فلهذه الأسباب وغيرها مما تيسر سرده يحق لأبناء مصر ولكل الذين يهتمون بأمورها أن يندبوا فقيد مصر الذي عاجلته منيته فاخترمته قبل أوانها؛ لا سيما وأنها وافته حينما زالت المصاعب التي خصت بخديويته في بداءتها، وابتدأ يجني ثمار جده الدائم الشديد وجهده الثابت الجهيد لتحسين أحوال مصر في السنين اليسيرة الماضية.
وزد على ذلك أيضا أنه منذ سنة أو سنتين، زاد نصيبه الخصوصي في تولي الأمور وإداراتها بنفسه، فتوفر الخير والفائدة لبلاده، وكانت الثقة به آخذة في الازدياد والتعاظم في نفوس الموظفين والوطنيين والأوروبيين الذين مازجوه، وفي نفوس الأهالي عموما، وكانوا يزيدون كل يوم اعتبارا لصدقه واستقامته وصحة حكمه وحسن تمييزه. والحق يقال إن الناس على اختلاف طبقاتهم حزنوا حزنا حقيقيا على وفاته في شبابه.
وأضيف على ما تقدم أن سموه طالما شكر وأثنى في حديثه معي على ما فعلته حكومة جلالة الملكة لإنقاذ بلاده من الفوضى في أيام الفتنة العرابية. وقد كان سموه طول أيام حكمه على غاية الصداقة والمودة مع حكومة جلالة الملكة ومع الإنكليز الموظفين في الحكومة المصرية، وكان يعلم حق العلم أن الغاية الوحيدة من السياسة الإنكليزية في الديار المصرية إنما هي خير المصريين ورفاهتهم؛ وعلى ذلك كان يجري في معاملاته معهم ومع سواهم.
ومما يزيدني رغبة في إيفاء سموه حقه بهذه الشهادة هو أنه نظرا إلى صعوبة مركزه أخطأ كثيرون حقيقة تصرفه، ولم يصيبوا في فهم البواعث التي كانت تبعثه على أفعاله، وإذا قلت ذلك فإني أقوله عن ثقة بعد تقادم عهد العلاقة الشديدة التي كانت بيني وبين سموه.
ولما توفي إلى رحمة ربه خلفه بكره سمو البرنس عباس باشا حلمي على عرش الخديوية عملا بنص الفرمان الشاهاني الصادر في 8 يونيو سنة 1873. أما الفرمان الناطق بتولية سموه فلم يأت من الآستانة حتى الآن، ولكن جلالة السلطان بادر بعد وفاة الخديوي السابق فاعترف له بالخلافة الشرعية على الخديوية ... إلخ، ويتلو هذا الكلام ثناء على مقام الإمارة الجديدة، ولولا طول التقرير لذكرته برمته في هذا الفصل.
ويستدل من هذا وما يتلوه، أن السياسة البريطانية كانت إلى عام 1892 سياسة ود وصفاء. قام العرابيون على أمير البلاد عصيانا وطغيانا، ووقفت الحكومة العثمانية وقفة الغريب لا تدري أي طريق يجب عليها أن تسلكه. وقد عرضت عليها إنكلترا إرسال جنودها العثمانية إرهابا للعاصين وعقابا، ووعدتها أن تحرس لها جنودها بدوارعها؛ فصدرت الإرادة السلطانية بإرسال عدد كاف من الجنود العثمانية التي كانت إذ ذاك بجزيرة كريد، إلا أن المرحوم الشيخ أسعد وكيل الفراشة وشى إلى السلطان بأن الأسرة الخديوية اتحدت مع الإنكليز على إعلان الاستقلال المصري والنداء باسم الخلافة لتوفيق باشا؛ فصدرت إرادة سلطانية ثانية نسخت الأولى، وبقي الجنود في كريد كما كانوا. وكتب الشيخ أسعد إلى العرابي وأعوانه يحضهم على الثبات ويعدهم بجعل الإمارة المصرية في نصابهم، إذا هم تمكنوا من طرد هذه الأسرة من مصر. فلما يئس الإنكليز من انتباه الحكومة العثمانية وارعواء المتمردين كلموا الثغر الإسكندري بألسنة المدافع وهبطوا مصر إن شاء الله آمنين.
فلما كانت الإمارة الجديدة التي ظهرت في عام 1892، وسبق منها ما سبق من التغيير الدال على تغير القلوب وجب على الإنكليز الانتباه.
ولما سقطت الوزارة الفهمية الأولى وحلت محلها الوزارة الرياضية حسب المخلصون لمقام الإمارة أن قد تم لهم ما يريدون ، وأن الزمان رجع إلى شيمة الوفاء وتاب عن الغدر. ولكن لم تلبث هذه الوزارة أن أشارت على الإمارة برأي كله خطل، فكان انتقاد الإمارة على الأعمال الجندية بما لا يوافق المجاملات السياسية مغضبا للقواد الإنكليز الذي يدربون الجيش المصري ويصلحونه. فاستعفى السردار كتشنر باشا ومن هم تحت أمره من الضباط واضطرت الإمارة إلى الاعتذار خطا وشفاها. وكانت الإمارة استدعت رئيس الوزارة الرياضية بالتلغراف سائلة إياه رأيه، فأشار عليها بالاعتذار وقفل راجعا من ساعته.
ولم تكتف الإمارة المصرية بهذا القدر من إعلان العداء للمحتلين وإظهار الإخلاص لجماعة من أهل البطالة والعرافين، فاتخذت بدار الإمبراطورية العثمانية من تعتمد عليهم وتحمل الهدايا إليهم. ومن هؤلاء عزت العابد وعبد الله النديم والمرحوم جمال الدين الأفغاني، ولا إخال أن في أكثر الفضلاء من المشتغلين بمثل هذه الأشياء من يكون نسي سفر الإمارة إلى الآستانة، متقدمة جماعة من أهل الشبيبة المصرية، معتمدة على آراء من ذكرت من رجالها، وقضية المضبطة التي قامت لها القيامة إذ ذاك معروفة، وما أريد من هذا كله إلا تجديد الصلة بين التابع والمتبوع في الظاهر، وبث الفتن في الباطن.
ثم ظهر مصطفى كامل وراح ينتصر بالمسيو دلونكل أحد أعضاء مجلس الأمة الفرنساوي وناظر المستعمرات في فرنسا في أواخر سنة 1894 تقريبا، وكان هذا الوزير ووزير الخارجية إذ ذاك المسيو هانوتو من أضداد الاستعمار الإنكليزي، ولم تكن فرنسا اقتنعت بنصيبها من البلاد المغربية بدل البلاد المصرية، فرحب الوزيران بالشاب المصري واستخدماه في آرابهما، فكان لهما أشد من البنان طوعا وأكبر من الظل انقيادا، فخلق مصطفى كامل من العدم وخلقت السياسة البريطانية الجديدة معه. ولما بدت على تلك السياسة التي كانت آية في الولاء والسلم آثار الاشمئزاز، بلغ الخوف من القلوب مبلغه، حتى لقد اضطر جماعة من أولي الحماسة إلى إنكار المضبطة متقدمة الذكر، وكانوا يريدون الاحتجاج بها على الاحتلال عند القصر السلطاني.
Неизвестная страница