على أنني راض بأن أحمل الهوى
وأخلص منه لا علي ولا ليا
فلبثت ثلاثة أيام لا تروعني في خلالها روائع الدهر، حتى ظننت أن الدهر عاد إلى شيمة الوفاء، ولم يبق لي شيء أخافه. وفي اليوم الرابع بينا أنا جالس في حديقة البيت إذا زائر يتقدم نحوي، فتأملته فرأيتها شابا حسن البزة والوجه، فلما دنا مني سألني: هل أنت ولي الدين يكن؟ قلت: نعم. فأخرج لي بطاقة كتب عليها اسمه، وهو ممتاز بك من موظفي نظارة الداخلية، فرحبت بقدومه ولم أسأله عن سبب زيارته تأدبا، وقربت منه كرسيا وسألته الجلوس، فجلس، وبعد دقائق قضيناها في تكرار جمل التحيات على العادة الشرقية قال لي: أرسلني إليك ممدوح باشا ناظر الداخلية لأبلغك أنه يريد مواجهتك في أمر ذي بال، ويقول إذا استطعت أن تزوره قبل العصر فاذهب إلى النظارة، وإذا لم تستطع ذلك فإنك تجده بمنزله الكائن بجهة «أرناءود كوي». وأمرني أن ألازمك في ذهابك لكيلا تتكلف تعب السؤال عن المنزل.
قلت: سمعا وطاعة. غير أنني لم أحظ قبل اليوم بلقاء الوزير، فماذا ترى يريد أن يخاطبني فيه؟ - لا أدري.
وكانت الشمس مالت إلى الغروب، فنهضت ولبست ملابسي ورافقت الرجل إلى منزل ممدوح، فأخبرونا أنه رجع من النظارة على عادته ثم دعاه السلطان إلى «يلديز»، وقالوا لممتاز بك: أمرنا الباشا أن نستبقيك مع من دعوت إلى أن يعود من القصر. فأقمنا في انتظار الناظر نحو ساعة من الزمان، فلما جاء أدخلت إلى عنده، فألفيته واقفا إلى جانب الباب فاستقبلني بأحسن ما يستقبل به قادم، وناولني الخادم سيجارة فلم يرض الباشا أن أشعلها وناولني أخرى من علبته، وأشعل لي كبريتة بيده فدخنت سيجارتي وقلت في نفسي: ترى ما وراء هذا الإكرام! فبدأني بالحديث، قال: كثيرا ما كنت أسمع الناس يتحدثون بفضلك وأدبك فأشتاق إلى رؤيتك. غير أنني لم يقسم لي أن أراك إلا في هذا اليوم، وأود ألا تكون هذه آخر زيارة؛ فإن البيت بيتك وكل من به يفرحون لقدومك. فأجبته بما يسع المقام، ثم قال لي: أأنت ابن أخي محمد فائق بك يكن؟ - نعم. - أنعم به وبك، هو صديقي من القديم وأنا ممن يفتخرون بمودته. والآن زادت جرأتي في بيان ما أريد لك، فاسمع كلامي وتأمله ولا تتعجل الاعتراض. أنا لي ولد هو أسن منك، ولي من التجارب ما لا يتاح لسنك. وقد كنت صديقا للمرحوم نامق كمال الشهير، وهو أشعر الشعراء وأكتب الكتاب غير منازع، فأخلصت له النصيحة في ترك اللجاج والرجوع إلى طاعة أولي الأمر، فلم يحفل بمقالي وسخر من نصحي، فلما خاب في مساعيه وعثرت جدوده ندم حين لا يجدي الندم. وقد رآني في أيام نكبته مرة فقال لي: صدقت يا ممدوح فيما قلت لي، وليتني كنت تبعت رأيك وعملت بمشورتك فكفيت ما ألاقيه اليوم. وإنما أبدؤك بهذا الكلام لتجعله عظة لك، إني أتاني أنك تناضل قوما من المقربين عند السلطان. وهذا ما لا أرضاه لك؛ ما لنا نحن ولهم، هم خاصة رجل نحن من رعيته، ولا يطمع عاقل في أن يعاقب السلطان أحد خاصته إكراما لمن ليس من أندادهم. إذا كنت تريد من السلطان شيئا فبالرفق والحسنى تناله. ولقد قال الحكماء: يدرك بالحكمة ما لا يدرك بالقوة. هذا كلام لم يأمرني به السلطان ولا طلبه مني أحد من مقربيه، ولكني أقوله لك متوسما فيك الرأي والسداد، وإذا شئت أن تكتب فاكتب ما ينفع بلادك. والذم لا ينفعها. ألف روايات وترسل فيها ببيانك المعلوم، أو فاكتب كتبا في التاريخ والأدب، وإذا كانت لك عند السلطان حاجة فتعال إلى بيتي ولك علي أن أكون رسولك إليه، وإذا لم أرضك فاشتمني وذمني ما شئت، أنا لا أواخذك، وأحمل منك ذلك على فتنة الشباب. أما غيري فيؤاخذك ويطالبك بحقه، والسلطان لا يذل خاصته، ولا غنى له عنهم. والآن وقد سمعت كلام أب يغار على أهل الفضل والحسب أن يصيبهم مكروه، فهل أنت واعدي بترك نضالك؟! - ما ثم من نضال، شتموني ثم اعتذروا ، وسمعت الشتم أولا وقبلت المعذرة ثانيا، فلا أنا مغبون ولا الدهر غابن. - حسبك. قد رضيت منك بما تعهدت. أما رجوعك إلى مصر فلا أراه صوابا، ولا يضيع العاقل خيرا هو بيده جريا وراء أهوائه. فشكرت كلام الرجل كما يوجبه الأدب وخرجت من عنده، وما أطربني من كلامه إلا لفظه دون معناه؛ فإن ممدوحا من رجال الأدب الذين عاشروا كمالا وأصحابه وأوتوا البيان وفصل الخطاب. غير أنه فتنه ذهب عبد الحميد وقلت قيمة الوطن عنده، فحسب الذهب يبقى والوطن يفنى، فكان من الأخسرين أعمالا.
هذه الزيارة فذة لا ثانية لها، وما سرني أن يكون لي بمودة ممدوح ملك الدنيا، وهو رجل لم تطلع الشمس على ألأم منه، وأعلم أنه خاطب كثيرين بمثل ما خاطبني؛ ليستجلب قلوبهم ويشتري نفوسهم ويلقي بهم في هلكات العار.
وقد أطلت الكلام في هذه الفصول حتى كدت أخرج عن الصدد، بل خرجت عن الصدد. وإنما أردت بذكر هاته المحادثات أن يقف القراء على عقول أركان الاستبداد وعلى تنوع أهوائهم؛ فهي منقولة إليهم بغير زيادة ولا نقص، وكأن كاتبا كان يكتب ما يدور بيني وبين هؤلاء الناس. وربما يخيل لبعض القراء أن ببعض لأخبار مبالغة فلا يصدقون وقوعها، فيقولون كيف يكتب ولي الدين كذا وكيف يتجاسر أن يقول كذا وهو في قصر عبد الحميد بين يدي خاصته؟! ولكن هذه الوقائع يعلمها كثير من الناس، وهم لا يزالون بالآستانة، ومنهم من جاء مصر وأقام بها، فإن كانوا يعلمون فيما ذكرت شيئا يخالف الصواب فليتفضلوا بذكره ولينشروه بالجرائد، وإذا هم لم يستطيعوا نشرها نشرتها أنا لهم بأية جريدة يريدونها.
شتم وضرب وقتل
عاصمة ملك أم مرسح ملعب!
كل بلد فيها من الفضائح ما يظنه الناس لا يتحصل في غيرها، وكل معشر لهم من المثالب ما يخاله المرء لا ينشأ إلا منهم. ولو تأمل حال الدنيا لبيب رأى عواصمها مكامن للأسواء ومعاشرها صناديق للعيوب. فلست أريد أن أذم ماضي فروق من هذه الوجهة؛ وما ذنب فروق وهي روضة غناء، زهرها ابتسامها ومزنها بكاؤها، جنة أراد قوم أن تكون جهنم فلم تكن. وإنما الذنب ذنب فئة باغية تقدمها عبد الحميد، فكانت كالسيل إذا دهم والطامة إذا حلت.
Неизвестная страница