قلت: لم أستصحب معي شيطاني، ولا أدري إن كان يهتدي إلى موضعي فيأتيني أم يدعني الليلة أخرس لا أنطق بشيء. ومجمل القصة أننا أصبنا راحنا ونلنا طعامنا، ثم خرجنا إلى الحجرة التي دخلناها أولا، فأخرج عزت من «جيبه» ورقة بها قصيدة (أظنها للفاضل النبهاني)، فأشار إلينا أن أنصتوا وراح ينشدها علينا، فسمعت شعرا غير جيد ولكنني آثرت السكوت ولم أعب منه شيئا، فقال عزت: هذا رجل من رجال أبي الهدى، ولكنه صلي بناره، فلجأ إلى ركني وأنا حميته نكاية بأبي الضلال. آه، ماذا أقول لكم أيها الإخوان؟ أقالني الله من خدمتك يا سلطان يا عبد الحميد، وأذهب الله عني كل عز نلته على يديك، قولوا بالله آمين. فقال الحاضرون: حاش لله أن نجيبك إلى طلبك، هذا دعاء لن يتقبله منك الله، وكم عند مولانا السلطان مثلك من صادق يحبه ويفتديه بحياته!
قال: هذا الذي سيجلب علي البلاء، أنا والله أحبه وأهابه وأعلم أن محبتي له مهلكتي، ثم أية لذة أجدها في حياة كلها خوف ونصب؟! الناس إذا أمسوا رجعوا إلى بيوتهم، فعاشوا بين أهلهم وأحبابهم، وأنا كالضيف في بيتي. لقد أنزع عني ثيابي وأذهب إلى فراشي، فلا أمهل أن تأخذني سنة من نوم إلا والرسل تتبع الرسل يتعجلون ذهابي معهم إلى القصر، فأذهب وأنفي راغم، وكثيرا ما يكون استدعائي لأمر غير ذي بال أو ليسألني سؤالا لا يفيده شيئا، فأظل هنالك ساعات طويلة، وحين أهم بالعودة إلى داري أجد الليل وقد نزع جلبابه ونصل إهابه، فأبقى بالقصر ولا أعود إلى مساء اليوم الثاني. والناس يحسبون عزت العابد رافلا في حلل السعادة بالغا من العز منتهاه، تعالوا انظروا وحدته في حجرته وكيف تجري مدامعه ثم احسدوه إذا شئتم.
قلت: يا سيدي، هذه حالك من دون المقربين، أم كلهم كذلك معذبون؟
قال: الشكاية على قدر الأعباء، أما المصيبة فمتوزعة بيننا على السواء، أنت تخرج من هنا وتذهب إلى بيتك فتجلس إلى أهلك أو صحبك، وإذا شئت خرجت إلى معاهد اللهو وصنعت كل ما تشتهيه نفسك، لا يعارضك في ذلك معارض، فمن من رجال القصر يقدر أن يذهب حيث تذهب؟ ومن منهم يجد متسعا في وقته ليأنس إلى أهله أو من يحبهم ولو كان مرة واحدة في الأسبوع؟! هذا ما لا يحلم به أحد منا. ولولا مرضي لما وجدت إلى هذه الراحة سبيلا. وقد أزف الوقت وبلغ السهر مداه، فاستأذنا من مضيفنا في الذهاب وسلمنا عليه وخرجنا، ثم ودعت مصطفى ظافر ورجعت إلى بيتي، فلما خلوت إلى حجرتي أشعلت سيجارتي وجلست أدخن بها وأتفكر فيما رأت عيناي وسمعت أذناي.
فقلت: ويل لهذا السلطان، يقيم خاصته على أبوابه كرها لا رضاء، ولو أمنوا غدره لولوا من قصره طالبين نجاتهم. هذا عزت العابد، أهل الآستانة وسائر أهل الأقطار العثمانية يحسبونه في نعمة ليس وراءها مطمع؛ كل يتمنى لو نال أقل ما نال هو من عز باهر وسلطان قوي؛ وها هو الساعة أمامي تكاد عبرته تسبق كلامه. غير أن ما أشكل علي فهمه ولم أجد له إذ ذاك جوابا شافيا، هو المعرفة بحقيقة عزت؛ أهو خائن كما يزعم الناس أم غير خائن؟ فإن كان ما يزعمون صدقا فما هو الدليل على صدقه؟ وإن كان كذبا فما هو الدليل على كذبه؟ كلا القولين بلا مرجح يرجحه. أما ما رأينا من شكايته المرة فلا يعتد به، وربما اشتكى خوفا من عواقب خيانته وانكشاف أمره للناس، وربما اشتكى أيضا أنفة من مشاركة عبد الحميد في آثامه وحياء من أن يكون من أبناء أمة ويعمل مع عدوها على قتلها. نعم، قال إنه يحب عبد الحميد، وحاشية الرجل الظالم لا يستطيعون أن يقولوا غير ذلك؛ فهم يعرفون غضبه ويحذرون نقمته. ولقد قال أيضا إن حبه لعبد الحميد مهلكه يوما. وهذا منتهى ما يقدر أن يقوله قائل في مثل موضعه. فنمت وأنا أمني النفس باستجلاء تلك الغوامض يوما وإن أبت إلا امتناعا.
إلى هنا أكتفي بهذا القدر من الكلام على ظافر وعزت، وسأرجع الحديث إلى ذكرهما لاتصاله بذكر غيرهما.
شر جديد
لما أتم شقيقي يوسف حمدي يكن بعض أعماله التي جشمته السفر إلى مصر، وفرغ من طبع رسالتي المسماة «الخافي والبادي» عاد إلى الآستانة، فأقام معي نحو العام أو أكثر، ثم أراد السفر إلى مصر زاعما أن طول مقامه بالآستانة أكسب فكره الخمول، وأنه يريد أن يتنسم نسائم الحرية التي درج من عشها وعاش في ديارها، وإنما أراد أن يصدر بمصر جريدة ينشر فيها ما رآه بالآستانة من آثار الظلم وطلائع الدمار. تبينت ذلك في حديثه وإن كان بالغ في كتمانه ظنا منه أني ربما منعته عن إتمام بغيته، فسررت وأظهرت التغابي وتمثلت بقول القائل:
إذا مقدم منا ذرا حد نابه
تخمط منا ناب آخر مقدم
Неизвестная страница