي: «فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا [أي بعد أن بطلت الثقة قبل ذلك في التقليديات التي جاءته عن طريق النقل والرواية] فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما، موجودا معدوما، واجبا محالا.

فقالت المحسوسات: بما تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته.

فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا، وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ، فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل، هو حق بالإضافة إلى [أي بالنسبة إلى] حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها، وإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها.»

هكذا رسم لنا الغزالي طريقا للشك المنهجي، لا نرى بعده شيئا ننسبه إلى ديكارت ولا ننسبه إليه، ثم ماذا بعد أن أبرأ نفسه من معلومات الحس والعقل؟ إنه لا بد أن يلتمس طريقا إلى «أوليات» - أعني حقائق واضحة بذاتها يستحيل أن تكون موضع شك؛ لأن نفيها إنما يجيء إثباتا لها، وإذن فليس من ثبوتها بد - يقول: «فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية [أي الحقائق الواضحة بذاتها غير المحتاجة إلى برهان لبيان صدقها] فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل» ... ثم يروي لنا الغزالي أن العلة قد أصابته من شدة حيرته سعيا وراء تلك العلوم الأولية التي يطمئن لصوابها، والتي يعود من جديد فيبني عليها بناء المعارف العقلية التي كان قد شك في صحتها، لكنه هذه المرة يقيمها وهو آمن، إلى أن شاء له الله أن ينقذف نور في صدره «وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» وما هذا النور إلا حقائق يراها صادقة بالفطرة، فيؤسس عليها سائر العلوم.

Неизвестная страница