يوم طليطلة
معركة الزلاقة
رذريق والمرابطون
يوم سرقسطة
معركة الأرك
معركة العقاب
يوم قرطبة
فاجعة غرناطة
المراجع
يوم طليطلة
معركة الزلاقة
رذريق والمرابطون
يوم سرقسطة
معركة الأرك
معركة العقاب
يوم قرطبة
فاجعة غرناطة
المراجع
معارك العرب في الأندلس
معارك العرب في الأندلس
تأليف بطرس البستاني
يوم طليطلة
تلك المملكة التي أسسها بنو أمية في الأندلس، وحقق عبد الرحمن الناصر وحدتها، وبسط بغزواته الظافر سلطانها - صار أمرها إلى الضعف والانحلال بعد أن سطا عليها الحاجب المنصور وأنشأ دولته العامرية في قلب دولتها، حاجرا على الخليفة هشام، مستقلا دونه بالنهي والأمر، فأسقط هيبة الأمويين من نفوس أهل الأندلس، ووطد فيهم هيبته بما أوتي من فتوح وانتصارات.
وانتقل الملك من بعده إلى ابنه عبد الملك، ثم إلى ابنه الآخر عبد الرحمن، وكلاهما جرى على سنن أبيه في الحجر على الخليفة، والاستبداد بالسلطة والنفوذ، غير أن عبد الرحمن طمحت عينه إلى الخلافة، فطلب من هشام أن يوليه عهده، فلباه هشام ونزل عند رغبته؛ لما هو عليه من الضعف والاستكانة، فنقم الأمويون والقرشيون على الخليفة، وخافوا أن يذهب الأمر من يدهم، فخلعوه وبايعوا محمد بن هشام - من حفدة عبد الرحمن الناصر - فتلقب بالمهدي.
وكان عبد الرحمن غائبا في غزوة، فلما بلغه الخبر قفل إلى قرطبة، فأرسل إليه المهدي من قبض عليه واحتز رأسه، فانقرضت بموته الدولة العامرية، ولكن محمد بن هشام لم يستقر ملكه على حال؛ لأنه جافى البرابرة لميلهم إلى العامريين، فأتمروا به وبايعوا المستعين بالله سليمان بن الحكم، فانشق البيت الأموي بعضه على بعض، ونشبت الفتنة بين الأميرين، فمرة كان ينتصر المهدي فيهزم المستعين، ومرة كان ينتصر المستعين؛ فيلجأ المهدي إلى الملك الإسباني فيمده ويعيده إلى عرشه، ثم تم الأمر للمستعين، فتغلب البربر على الأحكام وارتفع شأنهم.
وكان علي بن حمود الإدريسي قد جاء من المغرب، وأخذ يدعو البربر لمبايعته، معتمدا على نسبه الذي يرفعه إلى علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي، فبايعه البرابرة، فقتل المستعين وتلقب بالناصر، فلبثت الخلافة مدة من الزمن تتنقل بين الأمويين والحموديين حتى صارت للمعتضد بالله هشام بن محمد الأموي، فملك برهة يسيرة، ثم خانه وزراؤه وحرسه فخلعوه فهرب من قرطبة، وانقطعت به الدولة الأموية، فصار الأمر بعده إلى الوزير أبي الحزم جهور، فدعا جماعة العظماء إلى مشاركته في الحكم ليأمن معارضتهم؛ فارتضوا بذلك، ونشأ في قرطبة نوع من النظام الجمهوري، ولكن من طبقة الأشراف.
وأما ولايات الأندلس، فإن رؤساء الطوائف فيها من بربر وعرب وموال اقتسموا خططها، حتى كاد يكون على كل مدينة أمير مستقل فعرفوا بملوك الطوائف، ومثل هذا التفسخ العميم في جسم الدولة لا يدعو إلى التفاؤل بقيام نظام سياسي ثابت تهنأ به تلك الإمارات المستقلة، وبعضها يتفاوت عن بعض في قوته واتساع أرضه، فلا بد للقوي أن يطمع في ابتلاع الضعيف ليزداد به قوة، فيجد أمامه أميرا منافسا ينازعه التوسع، فيأخذ الضعيف تحت حمايته فيصبح تابعا له، وتقع الحروب بين هؤلاء الأمراء فيشل واحدهم قوى الآخر، وربما استنجد بعضهم على بعض الأمراء المسيحيين؛ فيغتنم أولئك الفرصة، فيهاجمون الأندلس يستولون على عواصمها، ويخضعون ملوكها، ويفرضون عليهم الجزية، أو يجعلونهم عمالا لهم، ولو لم يكن أمراء إسبانية هم أيضا على اختلاف مستمر وتنازع فيما بينهم، لما استطاع ملوك الطوائف أن يستقروا في الأندلس زمنا طويلا، مع ما هم عليه من تقسم وتخاذل.
وحاول ابن جهور صاحب قرطبة، أن يجمع شتيت الأمراء إلى دولته متوهما أن وجوده في عاصمة الأمويين كاف لأن يحمل سائر الولايات على الاعتراف بسلطانه؛ لأنها تعودت من عهد بعيد أن تخضع لحكام قرطبة، فكاتب الأمراء - كبارهم وصغارهم - يدعوهم إلى طاعته، فلم يحفلوا به، ولا تكلفوا مئونة الرد عليه، فاضطر أخيرا إلى أن يعترف باستقلالهم مكرها، وفي رأسه خطة يريد تحقيقها، وهي أن يوسع ملكه باغتصاب الإمارات الصغيرة التي لا قبل لها بمقاومته وحماية استقلالها.
ووجه حملة إلى هذيل بن رزين صاحب السهلة، فقهره واستولى على إمارته، فالتجأ هذيل إلى إلى إسماعيل بن ذي النون أمير طليطلة، فبادر هذا إلى إنجاده ليحول دون توسع ابن جهور، فطرد القرطبيين من السهلة وأعادها إلى صاحبها، ثم ناصب قرطبة العداء، فأصلاها حربا طويلة، تابعها من بعده ابنه المأمون.
وتوفي ابن جهور سنة 435ه/1043م، فانتقل الحكم من بعده إلى ابنه محمد، ولم يكن كأبيه صاحب قوة وعزم، وإنما عرف بالتعقل والعدالة، فأراد أن يصرف هذه الحرب عنه بالمصالحة فأباها عليه أمير طليطلة وصاحب السهلة واضطراه إلى القتال؛ لطمع المأمون في الاستيلاء على قرطبة، إلا أن غارات فردينان الأول على طليطلة وإثخانه فيها، كان يكره صاحبها على مهادنة ابن جهور حينا بعد آخر، فإن ملك جليقية (Galice)
وقشتالة (Castille) ، لم يغرب عنه ضعف ملوك الطوائف وتناحرهم، وأن الفرصة سانحة لامتلاك بلدانهم وبسط سلطانه عليهم.
فأخذ يهاجم الثغور الإسلامية، ينتزع المدن والحصون من أمرائها، ويفرض عليهم الجزية، فاستولى على قسم كبير من الأراضي البرتغالية - أملاك ابن الأفطس صاحب بطليوس (Badajoz) - وأغار على الدولة الهودية، في سرقسطة (Saragosse)
فأخضعها وألزم أميرها أن يؤدي له الجزية ويعينه على أمراء المسلمين، وأخضع أيضا المأمون أمير طليطلة وألزمه كما ألزم ابن هود، ثم غزا المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، فدحره وضرب عليه الجزية، فأصبح أعاظم الأمراء الأندلسيين يقدمون الطاعة لملك الجلالقة.
ولما صارت طليطلة في حماية فردينان، نشط أميرها المأمون يحيى بن ذي النون إلى محاربة ابن جهور صاحب قرطبة مستعينا بالقشتاليين، وبأحلافه بني عامر على حكام بلنسية (Valence) ، وابن رزين صاحب السهلة، فأحس ابن جهور بالخطر المحدق بإمارته، وأنه عاجز عن مقاومة هؤلاء المجتمعين عليه، فاستصرخ المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، وابن الأفطس أمير بطليوس، داعيا إياهما إلى التحالف على طليطلة - وكانت تهددهم جميعا - مؤكدا لهما اعترافه باستقلال دولتيهما، فبادرا إلى محالفته، وإمداده بالعساكر، ولكن المأمون ومن معه من الحلفاء استطاعوا أن يهزموا جيش ابن جهور وأنصاره، وأن يزحفوا إلى قرطبة فيضربوا عليها الحصار الشديد، فأصبحت لا نجاة لها من السقوط إلا إذا جاءها مدد من الخارج.
فعاد أميرها يستغيث بحليفه صاحب إشبيلية، وكان المعتضد يطمع في الاستيلاء على قرطبة ليبسط بها حدود مملكته، فرأى الفرصة سانحة لتحقيق رغائبه، فأمدها بجيش عظيم يصحبه وزيره محمد بن عمار، فسار الجيش إليها، وكشف الحصار عنها، فخرج القرطبيون يتعقبون أعداءهم، وفيما هم يدافعونهم ويثخنون فيهم أخذ ابن عمار يحتل العاصمة، ويمتلك حصونها، وكان أميرها محمد بن جهور مريضا، فآلمه الخطب لا يستطيع له ردا، فمات من قهره بعد أيام.
وعاد جيش قرطبة تخفق على رأسه ألوية النصر، وقد هزم جيوش طليطلة وأحلافها شر هزيمة، ولم تكن خيانة إشبيلية لتخطر له في بال، فلما رأى عاصمته بأيدي حلفائه، وأبوابها موصدة في وجهه، وقف مدهوشا حائرا أمام فاجعة لا يتوقعها، فدعاه الإشبيليون إلى الاستسلام، وكان على مقدمته عبد الملك ابن الأمير محمد، فراعه أن تنهار دولة أبيه، فاندفع كالمجنون يقاتل مستميتا، حتى سقط عن فرسه مغمى عليه من ألم الجراح، فارتد الحارث بن الحكم قائد الجيش القرطبي بفرسانه إلى مدينة الزهراء، فلبث معتصما بها مدة، ثم جاءه نبأ موت الأمير محمد وابنه عبد الملك، فترك الزهراء، وسار إلى طليطلة فحالف عدوه ابن ذي النون؛ لينتقم من ابن عباد حليفهم بالأمس!
وكانت طليطلة تؤدي الجزية - كما ذكرنا - لفردينان الأول ملك قشتالة، فلما مات قطعها المأمون عن أولاده مستفيدا من اختلافهم؛ فقد ثار واحدهم على الآخر، ينازع نصيبه من ملك أبيه، فوقعت بين الإخوة الثلاثة حروب أهلية متتابعة، تم فيها النصر أخيرا لبكرهم شانجه (Sancho) ، فضم إليه جميع ممتلكات والده سنة 1070م، وهرب أخوه غرسيه (Garcia)
إلى إشبيلية مستجيرا بالمعتمد بن عباد، وكان قد ولي الأمر بعد أبيه المعتضد.
ولجأ أخوه الثاني ألفنس إلى طليطلة مستجيرا بالمأمون، فأحسن وفادته وأنزله عنده عزيزا مكرما، إلا أن شانجه لم يعش طويلا بعد استئثاره بالدولة؛ فقد قتل غيلة في كمين نصب له سنة 1072م، ويقول المستشرق الألماني جوزف أشباخ: «إن هذا الكمين حدث بمسعى أخته أوراكا أو أخيه ألفنس، أو كليهما معا.»
ولما انتهى الخبر إلى ألفنس، غادر طليطلة وجاء لاون فاعتلى عرشها - نصيبه من أبيه - ثم جمع إليه عرش قشتالة - نصيب أخيه شانجه - وترك جليقية لأخيه غرسيه يتمتع بها بضعة أشهر ، ثم انتزعها منه، بعد أن اعتقله خدعة سنة 1073م، وزجه مغلولا في بعض الحصون، فلبث طوال حياته سجينا حتى مات.
ولم يغفل ألفنس عن تعزيز سياسته في الأندلس الإسلامية، وله من أمير طليطلة صديق آواه يوم كان طريدا ضعيفا، فعقد حلفا بينه وبين المأمون، تعاهدا فيه على الصداقة الخالصة والتعاون المشترك في ما يئول إلى خير بلديهما، فأصبح في وسع صاحب طليطلة أن ينتقم من عدوه ابن عباد ويستولي على قرطبة، فوجه إليها جيشا من فرسان طليطلة، والمرتزقة القشتاليين، معقود اللواء على الحارث بن الحكم - قائد ابن جهور - فهاجم الحارث عاصمة الأمويين حين غرة، ودخلها دون أن يلقى مقاومة، على أنه ما تحول إلى الزهراء يريد امتلاكها حتى تصدى له سراج الدولة ابن المعتمد بن عباد بحرس من المغاربة يدافع عن قصور الملوك وذخائرهم، إلى أن سقط في المعمعة صريعا، فانهزم الحرس، وتم النصر لطليطلة 468ه/1075م.
ودخل المأمون قرطبة ظافرا، إلا أنه لم يمتع بانتصاره؛ فقد توفي، وكان كبير السن مريضا، ويقول ابن خلدون إنه مات مسموما وحمل إلى طليطلة فدفن بها، وكان ابنه وولي عهده هشام قد مات قبله، فأوصى بالملك لحفيده القادر بالله يحيى بن إسماعيل - وكان هذا قاصرا - فأقام له مجلس وصاية من صديقه ألفنس السادس، والحارث بن الحكم وبعض الولاة، ولكن هذه الثقة بحليفه لم تقع موضعها؛ فملك قشتالة نسي ضيافة طليطلة وعطفها عليه، ونسي صديقه المأمون يوم أمنه من خوف، وغابت عنه العهود التي واثقه عليها، وما أقسم له من الأيمان على رعاية الأمير القاصر وحماية بلاده.
وأبت نفسه إلا أن تشعر بشعور العرش والوطن، فنجحت عنده مساعي ابن عمار وزير المعتمد، فارتضى أن يحالف صاحب إشبيلية عدو الملك الذي هو وصي عليه، وأن يعده بالمساعدة في توسعه ومحاربة الأمراء المسلمين، ورضي ابن عباد أن يساومه على أبناء ملته، فيترك يده حرة تتصرف في طليطلة، ثم يؤدي له الجزية صاغرا، لا يجد بها غضاضة في سبيل مطامعه، وتروي الأخبار الإسبانية أن المعتمد بن عباد بعث ابنته «سيدة » إلى بلاط ألفنس؛ تمكينا للصداقة! فاتخذها هذا حظية له! وكان أمراء إسبانية المسيحية يتسرون يومئذ بالنساء تشبها بأمراء الأندلس المسلمين.
على أن الرواية العربية تنفي هذه التهمة عن أمير إشبيلية، وتلقي نورا على حقيقة المرأة المسلمة التي صارت في حوزة الملك الإسباني؛ فقد تمكن المستشرق لاوي بروفنسال من جلاء هذا الحادث الذي بقي غامضا على المؤرخين المحدثين، ينفيه بعضهم، ويثبته بعضهم الآخر؛ وذلك أنه عثر سنة 1934م على رواية عربية أصح من الرواية الإسبانية وأثبت، أوردها ابن عذاري المراكشي في القسم الثالث من كتابه البيان المغرب، وفيها يقول: إن البعث الذي أرسله ألفنس السادس سنة 501ه/1108م لمحاربة أبي الطاهر تميم أخي السلطان علي بن يوسف، وكان يحاصر قلعة أقليش (Ucles) - قتل فيه أمام أسوارها ابنه شانجه من زوجة المأمون بن عباد، وكانت قد تنصرت مع نحو سبعة آلاف فارس.
فمن رواية ابن عذاري هذه يتبين أن الأميرة سيدة ليست بنت المعتمد بن عباد بل زوج ولده المأمون، وكان المأمون واليا على قرطبة من قبل أبيه، فلما هاجمها المرابطون - وعلى رأسهم القائد سير بن أبي بكر - قتل المأمون في الموقعة، ودخلها المرابطون ظافرين في 26 آذار سنة 1091م/3 صفر 484ه.
فالظاهر أن أرملة ابن المعتمد هربت مع ثلة من فرسانها إلى ألفنس السادس محتمية به، فتسرى بها وتنصرت مع جماعتها، ويؤيد ذلك دليل آخر وقع عليه المستشرق هنري بيريس، وهو عبارة عن فتيا كتبت في أواخر القرن الخامس عشر، أو أوائل القرن السادس عشر، وصاحبها الفقيه المراكشي يحيى الونشريشي، أفتى بها جوابا على سؤال: أيستطيع المسلم أن يغادر الأندلس إلى إفريقية إذا تيسر له، أم يبقى فيها ليساعد إخوانه في الدين؟
فكان جوابه بتحتيم الهجرة على من يستطيعها من المسلمين بعد استيلاء الإسبانيين على الأندلس محافظة على نسائهم؛ لئلا تعقد زوجة بعضهم أو ابنته صلتها بأعداء الدين، فيقودها الأمر إلى ترك الإسلام، كما أصاب كنة المعتمد بن عباد وأولادها الذين تنصروا معها وهم أبناء المأمون .
وبينما ابن عباد يزحف بجيشه إلى غرناطة ليخضع صاحبها ابن باديس، إذا ألفنس يتهيأ لغزو طليطلة واحتلالها 1079م، وكانت قد ثارت على أميرها القادر بن ذي النون؛ لإكثاره من فرض الضرائب إرضاء لشهواته وترفه، أو إشباعا لمطامع ملك قشتالة، فجاء ألفنس إلى طليطلة متذرعا بحجة الدفاع عن حليفه، فعاث في ولايتها مخربا قراها وحصونها، ثم ارتد عنها عندما بلغه أن المنصور أمير بطليوس قادم لنجدتها، وعاد في العام التالي يفسد في بسائطها، ويستبد بقلاعها وزروعها، وما زال يوالي عليها الغارات في كل عام حتى أضعفها، ونهك قواها، ورماها بالضيق والفاقة، ثم دلف إليها في السنة السادسة يبغي العاصمة نفسها، فألقى عليها الحصار حتى منع عنها كل صلة ومدد؛ فراحت تستغيث بأمير بطليوس؛ فأمدها المتوكل بن الأفطس بجيش على رأسه ولده الفضل، ولكنه لم يثبت أمام قوات ألفنس الساحقة فانهزم مدحورا، ولم يبق للقادر أمل من النجاة.
وكان الجوع يهدد المدينة فخاف أن يثور عليه الشعب فيقتله، فأرسل إلى ألفنس يطلب الصلح على أن يؤدي الجزية، ويكون تابعا له، فرفض ألفنس مطالبه، واشترط عليه أن يفتح أبواب المدينة ويسلمها إليه، واعدا بأن يحافظ على أرواح المسلمين ومقتنياتهم، وأن يترك لهم المسجد الجامع يصلون فيه، وأن لا يعارضهم في دينهم وشرائعهم، وخيرهم في البقاء أو المهاجرة، فمن أحب البقاء يؤدي الجزية كما يؤديها المسيحيون في بلاد المسلمين، ومن آثر الهجرة يسمح له بأن يحمل أمواله حيث يشاء، وضمن للقادر أن يدع له إمارة بلنسية يتصرف فيها، ولا يبخل عليه بالمساعدة إذا احتاج إلى الدفاع عنها.
في الخامس والعشرين من أيار سنة 1085م دخل ألفنس السادس - ملك قتشالة ولاون وجليقية - عاصمة القوط القديمة بأبهة وجلال، منتزعا من العرب إحدى قواعد الأندلس الكبرى: طليطلة العاصية التي طالما تمردت على أمراء المسلمين، فبذل عبد الرحمن الناصر، والحاجب المنصور من بعده، أعظم الجهود لإخضاعها وكسر شوكتها، فكان يومها المشئوم كارثة على الأندلس العربية؛ لأن قشتالة - حين تملكتها - أصبحت جاثمة على ضفتي نهر التاج، ممدوة النظر إلى ثغور المسلمين.
معركة الزلاقة
ما لبث المعتمد بن عباد - أمير إشبيلية - أن ساوره الندم على محالفته ألفنس السادس ملك قشتالة، ومعاضدته له في انتزاع طليطلة من القادر بن ذي النون، فإن العاهل الإسباني ما كاد يحيط بنهر التاج من عدوتيه، مستطيلا على منافذ الأندلس العربية، حتى نهض يفتتح قلاع الشاطئين وما حولها من المدن والضياع، وراح يهدد قرطبة وماردة (Mérida)
وبطليوس (Badajoz) ، فذعر المعتمد وتراءى له الخطر المحدق بأملاكه، فأرسل إلى ألفنس يستوقفه عن الفتح، ويطلب منه أن يراعي المعاهدة التي بينهما فلا يتجاوز طليطلة.
فرد عليه ألفنس بما عرف به من دهاء ومراوغة، وهو أنه إنما يملك ولاية طليطلة كلها شريكا لصديقه القادر بن ذي النون صاحب بلنسية، وكان المعتمد منصرفا يومئذ إلى محاربة ابن باديس صاحب غرناطة؛ طامعا في ضم هذه الإمارة إلى مملكته، فأراد ألفنس أن يظهر له حسن نيته من حيث يروم خداعه، فأمده بخمسمائة فارس مدرع من الإسبانيين ليقاتلوا معه في غرناطة، فأوجس المعتمد شرا، وأزعجته هذه النجدة التي لم يرغب فيها، ولا شاقه قدومها، ففضل أن يصالح ابن باديس على أن يستبقيها عنصرا خطرا في جيشه.
فلما عادت إلى طليطلة دون أن تسفر بعثتها عن نتيجة ترضي ملك قشتالة، كتب هذا إلى المعتمد يطلب منه أن يتخلى له عن الحصون التي يمتلكها في ولاية طليطلة، فعظم الأمر على أمير إشبيلية، وأوجعه خطؤه وسوء سياسته، وعلم أن لا سبيل إلى كبح مطامع ألفنس إلا إذا قابل الشدة بالشدة، وهو وإن يكن يحمل إليه الجزية كغيره من ملوك الطوائف، إلا أنه كان أوسعهم دولة، وأقواهم سلطانا، فلماذا لا ينقض على الطاغية، ويرفع عن مخنقه يدا قاسية القبض؟ بل لماذا لا يسعى إلى دعوة أمراء المسلمين أن يتركوا الخلاف ويتحدوا لدرء الخطر المشترك؟ فقد آن لهم أن يطهروا قلوبهم من أحقادها، ويمد بعضهم إلى بعض يده مصافيا ومعاونا.
فالأمراء المسيحيون في إسبانيا أدركوا قبلهم ضرورة التعاضد للتغلب عليهم وإخراجهم من تلك الأرض الجميلة التي افتتحها أجدادهم، فتناسوا ما بينهم من عداء قديم يفرقهم ويضعفهم، فاجتمعت كلمة ألفنس السادس وشانجه (Sancho)
صاحب أرغون ونافار، ورمند برنجه (Reymond Berenguer)
أمير برشلونة، فنهضوا نهضة واحدة لينقضوا على العدو الغريب متيمنين بتخاذله وانقسامه.
فمتى يدرك أمراء الأندلس ما أدركه أمراء إسبانية فيهبوا للدفاع عن أرضهم متضافرين لا متفسخين؟ أفما يخلق بالمعتمد بن عباد أن تدور هذه الفكرة في رأسه عندما جاءته رسل ألفنس تستنزله عن حصونه في طليطلة؟ فإذا به لا يتلكأ عن الرفض، حاملا نفسه على الخطة الصماء يريد فصلها، وإن ساءت مغبة الفصل، فأثار رفضه سخط العاهل القشتالي كما كان ينتظر، فنقض الحلف وجاهره العداء، ثم زحف بجيوشه يضرب في ولايات الأندلس فاستولى على قورية (Coria)
من بني الأفطس، وأغار على بسائط إشبيلية، فأثخن فيها وأحرق قراها وحقولها، حتى بلغ جزيرة طريف، فأدخل قوائم فرسه في البحر وقال: «هذا أقصى بلاد الأندلس قد وطئته.»
ثم ارتد إلى قلعة سرقسطة (Saragosse)
يبتغي فتحها، فألقى عليها حصارا شديدا، وأعمل الحديد والنار في ولايتها، فدافعت عاصمة الدولة الهودية عن نفسها دفاع المستبسل المستميت، ولكن الإسبانيين ضيقوا الخناق عليها، فراحت تستغيث بجاراتها المسلمة، وملوك الطوائف ضعاف متمزقون يبصرون الكارثة مقذوفة إليهم، فتنخلع قلوبهم هلعا، ولا يستطيعون لها ردا، وهالهم أن تسقط سرقسطة بعد طليطلة، قاعدة تلو قاعدة، فماذا يكون مصير الأندلس إن لم يهبوا متساندين للنضال عنها؟ فالمصيبة جامعة لا تعف عن واحد منهم، ولا يؤمل بغير الاتحاد الحئول دون استشرائها.
فتداعوا إلى مؤتمر يعقدونه في مملكة ابن عباد - أعظمهم دولة - فاجتمعوا في إشبيلية، ثم في قرطبة، واتفقوا على ضم جهودهم لدفع المغير وإنقاذ سرقسطة، بيد أنهم لم يكونوا واثقين بالظفر؛ لما يعلمون من ضعف قواهم إزاء القوات الإسبانية القاهرة، فقرروا أن يستنجدوا يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في عدوة إفريقية، وكان صاحب شوكة وسلطان، يسيطر على شعب مخشوشن الأبدان يستطيب الحرب والكفاح، لم ينغمس في الترف والملذات - كأهل الأندلس - لتخور عزائمه فيستكره القتال.
ولا يتوقع أن يصم زعيم المرابطين أذنيه عن نداء إخوانه المسلمين؛ لما به من حمية للدين ، ثم لما يضمر في نفسه من مأرب يهزه لفتح الأندلس وإلحاقها بإفريقية ما دام أمراؤها ضعافا متواكلين، لا يملكون وسائل الدفاع لحمايتها، فمن الخير للمسلمين أن يدخلها المرابطون، ويمنعوها أن تقع في قبضة المسيحيين.
بيد أن يوسف بن تاشفين - على رغبته الشديدة في الذود عن أبناء ملته، وبسط سلطانه على الأندلس - لم يسرع إلى تلبية ملوك الطوائف دون أن يتبصر بالأمر ويقلبه على وجوهه؛ فقد كان يجهل أرض الأندلس، ولا يعرف إلا الشيء القليل عن الأمراء المسيحيين، فأشفق أن يغرر بجيشه في بلاد غريبة، قبل أن يحتاط للطوارئ، ويتدبر عواقب مغامرته وإقدامه، فدعا إليه كاتبه عبد الرحمن بن أسبط الأندلسي، وطلب منه أن يشرح له أحوال إسبانيا، وما يحول من العقبات دون التغلب عليها.
فذكر له الكاتب أن المسلمين هناك لا يعمرون إلا ثمن البلاد، في حين أن النصارى يعمرون سبعة أثمانها، وشبه إسبانيا بسجن لمن دخلها، لا يخرج منه إلا تحت حكم صاحبه، فإذا كان الأمير عاقدا نيته على العبور إليها، فيحسن به أن يجيب المعتمد بن عباد بأنه لا يمكنه الجواز إليه، إلا إذا تنازل له عن الجزيرة الخضراء ليجعلها مقر أجناده وأثقاله، ويريد عبد الرحمن بذلك أن يبقى سيده متصلا بإفريقية، حتى إذا أخفق في حملته لا تسد عليه طريق الرجعة إليها، فاستصوب الأمير هذا الرأي، فكتب به إلى صاحب إشبيلية، ولبث ينتظر الجواب ويتأهب للقتال.
وكان ألفنس في تلك الأثناء قد ثقلت وطأته على الولايات الأندلسية، فلقي ابن هود أشد العناء في الدفاع عن سرقسطة، وما سلمت من التخريب بسائط إشبيلية وحصونها، وبات الخطر يهدد المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس، فرأى المعتمد بن عباد أن يستوقف شر الملك الإسباني بأداء الجزية والنزول له عن الحصون المتاخمة، فأرسل إليه يسأله الهدنة، ويبدي رغبته في تسليم الحصون، وتقديم الإتاوة.
فأوفد ألفنس بعثة على رأسها أحد قواده، ومعه يهودي يقال له ابن شاليب، ماهر في نقد الدراهم الزائفة، فنزلوا في ظاهر المدينة، فوجه المعتمد إليهم المال مع جماعة من وجوه دولته، فطلب ابن شاليب أن ينظر فيه قبل تسلمه، فاستاء الوفد الإشبيلي، وعدوا ذلك إهانة لهم ولأميرهم، فاحتدم الجدال بينهم وبين البعثة الإسبانية، فأصر اليهودي على طلبه، فاقترح القائد السفير أن يقدم ابن عباد بدلا من المال سفنا حربية، فعاد المندوبون بالمال إلى سيدهم، وأخبروه بما حدث، فتلظى حنقا حتى خرج عن دائرة اعتداله، فأمر بقتل السفير ومن معه، وكانوا ثلاثمائة، ولم ينج منهم غير ثلاثة تمكنوا من الفرار، ويروي صاحب «نفح الطيب» عن ابن اللبانة، شاعر المعتمد أن الأمير لم يقتل من البعثة غير اليهودي، فقد أمر بصلبه، وأما المسيحيون فإنه اكتفى بأن يزجهم في السجن.
ويقول أبو عبد الله الحميري في «الروض المعطار»: إن ألفنس طلب زيادة على الضريبة والحصون، أن تأتي امرأته إلى قصور الزهراء فتنزل فيها إلى أن تلد؛ لأن القسيسين أشاروا عليها بأن تتردد على الجامع الكبير في قرطبة، لتتبرك مدة حملها بزيارة الكنسية التي كانت بجانبه الغربي قبل بنائه، فرفض ابن عباد هذا الطلب، فراجعه ابن شاليب وأغلظ له القول، حتى أغضبه فأمر بصلبه منكوسا.
ثم فكر بما يجر عليه هذا الحادث من وخيم المغبة، فملك الجلالقة لا يصبر عن الاثئار لبعثته، وقد اتسع الخرق بينهما؛ فما يمكن استرضاؤه إلا بشروط لا تطاق، فوطن النية على استدعاء المرابطين ثانية، والتنازل لزعميهم عن الجزيرة الخضراء، فدعا ابنه الرشيد ولي عهده، وأفضى إليه بما يعتزم عليه، فمانع الرشيد وحذر والده خطر المرابطين إذا دخلوا الأندلس وامتلكوا قاعدة فيها.
فأجابه المعتمد بكلمته المأثورة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير»، أي أنه يفضل أن يكون مأكولا ليوسف بن تاشفين يرعى جماله في الصحراء، على أن يكون أسيرا عند ألفنس، يرعى خنازيره في قشتالة.
وتلقى أمير المرابطين دعوة ابن عباد - وكان ينتظرها - فحشد جيشه في سبتة، ثم اجتاز المضيق إلى الجزيرة الخضراء، في شهر ربيع الآخر 479ه/آب 1086م، فوجد أمير إشبيلية قد خف لاستقباله في مائة فارس ووجوه أصحابه، فتقدم المعتمد يريد تقبيل يده؛ إظهارا لطاعته، فمنعه يوسف، فتصافحا وتعانقا كصديقين، لا كتابع ومتبوع، ثم تسلم الزعيم الإفريقي الجزيرة ليتصرف فيها، فاحتل بجيشه قلعتها، واهتم بتعزيز حصونها، وتنظيم حاميتها، وإعداد المؤن والذخائر فيها لتكون له موئلا يفزع إليه إذا لم يحالفه النصر في حملته.
فلما أتم تجهيزها شخص إلى إشبيلية فلبث ثمانية أيام يؤهب جيوشه منتظرا في الوقت نفسه قدوم الأمراء الأندلسيين بقواتهم لينضموا إليه، حتى إذا اكتملت عدة الجيوش المتحالفة، زحفت من إشبيلية تجوز أملاك أمير بطليوس، فسار فرسان المرابطين في الطليعة وعدتهم عشرة آلاف يقودهم داود بن عائشة، ثم الجيش الأندلسي، وعلى رأسه المعتمد، ثم الجيش الصحراوي يتقدمه يوسف بن تاشفين، وبينه وبين جيش ابن عباد يوم واحد، حتى بلغوا بطليوس، فنزلوا بظاهرها، فخرج إليهم أميرها المتوكل بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات.
وكان ألفنس لا يزال يحاصر سرقسطة، ويرميها بالحملة إثر الحملة وهي تدافع عن نفسها يائسة، فلما عرف بمجيء المرابطين وزحفهم إليه مع القوات الأندلسية، خاف على طليطلة والممتلكات الجنوبية أن يقع فيها العدو؛ فرفع الحصار عن العاصمة الهودية، وارتد إلى طليطلة يحشد العساكر من قشتالة ولاون وجليقية (Galice)
وبسكونية (Biscaya)
وأشتوريش (Asturias) ، ومن الأراضي الإسلامية التي افتتحها وأخضعها، وجاءته النجدات المتطوعة من ولايات فرنسة الجنوبية طامعة في المغانم أو مجاهدة في سبيل الدين، ودعا إلى معونته حليفيه شانجه أمير أرغون ونافار، ورمند أمير برشلونة.
فلبيا دعوته وانضما إليه بقواتهما، فاجتمع لديه جيش عظيم، تختلف الروايات الإسلامية في تقديره؛ فمنها ما يبالغ فيه فيجعله مائتي ألف راجل، وثمانين ألف فارس، ومنها ما يذهب إلى الاعتدال فلا يرتفع به عن الثمانين ألفا، منهم أربعون ألفا من ذوي الدروع الثقيلة، ويقدره ابن الأثير بخمسين ألف مقاتل، ويجعله ابن خلكان أربعين ألف فارس غير ما انضم إليه من الأتباع، ولا تتفق الروايات الإسلامية على عدد جيوش المسلمين؛ فمنها ما يرفعه إلى ثمانية وأربعين ألفا، نصفهم من الأندلسيين، ونصفهم الآخر من المرابطين، ومنها ما يهبط به إلى العشرين ألفا، ولكنها تجمع كلها على أن عدد المسلمين كان أقل من عدد المسيحيين.
وأما الروايات المسيحية، فإنها لا تشير إلى عدد الجيوش النصرانية، وإنما تذهب إلى تقدير الجيوش الإسلامية بزهاء مائة ألف، أو تظهر عجزها عن إحصائها، فتقول إنها كانت كالجراد المنتشر، ويفترض المستشرق الألماني جوزف أشباخ عددا متساويا للفريقين، فيقدر أن كل واحد منهما كان يجمع نحو مائة وثلاثين ألفا إلى مائة وخمسين.
ونحن إذا نظرنا إلى الولايات المتسعة في مملكة ألفنس، وما يحتمل استمداده من القوات الحليفة والمتطوعة، لا نستكثر خروجه بمقدار مائة ألف لقتال عدو يشعر بخطره بعد اجتماع الإفريقيين والأندلسيين عليه، وكذلك لا يعقل أن يوسف بن تاشفين يعبر إلى الأندلس بأقل من أربعين إلى خمسين ألفا، وهو مقدم على الحرب في بلاد غريبة منيعة، رأينا كاتبه عبد الرحمن يجتهد في تحذيره منها، وإذا كانت فرسانه عشرة آلاف كما ذكرنا، فلا ينبغي أن يقل عدد الرجالة عن الثلاثين أو الأربعين ألفا، ثم إن أمراء الأندلس في تحالفهم على الكارثة المشتركة لا يستغرب أن يبلغ حشدهم خمسين ألفا على أقل تعديل ليتخلصوا من عدو مخيف طالما هدد وجودهم، وقد سنحت لهم الآن فرصة تمنوها طويلا حتى حصلوا عليها.
فإن تكن العساكر الصحراوية والأندلسية دون العساكر الإسبانية في مجموعها بحسب رواية المؤرخين المسلمين، فلا يمكن التسليم بأنها تقل عنها كثيرا، فكلا الجيشين قوي متأهب أحسن الأهبة، والموقف خطر رهيب، والمصير غامض لا ينجلي إلا في اللقاء.
وجاءت الأنباء أن ألفنس زاحف بقواته إلى بطليوس، فنشط القواد المسلمون إلى ترتيب صفوفهم ومعسكراتهم، وخطب يوسف بن تاشفين وابن عباد في أصحابهما، وقام الفقهاء يحضونهم على الثبات، ويحذرونهم من الفشل، ثم جاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء، فخرج المسلمون مبكرين وأخذوا مصافهم، وأقبلت الجيوش الإسبانية بخيلها ورجلها تملأ الفضاء، فنزلت على بضعة أميال من بطليوس، في سهل تتخلله الغابات يعرف باسم الزلاقة (Sacralias) ، وعسكرت تجاهها الكتائب الأندلسية يفصل بينهما نهر صغير.
أما يوسف بن تاشفين، فقد جعل معسكره وراء أكمة عالية، في عزلة عن معسكر الأندلسيين ، فلما أخذت العساكر الإسبانية محلاتها، أرسل زعيم المرابطين إلى ألفنس يعرض عليه الدخول في الإسلام، أو تأدية الجزية، أو مباشرة القتال كما هي السنة، ومن جملة ما قاله في الكتاب بحسب رواية نفح الطيب: «بلغنا يا أدفنش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن يكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا؛ فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله - تعالى - في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال.»
فلما اطلع ألفنس على مضمون الكتاب، رماه إلى الأرض مغضبا، وقال للرسول: «اذهب فقل لمولاك: إننا سنلتقي في ساحة الحرب.»
ولم يشأ العاهل الإسباني أن يباشر القتال قبل أن يلجأ إلى بعض خدائعه المعهودة، فبات ليلته لا يحرك ساكنا، والمسلمون يحسبون المعركة ناشبة حتما غداة الخميس، فهبوا في الصباح يستعدون لخوضها، وإذا رسول من ألفنس يحمل كتابا إلى يوسف بن تاشفين يقول فيه: «غدا يوم الجمعة وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما يوم السبت.» وفي رواية أخرى أنه استثنى يوم السبت أيضا؛ لأنه عيد اليهود، وفي المعسكرين كثير منهم، واختار للقاء يوم الإثنين.
فاستحسن الأمير المغربي هذا التأجيل وخاله عدلا، فوافق عليه، ولم يعلم أن ألفنس يرمي به إلى تعطيل أهبة المسلمين ليأخذهم يوم الجمعة على غرة وهم غير مستعدين، ولكن المعتمد بن عباد كان قد بلا مكايد حليفه بالأمس، وذاق سموم أكاذيبه، فلم يطمئن فؤاده إلى هذا الاقتراح المريب، واستشعر الحيلة من خلاله، فبث عيونه في الليل يتجسسون حركات الإسبانيين، فعادوا إليه يخبرونه بأنهم أشرفوا على محلة ألفنس، فسمعوا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، فبعث إلى السلطان يوسف يطلعه على الأمر ويستحث نصرته، وكان ألفنس قد جعل جيشه قسمين: أحدهما يقوده غرسيه، والثاني يتقدم جناحيه شانجه ورمند ويقوم هو في قلبه، فعند السحر، حمل جيش غرسيه أولا يريد مباغتة الأندلسيين، وإذا داود بن عائشة يصدمه بفرسان المرابطين، ويكسر من حدة هجومه.
ولم يكن الإسبانيون ينتظرون هذه المفاجأة فانكفئوا إلى خط دفاعهم الثاني، ثم أصلحوا أمرهم وعاودوا الكرة على المرابطين، وحمل معهم ألفنس بسائر الجيش، يخترق فرسانه المدرعون بالحديد الخطوط الأندلسية، وقد ارتفع إلى السماء صياح الإسبانيين وقرع طبولهم، وكانت الحملة راعبة عنيفة، فلم يصبر لها أمراء الأندلس، فتراجعوا مفلولين ثم ركنوا إلى الفرار، فطاردهم المسيحيون إلى أسوار بطليوس، ولم يثبت في الميدان إلا فرسان إشبيلية وأميرهم المعتمد بن عباد، والفرسان المرابطون، وقائدهم داود بن عائشة، فإنهم لبثوا يجاهدون الأعداء صابرين على عض السلاح، مستهينين بالموت، لا يطلبون النجاة.
وأظهر ابن عباد من ضروب البسالة ما يملأ النفس إعجابا؛ فقد أحاط به الإسبانيون من كل جهة، فانكشف بعض أصحابه، وفيهم ابنه عبد الله، فأخذ يقتحم الصفوف معرضا نفسه للوبال، فشج رأسه، وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس، وهو يجالد مستأسدا لا يترك المعمعة، ولو لم ينفس عنه داود بن عائشة بعض الشيء لكانت عليه المحنة أشد وأقسى.
فقد جاهد القائدان بفرسانهما أروع جهاد، حتى لم يبق لهما أمل من الدفاع، فارتدا بأصحابهما إلى الأسوار ملتحقين بأمراء الأندلس الذين انهزموا في بدء المعركة، وأسملوا محلاتهم، فاستفاد منها الأعداء في انقضاضهم وتطويق الذين صبروا وصابروا من المسلمين، وتتبعهم ألفنس بالمطاردة ليجهز عليهم، فتدفقت وراءهم فرسان إسبانية تضرب في أقفائهم، وبارق النصر يلوح لها مشعا لماعا.
وظن ألفنس واهما أن الكسرة وقعت على جيوش المسلمين بأجمعها، وأن يوسف بن تاشفين والصحراويين في جملة المندحرين، ولكن ساء فأله، فبينما هو يطارد المنهزمين، وأصحابه يتباشرون بالظفر، إذا بالصرخة تتعالى وراءه في معسكره، وقرع الطبول يتجاوب في الهواء، وكان زعيم المرابطين قد خرج بعساكره من وراء الأكمة، وأمر قائده أبا بكر أن يخف بقوة من البربر لمعونة المعتمد بن عباد والأندلسيين، وسار هو بفيالقه الضخمة إلى معسكر الإسبانيين، فأناخ عليه، فأوقع بحاميته، وانتهب ما فيها من الذخائر والسلاح، وضجت أصوات طبوله، فاستكت لها آذان ألفنس ورجاله.
وجاءه النبأ المشئوم وهو في نشوة الظفر يتعقب الأندلسيين، ويبعثر البرابرة الذين جاءوا لنجدتهم، فترك المطاردة، وارتد بجيوشه إلى المعسكر؛ لينقذه من أيدي المرابطين، وأبصر يوسف بن تاشفين عنف الكرة، فحاد عنها خارجا لهم عن المحلة، ثم كر عليهم فأخرجهم، ثم كروا عليه فأخرجوه، وتوالت الكرات والمعسكر ينتقل من يد إلى يد، وكان أمير المرابطين يمر بين مسافات المسلمين يحرضهم، ويقوي نفوسهم على الجهاد والصبر ويقول: «يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة.» فقاتل المسلمون في ذلك اليوم قتال من يطلب الشهادة ويرغب في الموت، وقاتل المسيحيون أصدق قتال، وصبروا أعظم الصبر، وفي نفوسهم ما في نفوس أعدائهم من الحمية للدين والوطن، فتساقطت ألوف الضحايا من الفريقين حتى غصت بهم ساحة القتال، وخاضت الخيل في برك من الدماء، وسقط فيها جماعة فغرقوا في دم قتلاهم، وصارت الأرض ترتجف من وقع حوافر الجياد، وانعقد العجاج فأظلم النهار.
وكان المعتمد بن عباد، وداود بن عائشة قد جمعا شمل فرسانهما بعد أن كف ألفنس عن المطاردة، فارتدا بهم في أثر المسيحيين، وارتد بعدهما المنهزمون من أمراء الأندلس وقد اشتدت عزائمهم حين تنسموا ريح النصر، فأخذ الإسبانيون من الجانبين، فتناهبتهم شفار السيوف تحصدهم من الأمام والوراء، وهم لا يفترون عن المكافحة غير مصدقين أنهم خسروا المعركة، يكرون على معسكرهم يستعيدونه من المرابطين، ثم ينتزعه المرابطون من أيديهم، ثم يرجع إليهم، وهم في الوقت نفسه يقاومون الأندلسيين في مؤخرتهم، حتى دنت ساعة الغروب، فكره يوسف بن تاشفين أن يأتي الظلام ويفصل بينه وبينهم على غير نتيجة، فأمر رجاله السودان، فترجلوا عن مطاياهم وعدتهم أربعة آلاف، بأيديهم السيوف والدرق ومزاريق الزان، فاقتحموا خيول الإسبانيين، وأعملوا الطعن في بطونها وصدورها، فازورت بفرسانها وخامت عن المعترك من ألم الجراح.
وحملت جيوش المسلمين حملة صادقة؛ فانهزم الإسبانيون متخلين عن معسكرهم لا يأملون العودة إليه، فاستحر القتل فيهم، فلم يفلت منهم غير طويل العمر، وأبى الملك ألفنس أن يهرب، فلبث يجمع صفوفه ويقاتل مستبسلا مخاطرا بحياته، فلحقه أحد السودان، فلصق به وطعنه بخنجر فأثبته في فخذه، وهتك حلق درعه ، فبادر إليه خمسمائة من فرسانه الدارعين فأنقذوه، ولكنه رفض أن يترك ساحة القتال، وآثر الموت على أن يرضى بالهزيمة، فساروا به على كره منه إلى تل مما يلي المعسكر، ثم انحدروا إلى قورية يسترهم الظلام.
وخسر الإسبانيون أكثر جيشهم في هذه الموقعة، وكذلك كانت خسارة المسلمين جسيمة؛ لأن الضائقة لزمتهم معظم النهار، بيد أنهم وجدوا تعزية في النصر البهيج، فأقاموا مهرجان الفرح مساء يومهم، وبعث المعتمد بن عباد حمامة إلى عاصمته تحمل رسالة البشرى لولده الرشيد، فقرئت على الناس في المسجد الجامع، واحتفلت إشبيلية بالنصر في اليوم نفسه على ما بينها وبين بطليوس من البعد، وبات الجيش ليلته في ميدان القتال، حتى تنفس الصبح، فجمعت ألوف من رءوس الإسبانيين على شكل مئذنة، وقام فوقها المؤذن ينادي: حي على الفلاح!
وانتهت معركة الزلاقة بيوم واحد، الجمعة 23 كانون الأول 1086م، فدونت حدثا عظيما في تاريخ الإسلام، فهي وإن تكن فتحت أبواب الأندلس لمرابطي إفريقية، فلقد أثبتت فيها أقدام المسلمين مدى أربعة قرون.
رذريق والمرابطون
عاد أمير المسلمين من معركة الزلاقة يجرر ذيل المجد، ومن حوله ملوك الطوائف يسعون إليه بتحايا الشكر وعرفان الجميل، وهم بين سكرة النفس الغائبة، وصحوة الفكر الحاضر، تهزهم أهازيج العساكر المنتصرة، فيستسلمون للغبطة والتيمن، ثم يلوح لهم وجه يوسف بن تاشفين، في عبوسه واستعلاء نظراته، ويسمعون أصوات المرابطين ترتفع على أصوات الجنود الأندلسية، فترتعد الغبطة في قلوبهم، ويستحيل اليمن طيرة وشؤما.
يشوقهم أن يترشفوا غرة الجو مشرقا صافيا، بعد أن تلاشت عاصفة الإسبان، وتمزقت سحائبهم في الشمال، فتروعهم غمامة مطلة من الجنوب، كثيفة سوداء.
ينظرون إلى زعيم الملثمين يسير في المقدمة عظيما بقوته وبطشه، عظيما بورعه وتقشفه، فلا يملكون النفس عن الإعجاب بأمير مسلم، أنقذ الأندلس المسلمة، وأبعد عنها خطر المسيحية، فيودون لو ينطق بكلمة تبدد أوهامهم وتبعث الطمأنينة في الصدور، لينقلب هذا الإعجاب حبا ومودة، ولكنه صامت لا يحدثهم بشيء عن إماراتهم ومصايرها، فإذا هم - بكره منهم - يخافونه على بلادهم، أكثر مما يخافون ألفنس والقشتاليين.
ولم يكن خوفهم في غير محله، فإن سلطان مراكش قد عقد نيته على البقاء في الجزيرة ليشرف من كثب على الدويلات العربية، ويتابع جهاد الإسبانيين ورد غاراتهم، ولعله ابتدأ منذ اليوم يعتبر الأندلس ولاية من أعمال إفريقية؛ لما رأى من عجز أمرائها وضعفهم وتخاذلهم.
غير أنه فكر في شيء وفكرت الأقدار في شيء آخر، ففيما هو يتأهب للقيام بغارة جديدة، جاءه نعي ولده أبي بكر سير، وكان قد أقامه نائبا عنه في مراكش يدير أمورها، فاضطر إلى الإسراع في العودة لتنظيم حكومته، إلا أنه ترك الجيش الصحراوي في الأندلس برئاسة قائده سير بن أبي بكر، فاستأنس ملوك الطوائف بعض الشيء، وسرهم أن يبتعد الظافر عن أرضهم، منصرفا إلى العناية بشئون مملكته الإفريقية، فاستأنف بعضهم الغارات على الإمارات الإسبانية والبرتغالية يعاونهم جيش المرابطين، فكانوا ينجحون في مكان ويخفقون في مكان آخر.
ولم يخطر لهم في بال أن ألفنس السادس ستقوم له قائمة بعد موقعة الزلاقة، وقد خسر فيها نخبة فرسانه ومعظم جيشه وعتاده، ويقينا لو أصابت هذه الكارثة رجلا غيره لحطمت عزيمته وقضت على مساعيه، ولكنها أصابت جبارا مريدا لا يسهل على الأحداث تدويخه وإقعاد هماته، فإنه ما انفك - منذ هزيمته المشئومة - يستنفر الإسبانيين والفرنسيين، حتى تم له بعد عام حشد جيش عظيم في عدته وعدده، فخرج به سنة 1087م، مغيرا على الأندلس، مخربا فيها، مفتتحا بعض مدائنها، مهددا ملوكها ولا سيما المعتمد بن عباد.
وعبثا حاول هؤلاء الأمراء أن يدفعوا البلاء عن ديارهم، وهم على تحاسدهم، وطمع قويهم في ضعيفهم، لا يخلصون النية للتعاون المشترك، يتحالف منهم فريق، ويتخلف فريق آخر، ولا يتلكأ بعضهم أن يكيد لبعض، فكأن يوم الزلاقة أنساهم ما جر عليهم تفسخهم بالأمس، وكأن بعد يوسف بن تاشفين أغفلهم عما يهددهم في الغد، وكان المعتمد أشدهم طموحا إلى بسط سلطانه والاستئثار بالنفوذ؛ لاعتداده عليهم بالقوة واتساع الملك، فحدثته نفسه بخطة خرقاء لم يحسب حسابا لنتائجها، فرأى أن يعبر المضيق إلى المغرب ويشرح لأمير المسلمين أحوال الأندلس وقعود أمرائها عن حمايتها، راجيا منه أن يوليه قيادة العساكر الصحراوية ليستطيع بها جمع الولايات وضم أشتاتها، ومن ثم مقاومة الأمراء المسيحيين، وفاته أن سلطان مراكش ينتظر هذه الفرصة لتحقيق رغائبه في الاستيلاء على الأندلس وجعلها من أعمال دولته.
فعاد من عنده خائبا نادما؛ لأن الزعيم المرابطي يريد أن يحمل بنفسه عبء مجاهدة الإسبانيين، ولعله تلقى رسائل من علماء الأندلس يستنجدونه لإنقاذها؛ فنشط يجمع العساكر ويدربها، حتى تهيأ له حجفل كثيف، فعبر به بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، في حزيران 1088م/ربيع الأول 481ه، وما وكده الأمراء المسيحيون وحدهم، بل ملوك الطوائف قبلهم.
على أنه لم يجد من الحكمة أن يناصبهم العداء فورا، فباشر الحرب أولا مع الإسبانيين دون أن يدعوهم إلى مساعدته، ثم ارتد إلى غرناطة فاحتلها واعتقل صاحبها عبد الله بن بلكين بن باديس، ونفاه إلى أغمات قرب مراكش، متهما إياه بأنه حليف لألفنس، ورأى أن الجيش المرابطي لا يكفي للقيام بحركات واسعة يزيل بها ملوك الطوائف، فارتد إلى سبتة وأخذ يحشد العساكر ويجيزها إلى قائده سير بن أبي بكر في غرناطة حتى اجتمعت له قوات جرارة، فسيرها في أربع جهات لقتال المعتمد بن عباد، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية (Almeria) .
وكان المعتمد يتوقع غارة المرابطين على مملكته، ويستعد لها، فهب إلى مدافعتهم يخوض المعارك بنفسه، ويبلي أحسن البلاء، ولكن ما حيلته وجيشه ضعيف أمام الفيالق الصحراوية الطاحنة؟! فمن الجنون أن يغرر به ويتابع حربا نتيجتها خاسرة؛ يعرف كل ذلك، ويعرف أيضا أن الحرب لا مهرب منها إلا إذا تنازل عن عرشه ليوسف بن تاشفين، وكيف له بالتنازل عنه وهو به ضنين، يفضل أن تخرق الرماح جثمانه وأن يموت الجيش في مكانه على أن يخفض الرأس لابن الصحراء!
ترى بمن يستغيث، وإلى من يفزع؟ أيدعو ملوك الطوائف لنصرته، وفيهم الحاسد والشامت؛ من يسر بنكبته، أو الخائف المرتعش يشتغل بتحصين أرضه ولا يجرؤ أن يبادي الملثمين بالعدوان؟ وما أبعد الأمل عند ملوك الطوائف! وما أقربه عند ألفنس عدوه اليوم وحليفه بالأمس! فلماذا لا يهرع إليه بندائه وهو يشعر شعوره بخطر الغزاة الغرباء؟ وما كاد صوت الاستغاثة يبلغ عاهل قشتالة، حتى بادر إلى نجدته بأربعين ألف راجل وعشرين ألف فارس يقودهم الكونت غوميز (Gomez) ، فالتقاهم المرابطون عند قرطبة فهزموهم بعد معكرة دامية.
ولبث المعتمد يدافع عن إشبيلية دفاع اليائس المستميت، باذلا آخر ما لديه من القوى، والمرابطون يأخذونه من كل جهة إلى أن دخلوها عنوة في أيلول سنة 1091م/رجب 484ه، فاعتقلوه وساقوه وأسرته إلى أغمات، وسقطت ألمرية على إثر إشبيلية، وزال عنها ملك المعتصم بن صمادح، ثم أناخ المرابطون على مرسية (Murcie) ، وافتتحوا دانية (Dénia)
وشاطبة (Jativa) ، وما زالوا يتقدمون من مدينة إلى مدينة حتى انتهوا إلى بلنسية، وهي يومئذ في حكم القادر بن ذي النون، وكان ألفنس السادس قد أقطعه هذه الإمارة بدلا من طليطلة التي انتزعها منه، وجعله تحت حمايته يتقاضاه الجزية ويذود عنه إذا اعتدي عليه.
فلما أغار المرابطون على بلنسية انضمت قوة من النصارى إلى المسلمين تدافع معهم عنها ممتنعين بحصونها، ولكن المهاجمين استطاعوا أن يأخذوها في غير مشقة؛ لأن القاضي أبا أحمد بن جحاف المعافري فتح لهم أبوابها، وأمدهم بجماعة من أصحابه تسهل لهم امتلاكها؛ لطمعه في الإمارة، وكرهه للقادر بن ذي النون صنيعة الإسبانيين.
وكافأ المرابطون القاضي فجعلوه واليا على بلنسية من قبل سلطان مراكش، فما كان منه إلا أن بادر إلى الانتقام من القادر، فما زال يبحث عنه ويطارده حتى تمكن منه فقتله، ثم انتهب قصره واستولى على أمواله، فزالت بموته دولة ذي النون 1092م/485ه.
على أن سقوط بلنسية في أيدي المرابطين لا يعد خسارة للنونيين وحدهم، بل هو خسارة لألفنس السادس أيضا، وبالتالي، خسارة كبيرة للفارس الإسباني، السيد رذريق (Rodrigue le Cid) ؛ فقد كان ملك قشتالة يعتبر بلنسية إمارة تابعة له، ولا ينظر بارتياح إلى تقدم الإفريقيين في الأواسط الشرقية من الأندلس؛ حيث ينبسط نفوذه، وقد رأيناه يبادر إلى نجدة المعتمد بن عباد لكي يستوقف زحف المرابطين، ويقضي على حركاتهم في الجنوب قبل أن تتسع وتنتشر، فلم ينجح في مسعاته فاضطر جيشه إلى التقهقر عن قرطبة مدحورا، وراحت العساكر الصحراوية توغل في الجانب الشرقي، ناهضة من مدينة إلى مدينة حتى استولت على أكثر القواعد الحصينة ، هازمة أمامها القوى الأندلسية وأعوانها الإسبانيين، ومن بينهم الكونت رذريق وفرسانه الأشداء.
وكان هذا الفارس لا يقل حماسة عن أميره ألفنس في مقاومة المرابطين ومصابرتهم، ولا يقل عنه غضبا لسقوط الولايات الشرقية؛ لما له من النفوذ فيها، ولا سيما بلنسية التي بسط عليها سيادته وجعلها محط آماله ومدار مطامعه، سواء أرضي مليكه أم سخط؛ فإنه من أولئك الأبطال المغامرين الذين يتعشقون الشهرة، ولا ينكصون عن طلبها مهما يقم دونها من الأهوال، وقد كان ألفنس ناقما عليه حتى إنه نفاه عن قشتالة، وأزال ما به من نعمة سابقة.
فما زاده النفي والاضطهاد إلا عزما وإقداما، فبنى مجده بذكائه وحد سيفه على كره من العاهل القشتالي، وباءت بالخيبة كل محاولة قام بها ألفنس لخذلانه وإخراج بلنسية من يده، وجدير بنا أن نلم بطرف من حياة السيد وأخلاقه قبل أن نتحدث عن مواقعه في بلنسية مع المرابطين؛ لتنجلي للقراء تلك الشخصية التي بلغت من سيرورة الذكر ما لم يبلغه ألفنس السادس نفسه؛ فقد تغنى ببطولتها الشعراء والمنشدون، ونسجت حولها الروايات والأساطير، فكانت غذاء للأدب الإسباني في القرون الوسطى، وغذاء من بعده للشاعر الفرنسي كورناي في مسرحيته الخالدة «السيد».
هذا الفارس القشتالي يمثل فروسية عصره أصدق تمثيل بفضائلها وعيوبها، أوتي من القوة البدنية والشجاعة والإقدام واستهانة بالموت ما يصح أن توسم به عصور البطولة، وساعده ذكاؤه وقوة إرادته على التبصر في الأمور وتصريفها، والنظر في عواقبها.
كانت فروسيته تقترن بالتدين وحرارة الإيمان، يصوم ويصلي، ويعنى بالحفلات الدينية، ويقدم الهدايا للكنائس والأديرة، فهو على خلاف ما تصوره المستشرق دوزي؛ إذ جعله لا دين له ولا شرع؛ فإن روح الدين كانت أكبر محرك لنفوس الفرسان في عصره؛ بسبب الحروب الصليبية التي امتدت من الغرب إلى الشرق، ولعل دوزي نفى عنه العقيدة المسيحية لكثرة ما اقترف من الجرائم والفظائع التي يستنكرها الدين وينهى عنها، أو لعله يرمي إلى تقلبه في السياسة الوطنية، فحينا يحارب المسلمين مجاهدا، وحينا يضع سيفه في خدمتهم لينصرهم على المسيحيين، وفي كلا الحالين لو عاد المستشرق بالسيد إلى عصره لما وجده غريبا عنه؛ فإحراق القاضي ابن جحاف حيا، والتمثيل بالأسرى أو إلقاؤهم إلى الكلاب الضارية، كلها أعمال وحشية بحد ذاتها، تنفر منها النفس الإنسانية في صفائها.
إلا أن رذريق لم ينفرد بها عن غيره، فإنما هي من عيوب فروسية العصر، وتاريخ الأندلس حافل بأمثالها وبأبشع منها، وتقترن على الغالب بأحوال خاصة؛ كدافع الانتقام، أو الحاجة إلى الإرهاب، ولا يصح في ما عدا ذلك أن تجرد السيد من الشعور الإنساني والعاطفة المهذبة تجريدا تاما، وفي أخباره ما لا يسمح لنا بهذا الحكم الجازم، كخبره مع المرأة النفساء، ذكره لويس برتران في كتابه «تاريخ إسبانية»، وهو أن السيد عندما نفاه الملك سار بفرسانه وخدمه هائما بين قشتالة وسرقسطة، فذات يوم أمر بأن تقوض الخيام للرحيل، فما كادت تطوى وتحمل حتى سمع بعض رجاله يقولون إن زوجة طاهيه قد وضعت في تلك الساعة. فسألهم حالا: كم تلزم سيدات قشتالة السرير عادة بعد الولادة؟ فأعلموه، فقال: إذن نبقى هنا طول هذه المدة، فلتنصب الخيام.
وبقي السيد في مكانه لا يتحرك منه حتى نهضت زوجة الطاهي من فراشها، مع أن الخطر كان محدقا به لانتشار الأعداء وتسربهم في تلك الأصقاع.
وكذلك تقلبه في السياسة الوطنية لم يكن غريبا في نوعه عندهم؛ فإن تاريخ إسبانية يحدثنا عن كثير من الفرسان المسيحيين والمسلمين كانوا يفعلون فعله، مدفوعين بحب المال والشهرة، أو شهوة الانتقام، أو روح المغامرات، إلى محاربة أبناء ملتهم في صفوف أعدائهم، والكونت رذريق فيه جشع كبير إلى المال والشهرة، وكانت شهوة الانتقام تحفزه إلى طلب المعالي، بعدما فقد حظوته عند ألفنس وأبعد عن بلده.
وهو إلى ذلك لا تنقصه روح المغامرات، وإسبانية يومئذ في حالتها السياسية المضطربة، وما يهددها من الخطر الشامل لتصارم ولاياتها، وتباغض حكامها، تفرض على الأمراء المسلمين والمسيحيين أن يجتمعوا في مواطن مختلفة، متحالفين مع ما بينهم من حروب أزلية وعداء قديم، على ما في هذا التحالف من تكافؤ أو غير تكافؤ، كما حالفت بلنسية وسرقسطة قشتالة، وكانتا في الوقت نفسه تؤديان لها الجزية، وتعتمدان على مساعدتها إذا نزل بها عدو مغير، فغير عجيب أن يقاتل السيد في صفوف حلفاء قومه - وإن كان العدو الذي يقاتله من المسيحيين - أو أن يقاتل في غير صفوف حلفائه وهو حاقد على أميره، مغامر باسل يطمح إلى المجد ويطمع في المال، ولديه جيش خليط من المرتزقة، لا يقوم على المسيحيين وحدهم، بل فيه عدد عظيم من الفرسان المسلمين، وإذا عدنا إلى أخباره أول حياته نجده - مع حبه للمال وسعيه إلى جمعه - لا يجرد حسامه إلا في سبيل أميره.
ولد هذا الفارس في قرية فيفار (Vivar) ، على مقربة من برغش (Burgos)
نحو سنة 1045م، يكتنفه النسب الكريم من ناحية أبيه دياغو أو دياز (Diego ou Diaz) ، سليل كالفو (Calvo)
بعض كبار القضاة في قشتالة، ثم من ناحية أمه التي تنتمي إلى أسرة كبيرة في أشتوريش (Asturias) ، وكان والدها صاحب إقطاعات في الوادي الجوفي؛
1
أي وادي دويره (Duero) ، والظاهر أن دياغو توفي والغلام في نحو الثالثة عشرة من سنيه، على حد تقدير لاوي بروفنسال؛ إذ يجعل وفاته سنة 1058م، فورث رذريق أملاكه.
ثم اتصل بالدون شانجه (Sancho)
بعدما قسم فردينان مملكته بين أولاده الثلاثة، فأتيح له أن يتأدب بأدب القصر شأن أبناء الأمراء؛ وقلده شانجه رتبة الفروسية، فحارب معه سنة 1063م مناصرا المقتدر بن هود ملك سرقسطة على الأرغونيين؛ فكانت أولى معاركه بجانب المسلمين على المسيحيين.
فلما نشب الخلاف بين الإخوة الثلاثة، وقام الواحد منهم ينازع الآخر نصيبه من ملك أبيه؛ وقعت بينهم حروب أهلية، فقاتل الفتى رذريق تحت لواء شانجه، حتى تم النصر لأميره؛ فكافأه على بلائه بمنصب رفيع في القصر، وأناط به قيادة الجيش، وصاحبها يعرف بصاحب العلم (Alferez) ؛ ولقب بالكمبيادور (Campeador)
أي القائد الأعلى، أو رئيس الغزوات؛ على رأي لاوي بروفنسال.
ويسميه المقري في نفح الطيب: القنبطور، ويعرف أيضا عند مؤرخي العرب بصاحب الفحص،
2
والمراد به الرئيس الموكول إليه أمر الغارات على فحوص الأعداء وانتساف زروعها، غير أن حياته في القصر لم يكن من شأنها أن تمنحه الشهرة التي أعدتها له الأقدار مع كثرة الحروب التي شهدها في عهد مليكه.
ثم اغتيل شانجه في حصار زمورة (Zamora)
الثائرة عليه سنة 1072م، واتهم بمقتله أخوه ألفنس؛ وكان هذا قد نفاه من شانجه إلى طليطلة؛ فرجع إلى مملكته لاون واعتلى عرشها، وأراد أن يضم إليه قشتالة نصيب أخيه المقتول؛ فتمنع القشتاليون عن مبايعته أو يقسم على براءته من دم أخيه، فرضي ألفنس، وذهب في جماعة من أشراف قشتالة إلى كنيسة شانتا غادية (Gadia)
في برغش لتأدية اليمين؛ فلم يجرؤ أحد منهم على تحليفه سوى الكونت رذريق؛ فحقد عليه، ولكنه كان يتقي جانبه لما يعلم من بطشه ودهائه، فآثر أن يأخذه باللين على أن يجاهره العداء، وإن تكن هذه الظواهر لا تخدع الفارس الذكي فتزيل من نفسه الريبة بعاهله الجديد؛ فقد رأى خيرا له أن يتخلى عن منصبه في الجيش، ويترك القصر دون أن يخرج عن طاعة ألفنس، أو يقطع صلة التابع بالمتبوع.
وكان لألفنس ابنة عم يقال لها الدونا ليمانا دياز، وتعرف بشيمانة، وهي بنت دياغو بن رذريق كونت أوفيادو؛ وحفيدة ألفنس الخامس ملك لاون، فشاء أن يزوجها برذريق؛ ليجمع بهما أشراف لاون وقشتالة، ويزيل ما بين البلدين من العداء.
فقبل الفارس القشتالي عروسه اللاونية من يد مليكه بعامل السياسة، لا بدافع الحب الذي يصوره كورناي في مسرحيته، ويجعل منه صراعا عنيفا بين العاطفة والواجب في نفس البطل العاشق، ثم في نفس معشوقته، فوالد شيمانة لم يلطم والد السيد، وهذا لقي حتفه من عهد بعيد، ولا رذريق اضطر إلى قتل والد شيمانة، وإنما تم الزواج بينهما في جو هادئ، لا تلوح فيه بارقة وجد، ولا عاصفة التياع، وهذا لا يمنع أن يكون الزوجان تبادلا المودة والإخلاص مع طول الألفة، كما يحصل عادة بين الرجل والمرأة إذا اقترنا وقلباهما خليان من حب أو كره.
غير أن هذا الزواج لم يعد إلى رذريق سابق حظوته في القصر، فما لبث أن رجع وشيمانة إلى قريته بيغار لا يخرج منها إلا إذا دعاه أميره لبعض المهمات.
وكان ألفنس يوفد كل سنة بعثة إلى طليطلة وإشبيلية، لاستئداء الجزية من الدولتين الإسلاميتين، فأوفد السيد إلى إشبيلية في أواخر سنة 1079م ليأخذ الجزية من صاحبها المعتمد بن عباد، فلما بلغها رأى الحرب دائرة بينها وبين الغرناطيين، وعلى غرناطة يومئذ الأمير عبد الله بن باديس بن زيري، وقد أمده ألفنس بنجدة من الفرسان الإسبانيين تنصره على المعتمد؛ لأنه لم يكن مطمئن النفس إليه؛ لانبساط ملكه بين ملوك الطوائف، وطمعه في التوسع، وكان قائد الحملة الإسبانية الكونت غرسيه أوردونه عدو رذريق ومنافسه، فخاض السيد المعركة بجانب الإشبيليين محتجا بأنهم حلفاء مليكه ألفنس.
فهزم العساكر الغرناطية، وأسر جماعة من الأشراف المسيحيين بينهم غرسيه، ولم يطلق سراحهم إلا بعد ثلاثة أيام، فقفلوا إلى بلادهم مذلولين منكسي الرءوس، وتقاضى رذريق الجزية من ابن عباد، وحملها إلى قشتالة سنة 1080م.
فغير عجيب أن يكون له من غرسيه وأعوانه خصوم يناصبونه العداء، ويكايدونه في السر والعلانية حتى أوغروا صدر ألفنس عليه، فبات يتحين الفرص للنيل منه، وإضعاف شأنه، فاتفق أن أغار السيد على طليطلة دون استئذان سيده، فأثخن وأوجع، وعاد بالأسرى والغنائم، فثار ثائر الأشراف القشتاليين لاستقلاله بالأمر، وصغى إليهم ألفنس، وبدا له أن يطرده من أراضي قشتالة، ففتحت له أبواب المجد في منفاه.
ولم يسلم سبب طرده من الالتباس والخلاف فيه؛ فمنهم من يرجعه إلى حقد الملك عليه من أجل اليمين التي لقنه إياها في كنيسة برغش، ومنهم من يعود به إلى غاراته على طليطلة وإيقاعه بحلفاء عاهله، أو إلى طمعه في الثروة، وأنه أخذ مالا كثيرا من المعتمد بن عباد، ويتفق لويس برتران والمستشرق الألماني جوزف أشباخ على القول بأن فارسا ممتازا عظيم الكبرياء كثير المطامع مثل السيد لا يرضى أن يظل مغمورا في كنف ملك يبخسه حقه ويغار منه، فهو لا بد أن يختار هذا النفي بنفسه، ويقصد إليه قصدا إلم يفرض عليه، ليسعى وراء الشهرة التي يتعشقها، ويبني عليها قصور أحلامه.
ومهما يكن من شيء، فإن رذريق هجر موطنه نحو سنة 1081م، مبقيا زوجه وأولاده في بيفار، وسار برجاله إلى برشلونة، عارضا سيفه على أميرها رامون بيرنغر الثاني (Berenguer)
فلم يجد عنده قبولا، فتركه وولى وجهه شطر سرقسطة، فاتصل بصاحبها المقتدر بن هود، وكان حليفا لألفنس فأحسن وفادته.
وتوفي المقتدر في السنة نفسها، فانتقل الحكم من بعده إلى ولديه المؤتمن والمنذر، فولي الأول سرقسطة وأعمالها، والثاني دانية وطرطوشة (Tortosa)
ولاردة (Lerida) ، ثم نشب الخلاف بينهما، فاستنجد المنذر كونت برشلونة وملك أرغون مستنصرا بهما على أخيه فأمداه بالعساكر، فخرج إليهم رذريق بفرسانه وفرسان المؤتمن فاشتبك وإياهم في معارك دامية كتب له النصر فيها، فانهزموا أمامه، فطاردهم وأناخ على بلادهم فدمر وأتلف ونشر الروع بين المسيحيين والمسلمين، ويروى أنه أسر يومذاك بيرنغر كونت برشلونة، وكان هذا قد نذر دمه، فأبى إلا أن يقابله بالإحسان، معاملة الفارس الشريف لصنوه، فأطلق سراحه دون أن يطلب منه الفداء، ثم رجع إلى سرقسطة تظلله رايات المجد والظفر فاستقبلته المدينة هاتفة له، وأنزله المؤتمن منزل الكرامة، وصار المسلمون حلفاؤه يلقبونه بالسيد من ذلك الحين، غير أن لاوي بروفنسال يقول: إن لقب السيد ليس له ذكر في الروايات المسيحية القديمة ولا في الروايات العربية، وإنما يذكر لقب القنبطور، وفي ذلك ما فيه الشبهة كما لا يخفى.
ولم يطل حكم المؤتمن؛ فإنه توفي سنة 1085م فخلفه ابنه المستعين مترسما خطة أبيه في إكرام السيد والاعتماد على سيفه وخبرته، إلا أن الفارس القشتالي لم يهجر بلاده ليكون تابعا لأمير غير أميره، بل ليحقق أحلامه، وأي أحلام تراوده سوى الإمارة والسلطان؟ فرمى بعينيه إلى الولايات المجاورة يتفحصها، فوجد بلنسية أقربها منالا وأحكمها موقعا، فالقادر بن ذي النون ضعيف لا قبل له بالدفاع عنها، فانقض عليها بفرسانه فافتتحها، والظاهر أنه كان على اتفاق مع المستعين، ولم يشأ أن يخلع القادر بل استبقاه مراعاة للمسلمين، ووضعه تحت حمايته.
وأرسل في الوقت نفسه إلى ألفنس السادس يبايعه على الطاعة؛ لئلا يثير حفيظته، وبلنسية معدودة في جملة الإمارات الخاضعة لمملكته.
ومن الطبيعي أن لا يرتاح ألفنس إلى عمل السيد واستبداده بإمارة حليفه وتابعه، وهو ناقم على هذا الفارس الطريد ؛ فكيف يأمن جانبه إذا قويت شوكته في بلنسية وما جاورها؟ وقد كان حقيقا به أن يرميه بحملة تأديبية تنزع بلنسية من يده، وتحرر القادر من سلطانه، إلا أن الأحداث الخطيرة التي طرأت على الأندلس اضطرته إلى التغاضي عنه؛ ذلك أن المرابطين أخذوا يتقدمون في الولايات الجنوبية والشرقية ناثرين تيجان ملوك الطوائف، مغيرين على الأراضي الإسبانية، فالخطر الداهم أعظم من أن يحمل الملك القشتالي على التفكير في محاربة السيد ومعاقبته، وقد تكون الاستفادة من سيفه في مثل هذه الأحوال أولى وأنفع.
ولم يخطئ ألفنس في حدسه ونظره إلى الأمور؛ فإن السيد نفسه كان يشعر شعور مليكه، وتساوره المخاوف من زحف المرابطين وانتصاراتهم الصاعقة، فإذا بهذا الشريد المغامر يصبح بطلا قوميا لا هم له إلا أن يرد الأعداء الغرباء عن بلاده، ويحول دون تجدد النكبات التي شهدتها إسبانيا المسيحية في أوائل الفتح، ومن هنا تبتدئ حياته الوطنية اللامعة تتغنى بذكرها وتخلدها القصائد والأناشيد.
دخل المرابطون بلنسية، والسيد غائب عنها، فارتد إليها عندما بلغه الخبر، وهو مصمم على استرجاعها - مهما كلفه خطبها - ليجعل منها قلعة حصينة في وجه الملثمين تمنعهم من التوغل في الولايات الإسبانية، فنشط إلى تحصين القلاع الجبلية المحيطة بها وتعزيز حامياتها.
ودعا إلى محالفته الأمراء المسلمين في السهلة وشاطبة ودانية ومربيطر (Murviedro)
فلبوا الدعوة لما يضمرون من الكره للمرابطين، ثم ضرب الحصار على المدينة بجيش لهام من النصارى والمسلمين، فصبرت بلنسية عليه مدة طويلة تقاوم الجوع يائسة؛ لأن المرابطين الذين جاءوا لنجدتها هزموا وشتت شملهم، فثار الشعب أخيرا على القاضي جعفر بن جحاف حاكمها الجديد وأجبروه على التسليم، فلم يجد مناصا من مفاوضة رذريق على شروط تضمن السلامة له ولأسرته ولسكان المدينة أجمع، فقبل السيد هذه الشروط، وفتحت له بلنسية أبوابها في أيار سنة 1094م، فدخلها دون أن يتعرض لأحد بأذى، وخطب فيهم فقال:
جعلت لكم يومي الإثنين والخميس موعدين لسماع مطالبكم، فمن كان له حاجة معجلة، فبوسعه أن يدخل علي متى شاء، فأسمع له؛ لأني لن أحتجب عنكم كما كان يحتجب ساداتكم مع النساء للشراب والسماع، وأنا أقضي بنفسي في أموركم، فأكون لكم حاميا وصديقا، وقاضيا ووزيرا، وإذا شكا إلي أحدهم الآخر، حكمت بالعدل بين الخصمين.
ويقول ابن بسام: إن القنبطور ترك ابن جحاف على القضاء نحوا من عام، ثم اعتقله وأهل بيته وقرابته، وجعل يطالبهم بذخيرة القادر بن ذي النون، فأنكر القاضي أن يكون لديه شيء منها، فهدده السيد بالقتل إن كان كاذبا، وهو يعلم أنه قد استولى عليها بعد مقتل القادر، وفي جملتها عقد زبيدة «حمة العقرب» وكان من الزمرد والماس والياقوت، قيل إنه كان لزبيدة زوج هارون الرشيد، فنهب يوم مقتل الأمين، وانتقل إلى الخليفة الأموي في الأندلس عبد الرحمن الثاني.
ثم صار بعد سقوط الدولة الأموية في قرطبة إلى الدولة النونية، فحمله القادر من طليطلة إلى بلنسية، فلما قتل استحوذ عليه القاضي ابن جحاف، ثم امتلكه السيد، وبقي في حوزته حتى مات، فأخذته شيمانة معها إلى قشتالة، ويقول ميناندز بيدال: إن عقد حمة العقرب كان بخزانة قشتالة في القرن الخامس عشر، فأثار شهوة الشريف ألفارو أولينا، فعدا عليه، وعثر الملك جوان الثاني على هذه الحلية سنة 1453م تحت عمود من أعمدة القصر الملكي في مدريد ثم ضاع أثرها، فلم يسمع بذكرها بعد هذا التاريخ.
وقيل: إن ابن جحاف عرض على السيد هدية من ذخائره؛ فردها عليه ولم يأخذها منه؛ فأوجس القاضي شرا، ثم أمره أن يبين في كتاب ما لديه من المال والحلي والجواهر، وأن لا يخفي شيئا عنه، فوعده بذلك، ولكنه أخلف الوعد، وأبقى الذخيرة مطمورة في الأرض، ويقول المقري صاحب نفح الطيب: «فاتفق أنها وجدت عند القاضي، فأمر به فأحرق حيا.»
على أن الذخيرة لم تكن السبب الوحيد الذي حمل رذريق على قتل أبي أحمد بن جحاف، فهناك أسباب أخرى جعلته يحقد عليه، ويرصد له الشر، منها: اغتياله لتابعه القادر بن ذي النون، وإقفاله المدينة في وجهه، وحجزه عنه ما أودع من الحنطة فيها، واستنجاده المرابطين عليه، وتلونه في المفاوضات حينا معه، وحينا معهم، حتى أدى الأمر إلى حصار طويل، أخره عن دخول بلنسية، وأضر بسكانها ضررا بليغا؛ لما أصابهم من الجوع الغاشم حتى أكلوا جلود الحيوانات.
ويقول ابن بسام: إن رذريق كان قد هم بإحراق زوجة ابن جحاف وبنيه معه؛ فضج المسلمون والمسيحيون معا، ورغبوا في ترك الأطفال والعيال، فأجاب رذريق سؤلهم بعد جهد شديد، وأضرمت نار عظيمة في ساحة بلنسية كانت تلفح الوجوه على مسافة بعيدة، وجيء بالقاضي أبي أحمد يرسف في قيوده، وقد احتفر له حفرة، فأدخل فيها إلى حجزته، أي وسطه ومعقد إزاره، وسوي التراب حوله، وضمت النار نحوه، فلما دنت منه ولفحت وجهه قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وقبض على أقباسها وضمها إلى جسده ليقصر مدة عذابه.
ثم اختار رذريق لبون بن عبد العزيز واليا من قبله على بلنسية ليستأنس به المسلمون، وأقام هو في قصر القادر يعنى بإصلاح إمارته وتدبير شئونها، منصرفا إليها بكل قواه، قال فيه أحد المؤرخين: إنه أحبها كعشيقة له. ومع ذلك لم يغفل عن امرأته وأولاده؛ فاستقدمهم من بيفار، ولبث نحو خمس سنوات يقاوم المرابطين، ويمنع تقدمهم في إمارته، فما ينالون منها منالا، ولا يستطيعون الإيغال في الولايات الإسبانية، حتى أصابته الحمى وثقلت عليه الجراح القديمة، وبلغه - وهو على هذه الحال - مقتل ولده دياغو في جيش ألفنس، وانهزام فرسانه أمام ابن عائشة قائد المرابطين في سنة 1097، فآلمه الخطب، واشتد عليه المرض، حتى نهك قواه، وأودى بحياته في تموز سنة 1099.
وكانت الجيوش الصحراوية لا تنفك تهاجم المدينة، فأبت الأميرة شيمانة أن تتخلى عن تراث بعلها؛ فظلت تدافع المرابطين زهاء ثلاث سنوات، وقائدهم مزدلي يشد الخناق على بلنسية، فلما ضاق ذرعها بعثت أسقف المدينة جيروم ذي بيروغورد تستنجد بابن عمها ألفنس، فخف إليها ملبيا، ورفع المرابطون الحصار عن بلنسية عندما عرفوا بمجيئه؛ فدخلها دون أن يلقى مقاومة، ولكنه وجد أن الدفاع عنها يرهق جيشه على غير جدوى، فلم يشأ أن يبقيه فيها عرضة لهجمات الملثمين.
فأمر شيمانة بالجلاء عنها فأطاعت مكرهة، وعادت برجالها مع الجيش إلى قشتالة، حاملة رفات زوجها رذريق (أيار سنة 1102م)، بعدما انتهبت بلنسية وأحرقت، فدخلها مزدلي وهي على تلك الحال.
وبموت السيد تطوى صفحة جليلة من تاريخ الأندلس العربية؛ فإن ولايتها أصبحت خاضعة لمراكش، تابعة ليوسف بن تاشفين الزعيم المرابطي، بعد نضال طويل اشترك فيه أمراؤها وأمراء إسبانية المسيحية، ليطردوا الغريب من بلادهم؛ فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.
يوم سرقسطة
ما كان طبيعيا أن تظل سرقسطة إمارة إسلامية مع تطرفها في الشمال الشرقي على نهر إبره (Ebre) ، وقد سقطت قبلها طليطلة في أيدي الإسبانيين؛ فجعلت نهر التاج فاصلا بينها وبين الولايات الأندلسية المسلمة، حتى أصبحت في شبه عزلة عن أبناء جلدتها، تستنجد في ضنكها ملوك الطوائف وتستنفر أمير المرابطين.
وقد أخذها ألفنس السادس بالحصار أخذا شديدا، فما رده عنها إلا نبأ جاءه عن يوسف بن تاشفين وأمراء الأندلس بأنهم زاحفون إليه في جموع جرارة، فبادر نحوهم قبل أن يبلغوا طليطلة، والتقاهم في بطليوس؛ حيث دارت عليه معركة الزلاقة بشؤم الطالع 1089م، فانكفأ منهزما إلى عاصمته في فلول من جيشه المكسور، فاستطاعت سرقسطة عندئذ أن تتنفس الصعداء، وتستعيد سلطانها على الولايات التي انتزعت من يدها، ولم يكن لها قبل بالدفاع عنها.
ولكن لم يطل الأمر حتى ساورها خطر جديد من ناحية أرغون لا يقل هولا عن الخطر الأول؛ فإن أميرها شانجه بن رذمير (Sancho Ramiro) ، أغار من جبال البرنات (Pyrénées)
بعشرين ألف مقاتل على نهر إبره، فتصدى له المستعين بن هود، صاحب سرقسطة يدافعه بظاهر وشقة (Huesca) ، وقيل: إن السيد رذريق الفارس القشتالي حارب مع المسلمين في هذه الموقعة، وكان يومئذ ضيف المستعين بعد أن نفاه ألفنس السادس من قشتالة.
إلا أن النصر حالف الأرغونيين فانهزم أمير سرقسطة في جيشه ودخل وشقة محتميا بقلعتها الحصينة؛ فضرب المسيحيون حولها آلات الحصار، وشدوا عليها الخناق ليكرهوها على الاستسلام ؛ فصبرت باسلة، ودافعت أنبل دفاع؛ لقي منه الأرغونيون ضيما وخسرانا، وأصيب فيه شانجه بسهم قاتل أودى بحياته 1093م، ومع ذلك فالحصار ما برح على شدته وضغطه، وتمكن الغزاة في الوقت نفسه من افتتاح مدينة إفراغة (Fraga)
والتغلب عليها ، فلم يبق من سبيل للمستعين إلا أن يفزع إلى حليف يناصره، وينفس الكرب عنه، فرأى أن يحالف عدوه ألفنس السادس؛ لما يعلم من تفسخ الأمراء المسيحيين، ثم من استياء صاحب قشتالة لتوسع مملكة أرغون.
وقد تعودت سرقسطة - لتطرف إمارتها - أن تؤدي الجزية لملوك قشتالة، وتحالفهم على الأعداء الذين يهددونها من قطلونية وأرغون والبشكنس (Basque) ؛ فقد رأينا السيد رذريق يلجأ إليها؛ لأن أميرها أبا جعفر المقتدر، ومن بعده ابنه المؤتمن والد المستعين كانا حليفين لفردينان الأول، ثم لولده ألفنس السادس؛ فغير عجيب أن يحذو الابن حذو أبيه وجده فيحتمي بعاهل قشتالة في الملم العصيب.
وكان ألفنس قد استأنف أهبته ونشاطه بعد كارثة الزلاقة؛ فخرج سنة 1087 يثخن في الولايات الأندلسية، مستنزلا أمراءها عن قواعدهم وحصونهم، فعاد هؤلاء إلى استصراخ يوسف بن تاشفين؛ فعبر إليهم سنة 1088م ينثر التيجان عن رءوسهم، ويبسط يده على إماراتهم، وافتتحت جيوشه بلنسية سنة 1092م فأزالت عنها كلمة النونيين، وهي تحت حماية السيد رذريق يومئذ، تابعة لمملكة قشتالة، وقد رأينا الفارس الإسباني يخف لإنقاذها برجاله وحلفائه المسلمين، حتى استردها سنة 1094م؛ لذلك لا يصح قبول الرواية التي تزعم أنه حارب ملك أرغون سنة 1093م منتصرا للهوديين؛ لأنه كان منصرفا في تلك السنة إلى تحصين القلاع الجبلية ببلنسية، ثم إلى السعي لمحالفة الأمراء المسلمين في السهلة وشاطبة ودانية ومربيطر.
وكما كان السيد مهتما بصد المرابطين عن الولايات الشمالية؛ خشاة أن يدخلوا إسبانية، فكذلك كان هم ألفنس السادس؛ فقد أزعجه توغلهم في الأنحاء الجنوبية والشرقية، واستيلاؤهم على بلنسية، فنشط إلى حشد الجيوش ليدفعهم عن بلادهم إذا حاولوا الغارة على طليطلة؛ فلهذا لم يكن بوسعه أن يجيب نداء المستعين عندما استغاثه ملتمسا حمايته، واعدا بتأدية الجزية على أن يمده بجيش يرد الأرغونيين عن وشقة، وقد بلغ منها الحصار أشده، فلما رأى المستعين أن ألفنس عاجز عن مساعدته لاشتغاله بدفع الخطر الصحراوي عن مملكته، أيقن أن لا فائدة من محالفته؛ فنقض المعاهدة، وولى وجهه شطر المرابطين، مع علمه بما يجر تدخلهم من الخطر على إمارته، ولكنهم على علاتهم أبناء ملته، ولعله تمثل قول المعتمد بن عباد: «رعي الإبل خير من رعي الخنازير.»
فأوفد ابنه عماد الدولة إلى يوسف بن تاشفين في مراكش، ومعه الهدايا النفيسة، يخطب وده ويستعينه على الأرغونيين، فلم يتلكأ أمير المسلمين عن محالفته، وهو يعلم موقع سرقسطة، وما يرجى من فائدته في مهاجمة الأمراء المسيحيين لقربها من ممالكهم.
ثم إنه كان يؤثر أن تظل هذه الدولة المسلمة شجا في حلوق الإسبانيين، فبادر إلى إنجاد وشقة بستة آلاف راجل وألف فارس، واعدا بمتابعة الإمداد، وكتب إلى أمراء دانية وشاطبة والسهلة يهددهم ويدعوهم إلى نصرة المستعين، وطرد الأرغونيين عن وشقة.
وكان عرش أرغون قد صار بعد وفاة شانجه إلى الدون بدرو ولده الأكبر، فتولى بنفسه قيادة الجيش، ملتزما حصار القلعة، حتى إذا بلغه زحف المرابطين ومن انضم إليهم من العساكر الأندلسية رفع الحصار عن وشقة وخف إلى لقائهم في الكرازة؛ فمزق جموعهم ثم ارتد إلى وشقة، فما انفك يحاصرها حتى سقطت في يده سنة 1096م، فجعلها قاعدة لملكه.
ويقول المستشرق الألماني جوزف أشباخ: إن الحروب الإسبانية بين المسلمين والنصارى اتخذت في ذلك العهد شكلا صليبيا منظما؛ لأن الكرسي الرسولي منع أمراء إسبانية من الذهاب إلى الشرق للمساهمة في إنقاذ الأراضي المقدسة أسوة بغيرهم من الأمراء المسيحيين؛ مخافة أن تنتقص قواهم، فيعجزوا عن القيام بقسطهم من الحرب الدينية في الغرب، خصوصا بعدما أوغلت جيوش المرابطين في ولايات الأندلس، وبات خطرها يحدق بالممالك المسيحية في إسبانية، إن لم يكن بالممالك الغربية جمعاء؛ فهب الأمراء الإسبانيون من كل جانب يدافعون العدو المغير على ثغورهم، فاتسعت دوائر القتال، وتعددت جبهات المعارك، ففي كل ناحية تزهق أرواح، وتغلي دماء.
وكان ملك أرغون قد أطمعه سقوط وشقة فراح يوالي الغارة إثر الغارة ووكده سرقسطة دون سواها، بيد أنها امتنعت عليه متمردة، فردته خائبا يائسا سنة 1101م، ثم إن المرابطين استردوا بلنسية سنة 1102م، بعد موت السيد رذريق؛ فأصبحوا مسيطرين على القسم الشرقي من البحر والبر، يهون عليهم أن يتداركوا سرقسطة ويدرءوا الخطر عنها، ثم رأوا أن وجودهم فيها أجدى نفعا لهم إذا أرادوا الغارة على قطلونية وأرغون، فدخلوها على كره من المستعين سنة 1107م، فنشبت بينهم وبين الأرغونيين معارك متتابعة، وكان يوسف بن تاشفين قد توفي سنة 1106م، وصارت الإمارة بعده إلى ابنه علي، فحشد جيشا عظيما سنة 1108م عاقدا لواءه لأخيه تميم.
فزحف الأمير المرابطي إلى قشتالة يثخن فيها، فاعترضته قلعة أقليش (Uclés)
تستوقفه بحصونها المنيعة، فأناخ عليها يحاصرها ويساور آطامها، فأصابها منه ضيق شديد، وكان ألفنس السادس قد بلغ من كبر السن ما أقعده عن خوض المعارك، فأشفق على قلعته أن تستخذي للأعداء، فتفتح لهم الطريق؛ فيتوغلوا في أرضه، فأمر بأن ترسل إليها نجدة قوية تنفس الكرب عنها، ولو يستطيع لقاد هذه الحملة بنفسه، وهو يعلم ما لوجوده من التأثير في إذكاء حمية رجاله.
فخيل إليه أن يملأ هذا الفراغ بإرسال وحيده شانجه وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، على رأي لاوي بروفنسال، فسار الغلام مع الجيش يصحبه مؤدبه الكونت غرسيه، حتى بلغوا أقليش، فالتحموا والمرابطين في معركة الوطاة، عادت عليهم بالخسار والخذلان، فقتل شانجه ومؤدبه، وعشرون ألفا فيهم سبعة من قوامس (Comtes)
قشتالة.
لا نحاول أن نحيط ما أصاب ألفنس من الحزن الأليم عندما انتهى إليه نبأ أقليش، فحسبنا أن نتصور هذا الملك الشيخ يجر وراءه أمجاد ثلاث وأربعين سنة استوى فيها على العرش، فإذا هو يمنى آخر حياته بكارثة لم تقتصر على انكسار جيشه واستسلام قلعته، بل جاوزت ذلك إلى الفجيعة بابنه الوحيد، بقية أمله، ووارث عرشه.
وتقول الرواية الإسبانية: إن شانجه لم يكن ولدا شرعيا؛ فقد رزقه ألفنس من حظيته ابنة المعتمد بن عباد،
1
وكان يحبه كثيرا لما بدا من نجابته على حداثة السن، فخالف فيه القانون المرعي وجعله ولي عهده، ومحط رجائه، فماذا يكون مصير تلك المملكة العظيمة إذا تركها ولا وارث من صلبه يجمع أجزاءها، وهو لا يأمل أن يرزق ولدا بعد أن بلغ من العمر عتيا؟
وقعت هذه الهموم ثقيلة على عاتق الشيخ الفاني، فكاد يهوي تحتها لولا بقية حزم لم تنل منها عاديات السنين، فرأى أن لا سبيل إلى بقاء العرش في سلالته إلا بنقل ولاية العهد إلى ابنته أوراكا، وكانت فتاة ذكية كثيرة المطامع، تزوجت في العاشرة من عمرها بالكونت ريمون البورغوني، ثم توفي بعلها بعدما رزقت منه غلاما سمته ألفنس باسم أبيها، غير أن الملك الشيخ خشي ألا تستطيع ابنته حماية المملكة وحدها؛ فآثر أن يزوجها ملكا قويا من أنسبائه، فوقع اختياره على ملك أرغون حفيد عمه راميرو.
وكان بدرو قد توفي سنة 1105م وخلفه أخوه ألفنس الأول، ذاك الذي لقب بالمحارب؛ لبسالته وغاراته المتلاحقة على ثغور المسلمين، ولم يغب عن والد أوراكا ما يتعلق بهذا الزواج من الخير لإسبانية؛ إذ تصبح مملكة قشتالة ولاون وجليقية وأشتوريش ومملكة أرغون والبشكنس دولة واحدة، فدعا مجلس النواب (Cortés)
فانعقد في لاون؛ حيث اجتمع الأساقفة والقوامس وحكام الولايات ورجال الدين والأشراف والفرسان وممثلو الطبقة الوسطى، فقرروا أن تكون أوراكا وارثة مملكة قشتالة ولاون وأشتوريش، وإن تزوجت بألفنس الأول ملك أرغون، حتى إذا لم ترزق منه ولدا عادت المملكة بأجمعها إلى ابنها ألفنس البورغوني، وأعطي هذا عرش جليقية على أن يكون تابعا لقشتالة.
وتوفي ألفنس السادس سنة 1109م بعد أن اطمأنت نفسه إلى نظام ولاية العهد، وأمن على عرشه من الانهيار، وما خطر له أن زواج ابنته بنسيبها ملك أرغون سيدفع البلاد إلى فتنة حمراء؛ ذلك أن كلا الزوجين رضي الآخر بدافع المنفعة الشخصية لا بدافع الحب المتبادل، وأن كليهما كان يريد أن يستأثر بالسلطة دون رفيقه، وفي نفسه من الطماح والصلابة ما يأبى عليه أن يلين أو يتنازل عن شيء من حقوقه، حتى بلغ التنازع بينهما إلى النفور فالتباغض، ثم إلى مجاهرة الخلاف والقطعية؛ فطلبت أوراكا الطلاق متذرعة بموانع القربى، وراحت في الوقت نفسه تبسط يدها للعشاق مستنصرة بهم، مثيرة غيرة بعلها؛ لتحمله على قبول الطلاق.
واشتهرت روايتها الغرامية فباتت سمرا للناس، ولا سيما صلتها بالكونت غومز، وكان ألفنس يتألم في كبريائه من سلوك زوجته ويزداد سخطا عليها، غير أنه رأى من الحكمة أن يرفض تطليقها؛ حفاظاعلى حقوقه في مملكة قشتالة، وأن يعمد إلى تدبير جازم يضع حدا لنفوذها وتهتكها، فأمر باعتقالها بعد أن جعل حصون طليطلة في حراسة جنوده الأرغونيين.
إلا أنها تمكنت من الفرار وأخذت تدس لزوجها وتؤلب عليه الأنصار من قشتالة ولاون وأشتوريش؛ فنشبت في إسبانية حروب أهلية أدمتها عدة سنوات، وخاض غمارها ألفنس ابن أوراكا منازعا أمه من جهة وألفنس المحارب من جهة أخرى ... على أنها كانت تتوقف حينا بعد آخر ليردوا غزاة المرابطين عن بلادهم، أو ليغيروا على ثغور الأندلس.
ولبثت إسبانية قلقة لا تستقر على حال، حتى يئس ألفنس المحارب من خضوع قشتالة، فسكت عن المطالبة بحقوقه، مكتفيا بلقب قيصر إسبانية؛ أسوة بألفنس السادس، وكان الحبر الأعظم قد أقر فسخ الزواج بمانع القرابة، فانفصلت أوراكا عن زوجها انفصالا شرعيا، ثم أزال بسلطانه الروحي خلاف الأم وولدها على أن يملكا معا، فتم الصلح بينهما في اجتماع عقد سنة 1124.
وكان ملك أرغون - مع اشتغاله بالفتنة الأهلية - لا يفتر عن مجاهدة المرابطين ومنعهم من الإيغال في بلاده؛ فقد أغار علي بن يوسف بن تاشفين على ولاية طليطلة، فاستولى على طائفة من حصونها، وافتتح مجريط (مدريد)، ووادي الحجارة (Guadalajara)
وسواهما، ثم عاد إلى مراكش وبقي قائده مزدلي يتابع بعده الغارات.
وحدثت عدة مواقع في جهات مختلفة من الولايات الإسبانية رافق النصر في أكثرها المرابطين؛ فافتتحوا عددا من المدن والقلاع، وأتلفوا الحقول والمزارع؛ فأصيبت البلاد من جراء ذلك بقحط شديد، ونالها من العناء ما أضيف إلى ما تعانيه من حربها الداخلية التي انتفعت بها جيوش ابن تاشفين، ويقينا لو أن المرابطين وأهل الأندلس على وفاق خالص لكانت الفرصة يومئذ أسنح ما يرجى لاكتساح العدو والقضاء عليه، ولكن أمراء الأندلس كانوا ناقمين على الدولة الإفريقية لاستطالتها على ولاياتهم، واغتصابها السلطة من أيديهم، فلم يولوها المعونة الصادقة، بل ربما وجدت فيهم من يمالئ الأعداء؛ فإن أمير سرقسطة عبد الملك بن هود ساءه أن يصبح المرابطون سادة في عاصمته يعود الأمر إليهم، وهو ليس له أمر؛ فانتفض عليهم غير ناظر في نتيجة عمله.
كان شجاعا كأبيه المستعين، ولم يكن كأبيه ذكاء وفطنة، فخرج من سرقسطة برجاله وأهله، فقصد إلى حصن روطة (Roda)
فامتنع به، ولو اكتفى بعمله هذا لهان الخطب، ولكن مقته للمرابطين ضرب على عينيه غشاء من الغفلة؛ فتورط في عقد محالفة مع ألفنس المحارب، ناسيا أن حليفه الجديد يطمع من زمن في امتلاك سرقسطة ليزيل عقبة كأداء تواجه مملكته، وتحول بينه وبين حرية الملاحة في نهر إبره، وما كان ينبغي له أن ينسى - والعهد قريب - مهاجمة الأرغونيين لعاصمته غير مرة، وارتدادهم عنها خاسرين أمام مزدلي قائد المرابطين، بل ما كان ينبغي أن ينسى مقتل أبيه المستعين وهو يدافع عن حصن تطيلة (Tudela)
سنة 1110 ليمنع ملك أرغون من التقدم إلى سرقسطة.
فلما تمت المعاهدة بين الأميرين زحفت جيوشهما متحدة إلى المدينة فحاصرتها حصارا شديدا، وأكرهت المرابطين على الخروج منها فتركوها سنة 1117م/511ه بعدما حاولوا استردادها تكرارا دون جدوى، حتى تمزق جيشهم في المعركة الأخيرة التي اصطلى نارها الأمير تميم.
وهنا تختم مأساة سرقسطة؛ فإن ألفنس المحارب بعد أن بات بمأمن من خطر المرابطين عاوده الطمع في الاستيلاء على تلك القاعدة الحيوية لمملكته، فطلب إلى حليفه أن يتنازل له عنها، فكان جواب عبد الملك رفضا أبيا، واستعدادا للدفاع.
على أن الملك أرغون لم يكن يتوقع غير هذا الجواب، فجاءه وهو على تعبية لمهاجمة المدينة، فباغتها بجيشه قبل أن تأخذ أهبتها للقاء، فنصب عليها آلات الحصار، وواثبها بقسوة عاتية، فقابلته بمثل شدته، وصبرت للحصار صبرا شريفا يتفق المؤرخون على التنويه بذكره، مع أنها لا تأمل نجدة تأتيها فتفرج الضيق عنها، وليس لديها من المئونة ما يكفيها لحصار طويل ، حتى إذا نشب الجوع يهددها وآضت المقاومة إلى ضرب من الجنون فالانتحار، اضطر عبد الملك إلى طلب الصلح والتخلي عن عاصمته، وهو في يقظة من الألم المرير لغفلته الحمقاء.
فعاهده ألفنس أن يضمن لأهل المدينة الأمان على النفوس والأموال، وأن يترك لهم الحرية في إقامة شعائر الدين وشرائع التقاضي، وأن يخيرهم في البقاء أو المهاجرة.
ففتحت سرقسطة أبوابها في 18 تشرين الثاني 1118م/4 رمضان 512ه؛ فدخلها ملك أرغون بعساكره محفوفا برسوم الأبهة والجلال، وفيما هو يحتل قصورها وثكناتها، ويحول مسجدها الجامع إلى كاتدرائية، كان عبد الملك بن هود يشد أثقاله ويحمل أمواله ويخرج في مأتم من أهله وحرسه إلى حصن روطة ليتحذه مقرا، وهاجر بعده كثير من المسلمين، فمنهم من اقتفى أثره، ومنهم من قصد مرسية أو بلنسية.
وجعل ملك أرغون سرقسطة عاصمة لمملكته كما جعل ملك قشتالة طليطلة من قبل، فانهارت بها القاعدة الثانية من كبريات قواعد الأندلس العربية بعدما لبثت أربعمائة سنة حصنا ركينا من حصون المسلمين، وقذى في عين إسبانية المسيحية، تعترض طريقها، جاثمة على نهر إبره.
معركة الأرك
كل أمراء الأندلس - كعبد الملك بن هود - ساخطون على المرابطين، يشتهون زوال دولتهم، لا يحترسون من صفقة حمقاء يعقدونها على غرار سرقسطة؛ توسلا للخلاص من جفاة الصحراء، شاء القدر المشئوم أن يفزعوا إليهم في تفسخهم، وخناق الإسبان يلتف على أعناقهم.
فما نفس يوم الزلاقة عن صدورهم حتى تهاوت التيجان عن الرءوس، وتداعى عليها استقلال شعب ما انفك - منذ أربعة قرون - ينافح الأعداء حرصا عليه، ويقرب لهيكله الحرام غوالي الدماء.
فإذا هم في أرضهم طعام مأكول، ودولتهم ولاية في دولة الملثمين، وإذا مراكش عاصمة لقرطبة أم العواصم، وحاضنة الخلفاء والملوك، تنهى وتأمر؛ فتطاع ولا تسأل، وتعطى ولا تحاسب، فإن المرابطين ما تعودوا في عسفهم، وعسف وطأتهم، مجاملة وسماحا.
إنهم يسوقون أهل الأندلس سوق الغالب للمغلوب، ومخاشنة البدو الغلاظ للحضر المتنعمين؛ يطاردون الفكر فما تطمئن إليهم فلسفة أو منطق، ويبتعثون التعصب؛ فكل مذهب إلا مذهب مالك مضطهد مكروه، بالحيف والإرهاب يأخذون الناس، وآذانهم يفتحون للدسائس والوشايات.
دانت لهم الأندلس مستكينة للبطش والقوة، فامتلكوها قادرين، ولكنهم عجزوا عن امتلاك القلوب؛ برابر غرباء، لا روحهم روحها، ولا عقليتهم عقليتها، فيهم قسوة وصلابة واستبداد، فلبثت تململ حاقدة تحت قبضتهم العاتية، شأن كل أمة مهيضة، تعنو للمسيطر ما دامت له القوة، حتى إذا آنست فيه الضعف أفلتت غاضبة تطلب استقلالها المفقود.
ويقودها الحقد - مع ما بها من وهن العود - إلى التخلص من الغاصب على غير روية وهدى؛ فتحالف دولة مخوفة الجانب، تستنصرها وتستخلصها مغترة بما تجد عندها من العطف ولين المواعيد، ويتغافل أصحاب الحكم فيها عن الخطر الجديد في الحلف الجديد، يتهافتون عليه عامهين، وهم لو راجعوا قرارة نفوسهم لرأوا أنهم لم يقعوا على أهون الشرين.
بل حب التشفي من المتسلط القديم، والأمل المعقود على الموهوم من فضيلة التغيير، يجعلهم يتعامون عن الخطر الأعظم، لا يبصرون لديه إلا خيرا وفرجا؛ فتمتد إليه الأيدي داعية، مستجيرة من الرمضاء بالنار، لجوء أمراء الأندلس إلى ملوك إسبانية متناسين مطامع قشتالة وأرغون، وتاريخا صارخا مخطوطا بالدماء، أو كما لجئوا إلى الموحدين يستقدمونهم.
وإنما هم يستبدلون دولة إفريقية ظافرة، بدولة إفريقية مغلوبة، وينتقلون من استعباد إلى استعباد، لا يخطر لهم على بال أن يبحثوا في ذواتهم عن الداء والدواء بحثا صادقا مجديا؛ ليدركوا أن ما بهم من هزال ناشئ عن شقاقهم وتخاذلهم؛ نتيجة مرض السيادة فيهم، وعدوان قويهم على حرية الضعيف؛ فأصبح بعضهم يناصب الآخر أو يخذله إذا واثبه عدو غريب، وربما حالف هذا العدو عليه، لا يبالي ما يجر على بلاده وقومه من الهوان والدمار، فبين أمراء الأندلس تبادل لا ينقطع من الطمع والحذر وإضمار الشحناء، مع ما هم عليه من الاستهداف الطبيعي لغزوات جيرانهم في الشمال والجنوب.
ومعلوم أن الممالك الإسبانية لا تقل عن الممالك الأندلسية تباغضا وخلافا، غير أنهم كانوا يدفنون أحقادهم إلى حين عند تكالب الأخطار؛ فيتهادنون، أو يتحالفون ليصرفوا قواهم إلى مجاهدة أعداء الدين، وإن كان بعضهم لا يستنكف أحيانا أن يحارب أبناء ملته في صفوف المسلمين.
ويجدون عدا ذلك - في الدول المسيحية المجاورة - أعوانا يخفون إلى نصرتهم رغبة في الجهاد، أو شهوة للغنائم، لا طمعا في الاستيلاء على بلادهم وإزالة كلمتهم، كما يطمع سلطان مراكش في التغلب على الأندلس، فيستبد بشئونها المرابطون، ثم يستبد بشئونها الموحدون.
وقد صبر الأندلسيون على حكم أبناء تاشفين زهاء قرن، يقدمون لهم الطاعة كرها، ولا يحجمون - إذا أمكن - عن خذلهم في محاربة المسيحيين، حتى سقطت سرقسطة في يدي ألفنس المحارب 1118م.
ثم تلتها معارك أخرى، افتتحت خلالها قلاع حصينة كان يعتصم بها الملثمون، من بينها قلعة أيوب (Calatajud) ، أناخ عليها ألفنس سنة 1120م، فدافعه دونها الأمير تميم، ثم اضطر أن ينزل عنها بعدما صرع أمامها عشرون ألفا من جنوده الأباسل.
فهذه الهزائم المتتابعة نالت من هيبة المرابطين، وأطمعت فيهم أهل الأندلس؛ فاستهانوا الوثوب عليهم لإجلائهم واستعادة الحق المغصوب، وكانت قرطبة في رأس القواعد الأندلسية سخطا وحنقا، يؤذي كرامتها جنف الصحراويين وغلاظتهم، ولم يأن لها أن تنسى عزتها الملوكية والعرش الأثيل، فهبت ثائرة تضرب في وجه الحامية المرابطية، وتريها المنايا ألوانا، حتى حملت علي بن تاشفين على أن يعبر الزقاق بجيش لهام، فيخمد ثورتها بعد عناء.
ولكن، ما حيلة المرابطين وقد تأذن القدر بانهيار سلطانهم، فتركهم غرضا لسهامه! فبينا هم يغالبون أحرار الأندلس حينا، وغزاة الإسبان أحيانا، أخذت ثورة الموحدين تحتدم في المغرب، فتستأثر بقواتهم، وتشغلهم عن ضبط ولايتهم عبر المضيق ودرء الأعداء عنها.
فإن الدعوة التي أظهرها مهدي بني مصمودة محمد بن تومرت كانت بليغة التأثير، سريعة الانتشار؛ فتبعه خلق كثير، فجند منهم عشرة آلاف، وقدم عليهم أبا محمد البشير أحد صحابته العشرة، وبعثهم لمجاهدة المرابطين، فراحوا يغزون في بلاد المغرب، وينكلون بالجيوش المرابطية 1122م حتى أوقعوا الذعر في القلوب.
وما زال الخطر يعصف من بلد إلى بلد حتى شارف مراكش العاصمة؛ فدافع عنها الملثمون مستبسلين مستميتين، فتمكنوا من إنقاذها، وارتد عنها الموحدون خاسرين، بعد أن قتل قائدهم أبو محمد البشير 1125م.
على أن انتصار المرابطين في مراكش لم يكن بوسعه أن يستر انخذالهم في الوقت نفسه أمام ألفنس المحارب ملك أرغون؛ فقد أغار هذا الأمير المقدام على الولايات الأندلسية متكلا على مساعدة «الفرقة الخامسة» من المعاهدين (Mozarabes) ، وهم النصارى المستعربون الذين يعيشون في الأراضي الإسلامية.
واستطاع أن يجتاب الأندلس من الشمال إلى الجنوب عائثا مخربا ينسف الزرع والعمران، ويزداد جيشه تضخما كلما تقدم بما ينضم إليه من المعاهدين حتى بلغ البحر المتوسط، ثم عاد برجاله سالما غانما منتصرا، أفلا يكفي هذا وحده أن يؤكد للأندلسيين ضعف القوى المرابطية؛ فيستهينوا بها، ويذهب ما عندهم لها من الحرمة، وهم إلى ذلك يعلمون أن ثورة المغرب في إبان اشتعالها، والملثمون - كما يبدو - عاجزون عن إطفاء نارها؟
فإن هزيمة الموحدين في مراكش لم توهن عزيمة المهدي ولا صرفته عن دعوته الجريئة؛ فعهد في قيادة عساكره إلى عبد المؤمن بن علي موضع ثقته العظمى، وأحب صحابته إليه، فتمكن هذا من الإيقاع بجيش عظيم من المرابطين يقوده الأمير أبو بكر بن علي 1130م، وعقب هذا الانتصار موت المهدي، فبويع عبد المؤمن بالخلافة بعده، فتم على يده فتح مراكش وانهار عرش أبناء تاشفين 1146م.
ومن الطبيعي أن تساهم الأندلس في إرهاق المرابطين - خلال هذه السنوات - مساهمة فعالة، على أمل أن تخلع نير المغتصب، ويعود إليها استقلالها القديم، فإذا هي تخدم مصلحة الموحدين من حيث أرادت أن تخدم مصلحتها؛ فقد شبت الثورة في البقاع الغربية، يؤرثها أحمد بن الحسين بن قسي؛ فاندلعت سريعة ممتدة إلى إشبيلية وقرطبة، تتلقف المرابطين من كل صوب، ويعجز عن كبحها قائدهم يحيى بن غانية.
بيد أنها تحتاج إلى نجدة تأتيها من الخارج فتضمن نجاحها، والموحدون في عدوة المغرب يثخنون في المرابطين، فلماذا لا يدعوهم أحمد بن الحسين ويقدم لهم الطاعة، حتى إذا أبطئوا عن تلبيته بشاغل حروبهم لا زهدا في الأندلس، تتلفت أنظاره إلى ألفنس بن هنري البورغوني ملك البرتغال، فيمده بتجريدة باسلة، تنفذ في الولايات المرابطية مفسدة ثقيلة الوطأة.
وكان عبد المؤمن أمير الموحدين يحاصر يومئذ مراكش 1146م، وعيناه ناظرتان إلى الجزيرة ، يرى الملك البرتغالي يناصر الثوار، ويملأ يديه من الغنائم، ويرى ألفنس السابع ملك قشتالة
1
يعضد المرابطين طمعا فيهم، ومعاكسة لصاحب البرتغال.
أفما يجدر به أن يخف إلى نجدة ابن قسي، فيسحق قوات الملثمين ويقصي خطر المسيحيين عن الأندلس المسلمة؛ فهو بها أولى، وإليه قبل غيره فزعتها ونداؤها، وهذه مراكش توشك أن تفتح له الأبواب؟
فجهز حملة من عشرة آلاف فارس وعشرين ألف راجل، وقدم عليها قائده موسى بن سعيد، ثم أجازها الزقاق؛ فافتتحت حصن الجزيرة، وجبل طارق، هازمة عنهما قوات المرابطين، ووافق ذلك سقوط مراكش وزوال دولة ابن تاشفين في إفريقية؛ فبات من السهل على الموحدين - وثوار الأندلس حلفائهم - أن يستأصلوا بقايا أعدائهم، أو يقسروهم على الجلاء.
ومع هذا، لم يتم لهم الأمر إلا غب معارك دامية بذل فيها ألفنس السابع جهدا عظيما دون جدوى، لنصرة الملثمين؛ فأوهنت قواه على تقدم العمر، فمات منهوكا سنة 1147م، وترامى شتيت المرابطين إلى الجزائر الشرقية (Baléares) ، أما الأندلس فلم تزل تابعة مراكش تحلم بالاستقلال، وتستيقظ على العبودية، بالأمس كان يتولاها الأمير تميم من قبل أخيه ابن تاشفين، واليوم يتولاها السيد أبو يعقوب يوسف من قبل أبيه عبد المؤمن بن علي، بربري إثر بربري، ما أضيع الثورة في سبيل الحرية!
لم يستطع الخليفة الموحدي أن يدخل الأرض الأندلسية إلا سنة 1161م، بعد أن دوخ بلاد إفريقية وافتتح المهدية وتونس، وكانتا في حكم النرمند أصحاب صقلية، فعبر المضيق ونزل بجبل طارق، فأنشأ فيه حصنا سماه جبل الفتح.
إلا أنه لم يمكث طويلا، بل آثر العودة إلى عاصمته المغربية، تاركا جيشه يوالي منازلة الثائر محمد بن سعد بن مردنيش أمير بلنسية وحليف قتشالة ولاون، وتوفي عبد المؤمن قبل أن تقمع ثورة ابن مردنيش؛ فتولى الخلافة ابنه أبو يعقوب يوسف، فتابع مجاهدة الثوار وحلفائهم الإسبانيين، حتى استنزلهم عن بلنسية سنة 1171م، فهرب محمد بن سعد إلى جزيرة ميورقة (Majorque) ، وخضع أولاده لسلطان الموحدين.
وكانت البرتغال يومئذ أشد الممالك المسيحية صولة على الأراضي الإسلامية؛ فإن مليكها ألفنس البورغوني، بعد أن حقق استقلال دولته، نازعا عنها يد قشتالة، صرف همته إلى توسيع حدودها بامتلاك ما جاورها من الثغور الأندلسية، فلقب بالفاتح لكثرة ما أخضع من المدن والقلاع، فكان على الموحدين أن يجابهوا هذا الخطر قبل استشرائه.
فحشد أبو يعقوب جيشا عظيما سنة 1184م واجتاز به إلى الأندلس قاصدا أشبونة (لشبونة) عاصمة البرتغال، فقطع نهر التاج، فاعترضته قلعة شنترين الحصينة (Santarein) ، فنصب لها أدوات الحصار، وأمر ابنه السيد أبا إسحق والي إشبيلية، أن يسير بقواته في الصباح وجهة أشبونة، ويحمي طريق شنترين، ففهم الأمر على غير وجهه وارتد بعساكره نحو إشبيلية، في حين أن شانجه (sancho) - ابن ملك البرتغال - كان يتقدم إلى شنترين بخمسة عشر ألف مقاتل، ثم ينضم إليه أسقف شنت ياقب بعشرين ألفا.
فوقع الاضطراب في صفوف الموحدين، وقلقت نفوسهم بغفلة أبي إسحق؛ إذ أصبحوا بين القلعة والجيش الزاحف عرضة للتطويق، وأدركهم المسيحيون وهم على هذه الحال المزعجة، فقاتلوا قتال اليائس، الواهن العزيمة، فدارت عليهم الدائرة، وقتلت نخبة فرسانهم، وصبر الخليفة أبو يعقوب لعض السلاح صبر الكرام حتى سقط مدرجا بدمائه، ثم توفي متأثرا من جراحه 1184م، وكان يوم شنترين مشئوم الطالع على الموحدين؛ فارتدت فلولهم الناجية إلى قواعدها الأندلسية بأسوأ مصير.
وصارت الخلافة بعد أبي يعقوب إلى ولده الأمير عبد الله يعقوب، فتلقب بالمنصور، وكان همه في بدء سلطانه أن يجهز على بقايا المرابطين في الجزائر الشرقية ليمنع عدوانهم، أو يخمد فتنة داخلية يختل بها السلام، فأتاح للبرتغال أن تغنم فرصة مؤاتية، فتستأنف الغارات على الأندلس وتعود منها بفتح جديد، ثم توفي ملكها ألفنس 1185م فتسلم العرش بعده ابنه شانجه، فسار على خطة أبيه في منازلة المسلمين.
ثم شغلته أحداث داخلية؛ فترك الجهاد لألفنس الثامن ملك قشتالة، وكان هذا الأمير لا يفتر عن غزو الولايات الأندلسية، مع ما يعاني من مشاكل عسيرة تولدت بعد وفاة أبيه شانجه الثالث؛ وذلك أن جده ألفنس السابع اتبع نظام ولاية العهد - الطريقة السيئة التي سنها أسلافه - فقسم مملكته بين ولديه، فجعل أكبرهما شانجه الثالث على عرش قشتالة، وأعطاه حق الجزية على مملكتي نافار وأرغون، وجعل أصغرهما فردينان الثاني على عرش لاون وما يليها، وأعطاه حق السيادة على البرتغال، وكأنه أراد أن يتدارك خطر هذه التجزئة فاشترط على فردينان أن يكون تابعا لأخيه.
وفي سنة 1158م توفي شانجه الثالث ملك قشتالة عن ولد في الثالثة من عمره اسمه ألفنس - ويلقب بالنبيل - بعد أن عهد في الوصاية عليه إلى بعض أشراف كاسترو من أكرم الأسر الإسبانية، ولم يجعل الوصاية لزوجه بلانكه أخت ملك النافار؛ ولا لأخيه فردينان؛ خوفا على الطفل من مطامع عمه وخاله، وكانت أسرة لارا تنافس أبناء كاسترو في الشرف والسيادة، فساءها أن يصبح الملك في حوزة نديدتها، تعتز به ويتعاظم نفوذها وسلطانها، فحملها الحسد على أن تختطف الأمير الصغير وتجعله في عهدتها، فأدى عملها هذا إلى حدوث مجزرة بين الأسرتين دميت لها إسبانية وتفككت أوصالها.
ثم استجاش آل كاسترو فردينان الثاني ليحمي ابن أخيه، فساقه الطمع إلى أن يبعث جيشا يثخن في قشتالة ويحتل حصونها ومدنها، ولكنه لم يستطع أن ينتزع الطفل من أيدي بني لارا، وثارت قشتالة بجملتها تؤيد هذه الأسرة لوجود الملك عندها، فقاومت صاحب لاون وأبناء كاسترو معا، وردت غزوات ملك النافار وأمراء المسلمين.
ولما بلغ ألفنس النبيل الحادية عشرة 1166م بويع بالملك، يشد أزره القشتاليون وأبناء لارا؛ فرد غارات عمه، وطرد أسرة كاسترو، فأخذت تلجأ حينا إلى الموحدين، وحينا إلى لاون حتى توفي فردينان الثاني 1188م، وصار الملك إلى ولده ألفنس التاسع، ولم يكن كفؤا لابن عمه صاحب قشتالة؛ فكف عن النزاع.
وكان ألفنس الثاني ملك أرغون - وهو سبط راميرو أخي ألفنس المحارب - قد رأى أن يحالف قشتالة ويعترف بحقوقها لكي ينصرف إلى محاربة المسلمين، ودفع النافاريين عن الأراضي التي يفتتحها من الأندلس لئلا يستولوا عليها، أما ألفنس التاسع ملك لاون، وشانجه السابع ملك النافار، فكانا يؤثران محالفة المسلمين على محالفة ألفنس الثامن النبيل؛ لأنهما لا يريدان الاعتراف له بالسلطان، غير أن الخطر الذي بات يهددهم من قبل الموحدين أكرههم على السكوت؛ فكانوا يتهادنون أو يتحالفون إلى حين.
وشاء ألفنس الثامن أن يحمل على عاتقه عبء هذا الخطر المخيف، مع ما كان يعانيه من مكايد آل كاسترو والأمراء المسيحيين؛ فراح يغزو الأندلس، يعيث في بسائطها، وينيخ على قواعدها، حتى أخذته نشوة الظفر وهو يسير من نصر إلى نصر؛ فحدثته نفسه بأن يتحدى خليفة الموحدين، فيدعوه إلى الحرب مستهينا به، مثيرا حفيظته.
ويقول ابن أبي زرع في روض القرطاس: إن ألفنس النبيل كتب هذه الرسالة إلى الخليفة يعقوب المنصور وبعث بها إلى مراكش:
بسم الله الرحمن الرحيم، من ملك النصرانية إلى أمير الحنيفية، أما بعد؛ فإن كنت عجزت عن الحركة إلينا، وتثاقلت عن الوصول والوفود علينا، فوجه لي المراكب والشواني أجوز فيها بجيوشي إليك حتى أقاتلك في أعز البلاد عليك، فإن هزمتني فهدية جاءتك إلى يدك، فتكون ملك الدينين، وإن كان الظهور لي، كنت ملك الملتين، والسلام.
وروى ابن الأثير وابن خلكان رسالة قريبة من هذه، وأكثر تفصيلا، وعلق ابن خلكان عليها بقوله: «إن نص هذه الرسالة كتب مثله الأذفونش بن فردكند (ألفنس السادس بن فردينان) إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.» ومهما يكن من شيء فإن الرسالتين لا تختلفان في المعنى وفي طريقة الاستفزاز، فلما وصل الكتاب إلى الخليفة المنصور، تلظى غيظا من صلف الملك الإسباني واستخفافه المهين؛ فأمر ولده وولي عهده السيد محمدا بالرد عليه، فكتب على ظهره الآية:
ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ، ثم أضاف إليها:
2
الجواب ما ترى لا ما تسمع:
ولا كتب إلا المشرفية والقنا
ولا رسل إلا الخميس العرمرم
وما كان من المنصور بعد أن تلقى كتاب ألفنس ورد عليه إلا أن نشط للحرب يعد أهبته، ويعبئ الجيوش ويبعثها إلى الأندلس.
حتى إذا تم له الحشد العظيم عبر إلى الجزيرة الخضراء، فانضمت إلى جنوده العساكر الأندلسية، فتألف منها جميعا جحفل جرار يضيق عنه الفضاء - كما يعبر ابن الأثير - وتقدره بعض الروايات المغالية بستمائة ألف مقاتل، وكان الجيش النظامي فيه مؤلفا من قوات الموحدين الخاصة، ومن الفيالق الأندلسية، وسائره جموع غفيرة غير نظامية من قبائل العرب والبربر الراغبين في الحرب والجهاد.
ومما يجدر ذكره أن جيش الموحدين النظامي كان من أرقى الجيوش في ذاك العصر، ويعود الفضل في إنشائه وتنظيمه إلى الأمير عبد المؤمن خليفة المهدي؛ فإنه كان ذا خبرة عظيمة في تدريب الجيوش وقيادتها وإدارة حركاتها؛ فقد ابتنى في مراكش مدرسة عسكرية يجتمع بها نحو ثلاثة آلاف طالب من الأشراف يسمون الحفاظ وطلبة العلم، وكان يمتحنهم بنفسه ليقف على تقدمهم في فنون القتال؛ فيشهد رياضتهم على أبواب الطعن والضرب والرمي والمبارزة، والعدو وركوب الخيل، والسباحة وقيادة السفن والوثب إلى سفن الأعداء ومعارك البحار.
فهذه العناية بتنطيم الجند ضمنت للموحدين جيشا مدربا أجمل تدريب، يطمئنون إليه في محاربة أعدائهم، ويجني لهم الظفر في أغلب المواقع.
وكان الخليفة المنصور يرمي في زحفه الرهيب إلى مساورة طليطلة عاصمة قشتالة، فبلغه أن ألفنس الثامن حشد جيوشه بين قرطبة وقلعة رباح (Calatrava)
بالقرب من حصن الأرك (Alarcos) ، ويسميه ابن الأثير وابن خلكان مرج الحديد؛ فغير خطته ودلف إلى لقائه حيث يرابط بعساكره، فلما صار منه على مسافة يومين عقد مجلسا للشورى من كبار القواد وأصحاب الرأي ليتفق وإياهم على الطرق التي ينبغي اتباعها، وكان القواد الأندلسيون أدرى من غيرهم بمكايدة الإسبان ومعاكسة أساليبهم؛ فأحب أن يسترشد بنصائحهم، فاستشار خصوصا القائد أبا عبد الله بن صناديد لما يعرف عنه من الحنكة وصدق النظر، فأشار عليه بتوحيد القيادة وخطة القتال، وأن يعهد في قيادة العساكر الأندلسية إلى رؤسائهم؛ لأنهم لا يحسنون الحرب، ولا يتحمسون لها إذا أقيم عليهم قواد غرباء، وأشار أيضا بأن تقدم الجنود النظامية لمجابهة العدو والتقاء حملته إذا حمل، وأن تبقى القوات غير النظامية واقفة على أهبتها احتياطا للنجدة، وأن ينزل الخليفة بحرسه الأبيض والأسود وراء التلال القريبة، فإذا تراوح الفريقان غار النصر فاجأ العدو بهجوم صاعق فيقضي عليه.
استحسن المنصور هذه الآراء وأمر القادة بالتزامها، ثم أناط الرئاسة العليا بوزيره أبي يحيى بن أبي حفص، وكان على شجاعته صاحب خبرة ودراية.
وأما جيش قشتالة، فلم يكن ضئيل الحشد، فهو على رواية المستشرق جوزف أشباخ، يزيد على مائة ألف مقاتل، وتبالغ الرواية العربية فيه فترفعه إلى ثلاثمائة ألف، ومع ذلك كان لا يوازي جيش الموحدين في عدده؛ فإن تعبيتهم يفوتها الحصر والإحصاء.
واعتمد ألفنس - على الأخص - منظمات الفروسية المسيحية كفرسان الداوية،
3
وفرسان قلعة رباح، وغيرهم من جماعات الفروسية في مملكته، بيد أنه استعظم الخطب حين انتهى إليه خبر تعبية الموحدين، فخشي سوء العاقبة إذا لقيهم بجيشه دون غيره؛ فكتب إلى نسيبيه ملك لاون وملك النافار يدعوهما لترك الأحقاد، والمبادرة إلى مساعدته، فأجاباه إلى طلبه نزولا عند رغبة الشعب المتحمس.
وحشدا العساكر وسارا بها إليه، إلا أنهما كانا يزحفان بطيئا ليصلا بعد فوات الأوان، حتى يئس ألفنس من مجيئهما، ولم يبق له سبيل غير مباشرة القتال، وأبى أن يتحصن بالقلاع التي بين يديه، فتمنعه ما طاب للمسلمين الحصار، وكأنه عد ذلك عارا ومذمة، فاختار الهجوم مستبسلا متكلا على حمية فرسانه، فابتدأت موقعة الأرك في 19 تموز 1195م/9 شعبان 591ه.
وكان الموحدون يحمون القلب بقواتهم النظامية، والأندلسيون في الميمنة يقودهم عبد الله بن صناديد، وقبائل العرب والبربر في الميسرة، والخليفة المنصور بحرسه وراء التلال، وعسكر الجيش الإسباني في مرتفع تحميه قلعة الأرك من جانب، وبعض التلال من جانب آخر.
فزحفت إليه مقدمة المسلمين من المتطوعة تمهد للمعركة بسهامها، فما تدانوا من التل الذي عليه ألفنس حتى تجارى إليهم نحو ثمانية آلاف من كل فارس غارق في الحديد، فالتقتهم المطوعة يساندها القلب والجناح الأيسر؛ فتعالى الصياح، واستكت آذان الفضاء من وقع سنابك الخيل، وتجاوب أصوات الأبواق والطبول، ثم استطال المسلمون فكسروا من حدة القشتاليين وردوهم على أعقابهم.
غير أنهم ما عتموا أن جمعوا شملهم، وجددوا الحملة عليهم، فردوهم ثانية، ولكنهم كانوا عندا صلابا، فلم تهن عزائمهم بعد الردتين بل ضاعفوا قواهم، واندفعوا ثالثة كالعاصف الجارف وقد أحنقتهم الخيبة، وزادتهم حماسة وإقداما، فاخترقوا صفوف العدو وتوغلوا في الجناح الأيسر فمزقوه، وشتتوا جمعه فهلك ألوف من قبائل العرب والبربر، غير الجنود النظامية، ولم تتم خطة عبد الله بن صناديد إذ أشار بأن يتركوا الميسرة للاحتياط والإمداد.
ثم عطف القشتاليون على القلب وهو مرتعش مذعور لانكسار حائطه الشمالي، فصدعوا جانبه ناشبين في أحشاء الموحدين، يقلبون بعضها على بعض، ويشطرونها أجزاء، فتساقطت جثث القتلى أكداسا، وغصت حناجر الأرض من ابتلاع الدماء، ولشد ما عظمت فجيعة الموحدين بالقائد الأعلى أبي يحيى بن أبي حفص، تلقفته سيوف الإسبان بعد أن بلوا من سيفه أمر البلاء، وعندئذ علا التكبير من الجناح الأيمن، وحملت العساكر الأندلسية وبعض بطون زناتة يتقدمهم القائد المجرب عبد الله بن صناديد؛ فاقتحموا قلب الجيش القشتالي، وحجزوا بينه وبين فرسانه الطاعنين في قلب الموحدين.
وكان الملك ألفنس يتولى قيادته بنفسه، ومعه عشرة آلاف فارس، فيهم الداوية وفرسان قلعة رباح، فتلقاهم ثابت الجنان يصابرهم على قلة عدد، ويدفع تيارات أمواجهم المتهايجة، وفيما الأندلسيون يواثبون سفح التل، وألفنس يدافعهم عنه، ووراءهم فرسان قشتالة يزعزعون قلب الموحدين بعدما شردوا الميسرة.
وفيما النصر يراوح بين الجانبين لا يدري له مستقرا، إذا بالطبول تقرع من وراء الآكام، والخليفة المنصور يطلع بحرسه المختار، أمامه العلم الأبيض منقوشا عليه: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالب إلا الله»، فينقض على فوارس قشتالة وهم يمعنون في القلب إرهاقا، فيلأم صدعه الدامي، ويردهم عنه مندحرين، فعاود الأمل جنود الموحدين، واشتدت سواعدهم بعد ارتخاء، فساوروا أعداءهم كالليوث مستبشرين بالنصر، لا يبالون ما يكلفهم من الضحايا هجومهم المجنون، فما زالوا بهم حتى حطموا شوكتهم، فانهزموا شماطيط إلى سفح التل يلوذون بألفنس.
وأبى خليفة الموحدين أن يتصرم النهار قبل أن يحرز النصر كاملا؛ فمشى بالعدد الأوفر إلى التل يخترق قلبه، ويساند قوات الأندلسيين، فدافعت فرسان الداوية وقلعة رباح عن مليكها أمجد دفاع، فكانوا يتساقطون من حوله صرعى، لا يحدثون النفس بالفرار، حتى لم يبق منهم إلا فضلة يسيرة لا تستطيع زيادا، فخشيت أن يفتك الأعداء بسيدها وهو مصر على الثبات لا يطيق براحا، فأكرهته على الانكفاء، فأنقذت حياته وكان بوده لو يبذلها سماحا.
ثم اقتحم المسلمون حصن الأرك، فاستنزلوا أصحابه واستولوا عليه، وهاجموا قلعة رباح فامتلكوها، وكان فرسانها قد تخلوا عنها، وانتهت المعركة بانكسار ساحق للإسبانيين.
يقول ابن خلدون: إن المسيحيين خسروا في هذه الواقعة ثلاثين ألف قتيل. أما ابن الأثير فيجعل القتلى ستة وأربعين ألفا ومائة ألفا، والأسرى ثلاثة عشر ألفا، ويقدر قتلى المسلمين بنحو عشرين ألفا، وكانت الغنائم عظيمة جدا .
قال ابن خلكان: «وغنم المسلمون أموالهم حتى قيل: إن الذي حصل لبيت المال من دروعهم ألف درع، وأما الدواب على اختلاف أنواعها، فلم يحصر لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها.»
فمعركة الأرك - لا جرم - ثلت عز قشتالة، وهتكت حرمة سلطانها، وما كان الأمراء المسيحيون يتوقعون لها هذه الكارثة الشنعاء، وقد بلوا صولتها وجبروتها؛ فوقعت هيبة الموحدين في نفوسهم، وداخلهم الخوف على إماراتهم؛ فأسرعت مملكتا لاون والنافار إلى محالفة الخليفة المنصور، وهما في خذلهما لألفنس الثامن، وتأخرهما عن نجدته، أوصلتاه إلى هذه النتيجة الفاجعة، يضاف إلى ذلك ما لقي المسلمون من مساعدة الكونت بدرو أحد أبناء كاسترو؛ فقد كان هذا الأمير فارا عن وطنه مع أعوانه، ناقما على قشتالة التي رفعت أسرة لارا بإذلال أسرته، فلم يتأثم أن يبيع أمته ويقدم سيفه للموحدين.
ثم إن الملك ألفنس رأى أن يحذو حذو لاون والنافار فيسترضي المنصور ويلتمس منه الهدنة بعدما أبصر جيوش المسلمين تتابع الغزوات في ولاياته، تتلف الزرع، وتقطع الشجر، وتبلغ أبواب طليطلة، وهو لا يجرؤ أن يخرج إلى لقائها، بل يرى الخير - من خوفه - في الامتناع بقلاعه وحصونه، وقد رضي المنصور بمهادنته؛ لأنه كان مضطرا إلى مغادرة الجزيرة ليخمد ثورة لا يبرح يشعلها في إفريقيا والمغرب بقايا المرابطين، فعاد إلى مراكش يصلح من شئونها، وأمنت رياض الأندلس شر إسبانيا زمنا، ولكنها ما نالت من نعم الاستقلال الذي حاربت عليه الإمارات المرابطية والمسيحية إلا شارة الخضوع لسيطرة الموحدين.
معركة العقاب
بين معركة الأرك ومعركة العقاب سبع عشرة من السنين ساقطت ورقات يومياتها عن أحداث وشئون كانت بطبيعتها معلولا للأولى، وعلة للأخرى.
فإن انتصار أمير الموحدين على قشتالة، وما تلاه من خضوع ألفنس الثامن لسيفه، والتماسه الهدنة منه، وإسراع ملكي لاون والنافار إلى محالفته وخطب وده -مكن سلطانه في الأندلس، وحرمته في النفوس، وأتاح له أن يتفرغ إلى إصلاح فتوق مملكته، وتأديب العصاة والثائرين دون أن يصرف النظر عن أمراء إسبانية، وما في صدورهم من ضغائن يحفظها بعضهم لبعض .
فقد كان المنصور - على علو همته - وافر الذكاء، بعيد النظر، لا يسقط عنه أن يستغل خلافهم لمنفعته وخير أمته، وهو يعلم أنه ما دام الشر معصوصبا بينهم، لا يرتفع لهم صوت جهير، ولا يفيئ عليهم ظل ممدود في بقاع يعمرها الإسلام، أفما يجدر به أن يحرك فيهم - من وراء حجاب - لاعج العدوان، فتنام الأندلس على أمن وسكينة، وتشرق إسبانية المسيحية بدمها إلى يوم يوهنها النزف، فترتمي متلاشية على أقدام المسلمين؟
فلاون والنافار متعطشتان للانتقام من قشتالة وإذلالها لما تفرض عليهما من السيطرة، فطبيعي أن تستهينا جانبها جزاء كسرتها، فتستنزلاها إلى محاربتهما بعد أن تخللتا تخومها عاديتين بتحريض الموحدين، ووعدهم بالمساعدة.
وذهب المنصور إلى أبعد في توسيع الخرق بين الأمراء المسيحيين، فحاول أن يجعل حليفه ملك النافار تابعا له، على أن يزوجه إحدى بناته.
وتقول الرواية الإسبانية: إن شانجه السابع اغتر بهذه المواعيد؛ فقصد إلى مراكش بغية تحقيقها، تواكبه كتيبة من الفرسان. بيد أن الرواية العربية لا تذكر شيئا من خبر الزواج، بل تقول: إن ملك النافار جاء إشبيلية سنة 607ه/1210م ليزور الخليفة الناصر بن المنصور، ومهما يكن من أمر الزيارة وزمنها ومكانها، فإن المصاهرة لم تربط أواصرها بين الأميرين، فرجع شانجه إلى مملكته فارغ الفؤاد، وقد علم أن الزواج من أميرة موحدية يدعوه إلى الإسلام، وبإسلامه لا يطمئن له عرش النافار.
على أن هذه الجهود التي بذلها المنصور لتمكين سلطانه، وإضعاف ملوك إسبانية، لم تلبث أن تراخت عزائمها بموته سنة 1199م/595ه وقيام ولده محمد أبي عبد الله الناصر، فإن هذا الأمير مع شجاعته، لم تكن له مواهب أبيه، وصلابة عوده، فأسلم إرادته إلى حاجبه أبي سعيد بن جامع؛ فورطه في مزالق لا تنبئ عن أمانة الوزير وإخلاصه.
وكان هم الخليفة الجديد أن يترسم أباه في ضبط الولايات الأندلسية، وإرهاق ملوك إسبانية مستثمرا شقاقهم، غير أنه لم يتمكن من الالتفات إلى عدوة أرونة إلا بعد أن دفع خطر المرابطين عن إفريقية، وأزال بقية دولتهم في الجزائر الشرقية (Baléares)
1208م.
كان البابا إينوسان الثالث قد استطاع ، في تلك الأثناء - بسلطانه الديني - أن يصلح بين الأمراء الإسبانيين إلى حين، ويؤلف قلوبهم على محاربة المسلمين.
فنشط ألفنس الثامن ملك قشتالة إلى غزو الأندلس 1209م فأوغل فيها باطشا فاتكا، ثم أغار عليها ثانية 1210م فانتسف كورة جيان (jaên)
وبياسة (Baêza)
وأندوجار (Andujar)
وعاد في المرتين بجلائل السبايا والغنائم.
فعندئذ نادى الخليفة الناصر بالجهاد، وقد راعه تغلب العدو على كثير من الحصون الأندلسية؛ فجمع الجموع وحشد العساكر، حتى بلغت تعبئته ستمائة ألف فارس وراجل، فعبر المضيق إلى إشبيلية 1211م/607ه يستعد للقتال، فنصح له حاجبه ابن جامع ألا يتقدم في بلاد ألفنس قبل أن يفتتح قلعة شلبطرة (Salvatierra) ، فساورها ثمانية أشهر، وهي ممتنعة عليه لحصانتها، فهلك دونها ألوف، وابن جامع يمنع الناصر أن يرفع الحصار عنها ويتجاوزها إلى طليطلة، حتى أضر بها الجوع المرير فأعطت قيادها مكرهة، بعدما أنقذت إسبانية المسيحية بصبرها الطويل كما يقول جوزف أشباخ.
ذلك بأنها أتاحت لألفنس الثامن أن يستصرخ دول إسبانية خصوصا، وأوروبة عموما لتجهيز حملة صليبية غربية تذكر المسلمين بحملات الصليبيين في الشرق؛ فقد أزعجه ما انتهى إليه من أنباء قوات الموحدين وزحفها الجرار، ولاح له الخطر المخوف ينقض على قشتالة، بل على الإمارات الإسبانية مجموعة، وهيهات لا يرجى دفعه عنها، إلا إذا تظاهرت عليه وتناست أحقادها، وخير لها أن تستنجد أبناء ملتها في الغرب.
فبعث جرهارد مطران سقوبية (Ségavia)
إلى رومة يلتمس من الحبر الأعظم أن يدعو الأمم المسيحية إلى نصرة الصليب، وبعث المؤرخ ردريق مطران طليطلة وسواه من المطارنة إلى فرنسا وما يليها من الدول الأوروبية ليستثيروا الشعور الديني، مبينين الخطر الذي يهدد النصرانية، ودعا الأمراء الإسبانيين إلى الاجتماع والمفاوضة، ووضع الخطط التي ينبغي اتباعها.
فتكللت هذه المساعي بالنجاح المأمول، ولبت أوروبة دعوة الكرسي الرسولي ونداء الأساقفة المتحمس، واقتنع ملوك إسبانية بضرورة الاتحاد، فما طال الأمد حتى بدأت الوفود تتلاحق إلى طليطلة من مختلف الأمصار الأوروبية ولا سيما فرنسا، حاملين شارة الصليب دليل الذياد عن الدين، يتقدمهم كبار الأحبار يستحثونهم، ويوقدون الحمية في الصدور.
يقول جوزف أشباخ: إن جيش الوافدين بلغ في أوائل حزيران 1212م أكثر من عشرة آلاف فارس، ومائة ألف راجل، فيه من القوامس ما يقدر بألفين، أضف إليه ما أرسلت فرنسا وإيطاليا من المال والمؤن والسلاح.
وأما الجيوش الإسبانية، فأول من قدم منها جيش أرغون يقوده عاهله بدرو الثاني، وفيه طبقة مختارة من الكماة كجماعة الداوية (فرسان الهيكل)، وتتابعت بعده الفيالق من لاون وجيليقية والبرتغال، حتى فاضت طليطلة وأرباضها بالعساكر المنتشرة، والخيام المنتصبة، والخيل والعتاد، ثم زحفت هذه القوى العظيمة طالبة قلعة رباح، وفرسان هذه القلعة يلتهبون حماسة لاسترجاعها.
وكان فيها حامية من الموحدين على رأسها القائد يوسف بن قادس، فهاجمتها الجيوش المسيحية دفعة واحدة، فاستولت على المدينة دون القلعة؛ فخشي ابن قادس مغبة الحصار إذا افتتحت القلعة عنوة، وهي لا محالة ساقطة في أيدي العدو؛ فمن العبث أن تحاول قلتها مقاومة الكثرة، فآثر أن ينقذ حاميتها من الهلاك بالاستسلام؛ إذ لا ينفع الدفاع فتيلا؛ فبعث إلى ملك قشتالة رسولا يفاوضه من قبله، مشترطا أن تخرج الحامية بسلاحها مأمونة.
فرفض الأرغونيون ووفود المحاربين هذا الشرط، وطلبوا متابعة الحصار؛ فاضطر ابن قادس أن يرضى بتجريد الحامية، فغادرت القلعة بعد أن أخذت الأمان على نفوسها، وتولى الفرسان الإسبانيون حراستها مخافة أن يفتك بها جند الوافدين؛ لأنهم كانوا يريدون قتالها، وقد أغضبهم تأمينها، فسار بها ابن قادس إلى الخليفة الناصر، فأطلعه على ما قام به من التدابير لحقن دماء المسلمين حيث لا يفيد بذلها.
ولكن ابن جامع أبى إلا أن ينزل القصاص بالقائد الحكيم، فأغرى الناصر به متهما إياه بالتقصير والخيانة؛ فقتل المسكين وطابت نفس الحاجب الماكر، فاستاء الناس لهذا الحادث ولا سيما الأندلسيون، وكانوا يكرهون ابن جامع لتكرار مكايده، فأبدوا نفورهم من عمل الناصر، وهم إنما جاءوا للحرب متثاقلين، ساخطين على الموحدين كما سخطوا من قبل على المرابطين.
كيف لا وما زالوا يشعرون بضياع حقوقهم شعورهم بالأمس، أفتراهم يحسنون القتال، ويثبتون للضرب والطعان، وفي الصدور حرازات وشهوات لا يسكنها إلا انخذال الموحدين، لعل الاستقلال إليهم يعود؟ ومثل هذه الحالة النفسية، في جيش يتأهب للكفاح، ينذر - ولا بد - بخطب جليل.
وكذلك العساكر المسيحية لم تسلم من التصدع على أثر استنزال الحامية من قلعة رباح مأمونة؛ فإن وفود الفرنجة ما لبثوا أن جاهروا بامتعاضهم من الإسبانيين، فقفلوا راجعين إلى أوطانهم متهمين ملك قشتالة بأنه استأثر بنفائس القلعة وأموالها، وقيل: إن عدد الذين رجعوا يبلغ خمسين ألفا من مائة ألف، إلا أن انفصالهم عن الجيش - قبل المعركة - كان أخف ضررا مما لو انفصلوا في أثنائها، وأوقعوا خللا فجائيا يصعب تلافيه في ترتيب الصفوف وتنظيم أجزائها.
فقد استطاع الإسبانيون بعد رجوع هؤلاء المحاربين أن يجمعوا أنفسهم، ويدلفوا بقدم ثابتة على حصن الأرك - ولهم فيه أوجع الذكريات - فيفتتحوه بيسر مستبشرين، وفيما هم يتقدمون على لقاء الناصر، وافاهم شانجه ملك النافار بجيشه، فرأب الخلل الذي أحدثه إياب الفرنجة المتطوعين.
روى المستشرق جوزف أشباخ أن الناصر بقي يتحامى اصطلاء المعركة على ضخامة جيشه؛ خوفا من المحاربين الصليبيين؛ لأن شجاعة فرسان الفرنجة طارت شهرتها من الشرق إلى الغرب، فلما بلغه أنهم انفصلوا عن الإسبانيين ورجعوا إلى بلادهم، زالت وساوسه ووطن النية على طلب القتال، والسير إلى العدو.
وكان الإسبانيون قد نفذوا إلى جبل الشارات (Sierra Morena)
في 12 حزيران، وامتلكوا على بعض قممه قلعة للموحدين، فبادر الناصر فعبر الوادي الكبير إلى الموضع المعروف بالعقاب
1 (Las Navas de Tolosa)
وسد بجيشه منافذ جبل الشارات، فتأزم موقف المسيحيين في شعافه؛ إذ أصبحوا متعذرا عليهم هبوط السهل لملاقاة الموحدين، فهم مضطرون إلى أحد أمرين: إما البقاء وتعريض النفس للجوع والعطش، وإما الرحيل حيث يتحدث الناس عنهم بالهزيمة بعد أن حشدوا قوات الممالك الإسبانية.
وفصل المستشرق جوزف أشباخ هذه المعركة تفصيلا دقيقا ورأينا أن نستند إليه في وصفها وذكر أحوالها، فإن ملوك الإسبان بعدما وقفوا حائرين بين اللبث والقفول، وألفنس الثامن أشدهم عنادا وكرها للتقهقر والرجوع، تمكنوا من الانحدار إلى السهل بطريق خفي أرشدهم إليه بعض الرعاة، فسار أمامهم دليلا حتى بلغ بهم مسلكا صالحا ينزل منه إلى سهل أبدة (Ubeda) ، فاعتبر المسيحيون هذا الراعي رسولا من لدن الله، وانتقلت جيوشهم من الجبل إلى السهل دون أن ينتبه المسلمون لحركاتهم؛ ذلك بأن الملوك الثلاثة ظلوا في القلعة لا يغادرونها حتى تم انتقال العساكر.
فلما خلا منهم جبل الشارات، ظن الموحدون أنهم أحمدوا الفرار وضجروا من البقاء، ولكن ما عتموا أن أبصروا معسكرهم في السهل المقابل، فعلموا أنهم خدعوا، ولم يفطنوا لانتقال العدو، فتركوه يحتل مكانا أفضل من مكانهم، يشرف عليهم من الربى العالية، بيد أن الناصر كان معتدا بعظمة جيشه، فلم يبال هذا التبدل في الموقف، واعتقد أن النصارى لا يصبرون طويلا على حربه، وسيحتاجون إلى المؤن والذخائر في انقطاعهم عن قشتالة.
فبأيدي عساكره الحصون الجبلية جميعا، ومنها القلعة التي احتلها الإسبانيون في البدء على جبل الشارات، فما تلكأ أن باشر الدعوة للقتال؛ فأبوها في اليوم الأول لما هم عليه من التعب ثم أبوها في اليوم التالي؛ لأنه يوم أحد، فكرهوا أن يحاربوا فيه، فلما كان صباح الإثنين في 16 تموز 1212م/15 صفر 609ه، أقام الأساقفة الصلاة ومنحوا الجنود البركة الرسولية، والغفران الكامل.
ثم جعل الملوك والقواد ينظمون جيوشهم، فوقف ألفنس الثامن - ملك قشتالة - في القلب يدير حركاته، ويشرف منه على سائر الأقسام، ويتألف القلب من أربع فرق: إحداها فرقة الجبليين القشتالين يتقدمها القائد ذو هارو، والثانية فرقة فرسان قلعة رباح، وشنت ياقب
2 (Santiago)
والداوية، والإسبتارية
3 (Les Hospitalieres) ، يتقدمها الكونت ذو لارا، والثالثة فرقة فرسان قشتالة القديمة، وأشتوريش (Asturies)
وبسكونية (Biscay) ، يتقدمها الكونت ردريق دياز، والرابعة الفرقة الاحتياطية من طليطلة ولاون يقودها الملك ألفنس بنفسه.
وأما الجناح الأيمن، فكان على رأسه شانجه السابع - ملك النافار - وفيه جنوده وفرسانه، والكماة الفرنسيون الذين آثروا البقاء، وفيه جنود جليقية والبرتغال يتقدمهم الأمير بدرو البرتغالي.
وينقسم الجناح الأيسر على أربع فرق تضم العساكر الأرغونية وبعض رجالة قشتالة، يتقدمه بدرو الثاني ملك أرغون.
واصطفت عساكر المسلمين في سهل العقاب مقابل أبدة، مقسومة على خمس فرق يتألف منها الخميس العرمرم، ففي المقدمة فرقة المطوعة، وتجعلها الرواية العربية ستين ألفا ومائة ألف، وفي الميمنة الجنود الأندلسية، وفي الميسرة البرابرة، وفي القلب جيش الموحدين، وفي المؤخرة الفرقة الاحتياطية من المغاربة والجيش النظامي، وبين القلب والمؤخرة نصبت للخليفة القبة التقليدية الحمراء التي ورثها المسلمون عن عرب الجاهلية، وأمامها جواده مسرجا، يحيط بها حرسه الخاص من الفرسان والمشاة، بأيديهم الرماح الممدودة، ودون الوصول إليهم دائرة شدت من سلاسل الحديد.
وما انتهى تنظيم الجيوش حتى تجاوبت أصوات الطبول والأبواق من الجانبين، فارتجت لها الربى والسهول، وإذا الخليفة الناصر يخرج من قبته وعليه عباءة سوداء، فرفع المصحف بيد والسيف بالأخرى، إشارة الهجوم؛ فحملت المطوعة خفيفة عنيفة تلطم القلب، فالتقاها الجبليون وجماعات الفرسان بحملة معاكسة ألانت من حدتها.
ثم لم يلبثوا أن استطالوا عليها وأكثروا من الفتك بها فاضطروها إلى الفرار؛ فانهزمت أمامهم وهم يطاردونها بالحراب في أقفائها، فلما اقتربوا من القلب يبغونه، صدمتهم قوى الموحدين النظامية، فرأوا أمامهم جنودا باسلة، مجربة في الحروب، مدربة أحسن تدريب، وما طال الأمر حتى تمزقت جموعهم؛ فتشتتوا عنها منهزمين.
فرجحت كفة المسلمين ولاح لهم وامض النصر، فهللوا مستبشرين، ولم يكن ملك قشتالة يتوقع هذا الفشل من القلب وفيه صيانة الفروسية الإسبانية؛ فطار رشده، واشتهت نفسه الموت، فمشى إلى المعركة يريد أن يخوضها بفرقته الاحتياطية، فمنعه المطران ردريق والقوامس أن يغرر بحياته، والتمسوا منه أن يكتفي بإنعاش القلب المتدهور، فأمده بنجدة مختارة يتقدمها الأساقفة، يحملون الرايات عليها صور الطفل الإلهي وأمه البتول، فاستثاروا بها حماسة الفرسان المنهزمين؛ فعاد إليهم نشاطهم، وأتاح لهم هذا المدد أن يلموا شعثهم المنتشر، ويكروا ثانية على جيش الموحدين ينقرون حبة قلبه، ويرمقون دائرة السلاسل حيث الخليفة الناصر، والقبة الحمراء.
ومن دون الدائرة أهوال تختطف عليها الأعمار، فليس صدع القلب بالهين السهل وفيه نخبة الجيش النظامي، ووراء السلاسل عدد كثير من الحراس الأشاوس يحرسون القبة بغابة من عوامل الرماح، ولكن قد تجري الأقدار بما لا يتوقع الإنسان، فبينا فوارس قشتالة يصكون القلب، والقلب ثابت لا يتحلحل، إذا الجناح الأيمن يلتوي فجأة وينهزم الأندلسيون تاركين رفاقهم! وكانوا - كما علمنا - ناقمين على الموحدين يضمرون لهم الشر، فلم يقاتلوا قتالهم المعهود في المعارك التي يصطلونها متحمسين، وهم كعادتهم متهورون في أعمالهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا في نتيجة ما يصنعون.
وما كادت الميمنة تتعطل حتى مشت الميسرة على أثرها فتقصف جناح البربر، وبقي القلب عاريا من الجانبين يدافع الإسبانيين ويصابرهم، وهؤلاء قد ازدادوا حمية وإقداما بعد تحطيم الجناحين، فصدعوا القلب الجريء وأوغلوا في أوساطه يقرعون دائرة السلاسل، فجرت أمامها أنهار من الدماء، وتكدست حولها جثث القتلى تلالا، الموحدون في القلب مخرقة صفوفهم، يستميتون مقاومة ودفاعا.
والمغاربة في المؤخرة يقدمون لسد الثلمات غصابا، والأحراس البيض والسود يطاعنون الخيل عن حرم القبة وحرم الخلافة؛ مشهد رائع تجلت فيه البطولة الإسلامية بأجمل معانيها، تغالب اليأس، واليأس غالبها، وترتجي الظفر وقد أشاح بوجهه عنها، أقبل الحظ على الإسبانيين، وما كانوا دون أعدائهم جراءة وعنادا، فشدوا عليهم ملحين، يستعجلون النصر قبل هزيمة النهار، لا يبالون في كسبه خسارة الأرواح، فهم يشقون الصفوف ويتقدمون، وهم يحيطون بدائرة السلاسل فيقتحمها الكونت ذو لارا واثبا بجماعات الفرسان، ويقتحمها شانجه ملك النافار وبدرو ملك أرغون من اليمين والشمال؛ فانهارت قوى الدفاع من كل جانب، واستمات الحراس على غير جدوى وفي القبة الحمراء سيد الموحدين، قاعد على درقته، يتلقى الأنباء شيئا بعد شيء متجلدا مكفهرا، حتى جاءه النبأ الأسوأ: قتل ابنه واعتصم الجيش بالفرار! فوقف الناصر حينئذ وقال: «صدق الرحمن وكذب الشيطان!»، ثم ركب حصانه المسرج ونجا بجماعة من أصحابه.
وكأن المسيحيين - وقد أخذتهم نشوة القلب - أبوا إلا أن يعيدوا الطعن في أثر الهاربين، فتعقبوهم تشفيا وانتقاما؛ فقتلوا منهم في أثناء الهزيمة أكثر مما قتلوا في أثناء المعركة.
وتقول الرواية العربية: إن خسارة المسلمين كانت جسيمة جدا؛ إذ لم ينج منهم سوى مائة ألف من ستمائة ألف مقاتل! في حين أن الرواية الإسبانية أكثر اعتدالا في حسابها، فلا ترفع خسارة العدو إلى أعظم من مائتي ألف، ولكنها تجمع في الوقت نفسه على أن خسارة المسيحيين ليست بذات شأن.
وهذا صعب التصديق؛ لأن الحرب في مرحلتها الأولى كانت دائرة على الإسبانيين، ثم إن اقتحام السلاسل ما تم لهم إلا بعد تضحيات جليلة وبلاء كبير؛ فغير معقول أن تكون خسارتهم لا تستحق الذكر كما يزعم الرواة الإسبانيون.
بيد أنها تبدو ضئيلة إذا قيست بخسائر أعدائهم؛ لأن فشل العساكر الإسلامية لم يقع على صورة عادية مألوفة؛ فقد تراجعت صفوفهم وتمزقت أشتاتا قبل أن تمنى بالانكسار، فنالها من التقتيل في ذعرها وتبددها شيء عظيم، وحقت عليها الهزيمة مع أن قواتها تبلغ ضعفي قوات المسيحيين، وجيش الموحدين النظامي لا يفوقه جيش في بسالته وتدريبه!
فلا غرو أن يجعل النصارى ظفرهم مستمدا من الله؛ فتنشأ عندهم أسطورة دينية يثبتها بعض المؤرخين، تقول بأنه ظهر في السماء قبيل المعركة صليب ساطع النور! وتحتفل طليلطة كل سنة في 16 حزيران بعيد «انتصار الصليب»؛ مع أن المراجع الوثيقة لا تذكر هذه المعجزة، ولا ذكرها ألفنس الثامن في روايته لأخبار المعركة.
على أن انكسار المسلمين - وإن بدا غريبا في ظاهره - لا يلبث أن يصبح طبيعيا إذا نظرنا إلى العوامل التي أحاطت به، وهما تخاذل الجيش الأندلسي وانكفاؤه في أوائل المعركة؛ حيث تصدعت الميمنة، ثم تأثرتها الميسرة بفشل البرابرة وقلة ثباتهم أمام شانجه السابع وأجناد فرنسا والبرتغال والنافار؛ فاختل بذلك قلب الموحدين، واشتد عليه الضغط من الأمام والجانبين.
ويروي ابن خلدون حادثا آخر له أثر فعال في هزيمة الموحدين، وهو أن صاحب لاون - ويسميه مرة ليهوج، ومرة إلبيوج - قد مكر بالخليفة الناصر، فقدم عليه فداخله، وأظهر النصح، فبذل الخليفة له أموالا، فلما كانت وقعة العقاب غدر الإسباني به، وكر عليه يقاتله برجاله، بدلا من أن يناصره كما وعد.
غير أننا لا ندري من أراد ابن خلدون بصاحب لاون؛ لأن الاسمين اللذين ذكرهما بعيدان في لفظهما عن اسم ألفنس (ملك لاون) واسم أخيه شانجه (Sancho)
الذي كان يحارب في صفوف المسيحيين يوم العقاب، أما الرواية الإسبانية فلم تشر إلى هذا الحادث، وإنما قالت: إن ألفنس التاسع ملك لاون لم يحضر بنفسه الحرب لخلاف بينه وبين ملك قشتالة على بعض الحدود، فاكتفى بأن يبعث أخاه شانجه مكانه.
فإذا صحت رواية ابن خلدون، فإن الناصر لا يعذر في اتكاله على مواعيد الأمير الإسباني دون أن يحتاط لأضرارها، متوقعا الكذب والخداع فيها، وكذلك كان قصير الرأي في استسلامه لنصائح ابن جامع؛ إذ حبس جيوشه ثمانية أشهر على حصار شلبطرة بدلا من أن يقودها إلى طليطلة، فيسحق مملكة قشتالة قبل أن يتمكن ألفنس الثامن من جمع كلمة الأمراء المسيحيين على مساعدته، والاستفادة من نشاط الأحبار ودعوتهم إلى الائتلاف تحت راية الصليب.
إن زوال إمارة قشتالة، وهي أعظم دولة في إسبانية، يفضي - لا جرم - إلى انهيار سائر الإمارات الإسبانية، الواحدة تلو الأخرى، فإن القوات التي حشدها صاحب مراكش لمحاربة الإسبانيين جعل منها أضخم جيش عرفته القرون الوسطى، ولو أحسن الحيلة والتدبير لكان من الممكن ألا يقف في فتوحه عند الولايات الأندلسية التي غنمها المسيحيون وضموها إلى ممالكهم، بل يتخطاها إلى الأراضى الإسبانية فيبسط عليها سلطانه.
ويلام - وهو القائد الأعلى - لغفلته عن حركة العدو وانتقاله خفية من جبل الشارات، حتى استطاع أن ينفذ إلى أبدة، ويحتل في رباها مواقع تفضل مواقع المسلمين، ورأينا الناصر يدعوه إلى الحرب، فيأباها في اليوم الأول والثاني من وصوله طلبا للراحة، ولا يجرؤ الناصر على مهاجمته - مع علمه بتعبه - لمناعة روابيه.
ويؤخذ على الموحدين ما يؤخذ على المرابطين من سياسة الاستئثار بالحكم والنفوذ في الأندلس، فأساءوا إلى أبنائها، وحركوا الضغينة في نفوسهم، فقدموا معهم إلى الحرب وهم مرصدون لمكروههم؛ فكان الجيش الإسلامي دون الجيش المسيحي نشاطا وائتلافا وحماسة للدين، فدارت عليه معركة العقاب بشؤم الطالع، فمحقت قواه الجبارة، وأضعفت سلطان الموحدين فمالت بملكهم إلى الغروب، وكانت للمسلمين نذيرا بزوال كلمتهم عن الأندلس، وللمسيحيين بشيرا بانقشاع خطر الإسلام عن إسبانيا جمعاء.
يوم قرطبة
بدأت مآتم القواعد الأندلسية بسقوط طليطلة 1085م، ثم بسقوط سرقسطة 1118م، وبعدهما استخذت بطليوس لملك لاون 1230م، واليوم دور قرطبة أم العواصم، وحاضنة الأندلسيين في الغرب، تخط الطريق لسقوط بلنسية 1238م، وإشبيلية 1248م، إلى أن يحين مأتم غرناطة آخر معقل عربي في إسبانيا المسلمة، فيغني الشاعر الأندلسى مرثاته الأخيرة، يبكي بها نعيم الفردوس المفقود .
وجاء دور قرطبة، بعد أن مكثت خمسة قرون وربع قرن في حوزة الإسلام، ترتد المسيحية عن أبوابها، وأمام حصونها تنحل عزائم الإسبانيين، شهدت عز عبد الرحمن الناصر والحاجب المنصور، فكانت كالعروس، حينا بعد حين، تجلى لتزف في زينتها لنصر جديد. ما أكثر أعراس قرطبة، وأبهج أفراحها! الملوك تأتيها خاضعة، وإليها ترسل الهدايا خاطبة ودها، قوافل السبايا والغنائم معروضة في أسواقها، يكاد لا ينقطع النداء عليها.
قرطبة دار العلوم، ومعهد الفنون والصنائع، حرم الجامع الكبير ذي السواري، والدة الزهراء ذات القصور والحدائق، تشع أنوارها على أوروبة في دياجير القرون الوسطى، هي الآن في مأتم بعد عرس كما قال البحتري في الإيوان.
زالت عنها كلمة الموحدين بعد أن بات سلطانهم يتهاوى إثر موقعة العقاب، وران عليها سلطان محمد بن هود - من أعقاب أمراء سرقسطة السالفين - يضم إليه معها مرسية (Murcie) ، وجيان، وماردة (Mérida) ، وبطليوس، متوسلا بنقمة الأندلسيين على الموحدين، مناديا بكفرهم، داعيا إلى مقاتلتهم قتال الكفار، وتخليص الأندلس من طغيانهم.
وتلقب بالمتوكل على الله، ولبس السواد شعار العباسيين، معترفا بخلافتهم، راجعا بإمارته إليهم، ليسترضي جمهور المسلمين بعد خلعه خلافة المغاربة أهل التوحيد، فنجحت سياسته، وأقبل على مبايعته وطاعته أكثر الولايات الأندلسية.
ولكنه كان مضطرا - مع مغالبته القوى الموحدية في دفاعها عن بقية سلطانها - إلى مقاومة الأمراء المسيحيين، وهم لا يفترون عن مناصبة الأندلس والإفساد فيها، فلم يطق منع ألفنس التاسع ملك لاون أن يفتح بطليوس وماردة وغيرهما من المدن والحصون، إلا أنه تمكن من الإيقاع بالموحدين، يساعده على ذلك ما بينهم من شقاق؛ إذ كان يتنازع الخلافة أميران منهم: أحدهما المأمون من ولد يعقوب المنصور، والآخر المعتصم بالله يحيى بن محمد الناصر.
كان ابن هود يناجز المأمون، ويعين عليه المعتصم أحيانا، حتى استطاع أن يستلب من يده حكم الأندلس بلدا بعد بلد، وحصن غرناطة في الجملة 1230م، فألجأه إلى استعانة النصارى، فعل المرابطين والأمويين من قبل؛ فصار لدى خليفة الموحدين اثنا عشر ألفا من مرتزقة القشتاليين لحماية مراكش ورد المعتصم عنها، ونزل المأمون لملك قشتالة - مقابل هذا المدد - عن بعض الحصون المتاخمة، ورضي بأن تبنى كنيسة في مراكش، وأن يؤذن للنصارى بقرع النواقيس، ووعد بأن يدفع عنهم كل مساءة في مملكته، وإذا أسلم نصراني لا يقبل إسلامه، وإنما يقبل المسلم إذا ما أحب أن يتنصر!
غير أن الحامية القشتالية لم تقو على منع المعتصم من افتتاح مراكش، وتهديم الكنيسة التي بنيت فيها، وتقتيل النصارى ونهب أموالهم، وكان المأمون يومئذ في الأندلس، وليس بيده من مدنها الكبرى غير إشبيلية، فعبر الزقاق يريد إنقاذ عاصمة المغرب، فلم يكتب له التوفيق في محاربة المعتصم، فمات فجأة 1132م، وبويع ابنه أبو محمد عبد الواحد، فتلقب بالرشيد، وتابع مساورة المعتصم، إلى أن توفي هذا بفاس 1236م.
وانقطع ملك الموحدين - على إثر وفاة المأمون - عن سائر الولايات الأندلسية خلا إشبيلية وما إليها، فعاد سلطان محمد بن هود يشعل مالقة (Malaga)
وألمرية (Alméria)
وغرناطة وقرطبة ومرسية، ينافسه سلطان بني الأحمر في أرجونة (Arjona)
ووادي آش (Guadix)
وبياسة (Baéza)
وجيان (Jaén) .
وبنو الأحمر قبيلة عربية ترفع نسبها إلى الخزرج، وعميدها محمد بن يوسف النصري، فاتفق هذا مع الإسبانيين على أن يمدوه بجيش لقتال ابن هود، وأن ينزل لهم عن بسائط الأندلس إذا استتب أمره فيها، فاغتنم هؤلاء الفرصة، مستفيدين من خلاف الأمراء المسلمين، وانتفاض بعضهم على بعض، فحشدوا جيشوهم، وراح جايم (Jayme)
ملك أرغون يعيث في إمارة بلنسية، وفردينان ملك قشتالة ولاون يخبط بعساكره إلى قرطبة، وكان هذا قد بلغ من القوة شيئا عظيما؛ إذ تمكن أن يجمع قشتالة ولاون مملكة واحدة بعد تنابذهما؛ لارتباط نسبه بمليكهما، وانتقال إرثهما إليه.
ذلك أنه عندما توفي ألفنس النبيل صاحب قشتالة، صار الملك بعده إلى ولده هنري، وكان قاصرا؛ فتولت الوصاية عليه أخته برنجاريا، ثم توفي سنة 1217؛ فانتقل العرش إليها عملا بوصية والدها، وكانت تعلم أن القشتاليين يكرهون حكم النساء، فلم تشأ أن تترك الملك مزعزعا.
وكان لها أولاد من زوجها ألفنس التاسع ملك لاون، وقد طلقها هذا نزولا عند أمر البابا لما بينهما من قرابة مانعة، إلا أن الأولاد اعتبروا شرعيين، فاستدعت ابنها الأكبر فردينان وتنازلت له عن العرش، فاغتبط القشتاليون لصنيعها، وبايعوا الملك الجديد وقدموا له الطاعة 1217م، ولما توفي ألفنس التاسع ملك لاون 1230م تحول عرشه إلى ولده فردينان الثالث، فاتحدت قشتالة ولاون وزال ما بينهما من شقاق وخصام.
وخفق لواء الملك الجديد على دولتين قويتين، تنضم إليهما إمارات إسترامادورة وجيليقية وأشتوريش، فأصبح خطره عظيما في غاراته على الأندلس الإسلامية، واتجاه أنظاره إلى أم عواصمها قرطبة، بعدما تم له الاستيلاء على حصن أبدة (Ubéda)
1233م.
وكان المتوكل بن هود يزحف يومئذ إلى غرناطة ليحارب منافسه ابن الأحمر، فلم يفت الإسبانيين الذين كانوا في أبدة أن ينتهزوا الفرصة، وقد علموا من الأسرى المسلمين أن قرطبة قليلة أسباب الدفاع، وأن افتتاحها أمر ميسور، فأدلجت منهم كوكبة صغيرة، يسترها ظلام الليل، ويخفي حركاتها انهمار المطر، حتى بلغوا الضاحية الشرقية من عاصمة المروانيين.
وأرشدهم الأسرى الخائنون إلى المواقع التي يصلح منها الصعود إلى السور، فنصبت السلالم، وتسلق الجدران جماعة من الفرسان الأباسل، وكانوا قد استمالوا بعض حراس الأبراج بالمال، فكتموا أمرهم عن الآخرين، وأوهموهم - عندما سمعوا خفق أقدامهم - أنهم سرية آتية للتفتيش، فخدعوهم بذلك، ومكنوا أعداءهم من دخول أحد الأبراج، فامتلكوه وقتلوا حراسه.
ثم انحدروا إلى باب قريب ففتحوه لرفاقهم؛ فتسللوا منه إلى أحياء الضاحية يفتكون بالسكان الآمنين فتكا ذريعا، حتى تنفس الصبح وانتشر الخبر، فثارت الحامية في وجه المغامرين فقاتلتهم حانقة، فطردتهم من الشوارع، وألجأتهم إلى التحصن بالبرج الذي سقط في أيديهم.
فعلموا أن محاولة افتتاح مدينة عظيمة كقرطبة، بعدد قليل من الرجال، ضرب من الجنون؛ فهي من نفسها وحدها في جحفل لجب - على حد تعبير أبي تمام - فأرسلوا يستنجدون قائد منطقة قرطبة الفابيريز ذا كاسترو، وبعثوا رسولا إلى الملك فردينان في لاون يسألونه الإسراع بالمجيء.
وما كاد يصل الرسول إلى القائد الإسباني، حتى خف إليهم بما استطاع جمعه من حاميات الحصون والقلاع، فأدركهم على عجل، وثبت مقامهم في البرج يردون عنه المهاجمين، ويشرفون على قسم من الضاحية، إلى أن تأتيهم نجدة الملك وجيشه ...
ولم يكن فردينان يتوقع هذا التوفيق العجيب في قرطبة بكوكبة من الفرسان؛ فبادر إليها بثلاثين فارسا، بعدما أصدر أوامر بحشد العساكر من المدن والقرى، واستدعاء جماعات الفرسان المنظمة، وأن يتبعه الحشد دون إبطاء.
ثم سارع بفرسانه الثلاثين إلى قرطبة، فابتهج الجند لرؤيته، واشتدت ظهورهم في مقاومة المسلمين، فأحس هؤلاء الخطر المهدد، وتيقنوا أنه إذا لم يتداركهم ابن هود بقواته، دارت عليهم الليالي، وآضت قاعدة الملوك في حوزة الأعداء، فطيروا الرسل إلى المتوكل يستحثونه لإنقاذهم قبل فوات الأوان.
ولولا خور العزيمة، وعقم في الرأي لكان بوسعه أن يتدارك العاصمة، ويمنع استخذاءها، فالظاهر أن الانكسارات التي مني بها في محاربة المسيحيين، وما ناله - خصوصا من فردينان الثالث - أضعف همته، وأوقع هيبة الإسبانيين في نفسه، فلم يجرؤ على تلبية صوت قرطبة، قبل أن يتبين قوة أعدائه، ومبلغ ما جردوا لها من العساكر، مع أن الموقف حرج، فلا يحسن بأميرها أن يتركها تلاقي وبالها، وهو قريب منها، ولديه جيش كبير يستطيع الدفاع عنها.
ولم يقتصر على تلكؤه الذميم، بل قاده قصر الحيلة، وسوء طالع الأندلس، إلى أن يعهد في استطلاع أحوال العدو إلى فارس جليقي اسمه سوارز، كان الملك فردينان قد نفاه عن قشتالة، فجاء برجاله إلى المتوكل، وجعل سيفه في خدمته، شأنه شأن كثير من الفرسان المسيحيين والمسلمين، إذا خرجوا من بلادهم ناقمين على أمرائهم.
على أن هذا الفارس الجليقي لم يكن لينسى أن المهمة التي ندبه إليها ابن هود بكل سذاجة، يتوقف عليها خذلان ملته، وأبناء قومه، فغلت في صدره عصبية الدين والوطن، ورأى الحال مؤاتية لاسترضاء مليكه والرجوع إلى أرضه؛ فوعد المتوكل بالخبر اليقين، وسار إلى فردينان، فأطلعه على واقع الأمر، وطلب إليه أن يضاعف نيران الأحراس ليلا؛ ليوهم المسلمين بكثرة جيشه، واتساع المساحه التي يشغلها في نزوله.
ثم عاد إلى ابن هود، وطفق يبالغ له في وصف قوة العدو، وحسن سلاحه، والخطر الذي ينتظره إذا حدثته النفس بلقائه، وأراه بعينه اتساع نيران الحراسة وامتداد لظاها، فاستطير المتوكل، وداخله الذعر، فخام ولم يجسر على الإقدام، ونسي أنه مسئول عن مصير أم المدائن.
وفيما هو على هذا الحال من الاضطراب جاءه رسول من أبي جميل زيان أمير بلنسية، يستغيثه على جايم ملك أرغون، وكان قد أناخ عليه بقواته، فآثر ابن هود أن يدلف إلى غوث بلنسية لعله ينقذها من الأرغونيين، فيضمها إلى مملكته ويتقوى بها، ثم يرتد إلى قرطبة، فيخرج منها القشتاليين.
ولكن التقادير جرت بغير ما في الحسبان؛ فإنه ما كاد يبلغ ألمرية حتى اغتيل فمات خنقا، ولم تنج بلنسية من يد ملك أرغون، وتركت قرطبة وحيدة تدافع بشهامة هجمات الأعداء، وتلقى الهلاك باسلة لا تسلم إباءها للخنوع، إلى أن خاب أملها من المتوكل، وانقطع عنها رجاء كل نجدة، فعلمت أن المقاومة أصبحت لا تجدي فتيلا، وإنما هي انتحار ليس غير؛ فأفضل أن تفاوض العدو، فعساها تنال منه شروطا شريفة مقبولة.
بيد أن العدو كان شديد التعنت والاستكبار، خصوصا بعد أن صار النصر ملك يديه، وزال خطر المتوكل عنه، فأبى إلا أن يسوم الأندلسيين ظلامة، فأعطاهم الأمان على نفوسهم دون أملاكهم وأموالهم، فاضطر أهل قرطبة إلى القبول مكرهين، وفتحت المدينة الكبرى أبوابها للظافرين، فدخلها فردينان الثالث - ملك قشتالة ولاون - بفوارسه على أصوات الأبواق والطبول في 29 حزيران سنة 1236م/23 شوال 633ه، بعد أن كابدت حصار ستة أشهر متواليات؛ فسقطت بها أعظم قاعدة أندلسية في أيدي المسيحيين، وخرج المسلمون منها منكسي الرءوس، متخلين عن أموالهم، هاربين إلى البقية الباقية من المدن الإسلامية في الأندلس.
ومشى الفاتحون إلى المسجد الكبير يرتلون أناشيد الشكر؛ فحولوه كنيسة، ورفعوا الصليب عليه، وأقاموا فيه الصلوات والقداديس، وجيء بأجراس شنت ياقب إلى فردينان، وكانت لم تزل محفوظة من عهد الحاجب المنصور حين غزا مدينة القديس 997م
1
ودمرها، وانتزع أجراس كنيستها الشهيرة، وأجبر الأسرى المسيحيين أن يحملوها على عواتقهم إلى قرطبة.
فأمر فردينان أن تعاد هذه الأجراس إلى كنيسة شنت ياقب، محمولة على أكتاف الأسرى المسلمين، فنقلت إلى مواطنها بعد غربة طويلة، وحررت بعد أسر امتد نحو ثلاثين ومائتين من السنين؛ فخرجت شنت ياقب للقاء أجراسها تحيط بحامليها مهللة مبتهجة؛ كما خرجت قرطبة بالأمس البعيد تستقبل هذه الأجراس على أكتاف أصحابها، وهي نشوى من خمرة الظفر العابق؛ فأعاد التاريخ نفسه، ولكن بصورة معكوسة، فسبحان مغير الأحوال!
فاجعة غرناطة
لم يبق في أيدي المسلمين من الأندلس العربية - بعد انهيار دولة الموحدين، ومقتل محمد بن هود، وسقوط قرطبة وبلنسية وإشبيلية وسواها من المدن والقلاع - إلا مملكة غرناطة، ويشمل حكمها كورة إلبيرة (Elvira)
ومنها قطر لوشة (Loja)
على نهر غرناطة المعروف بنهر شنيل (Xenil) .
ومن أعمالها وادي آش (Guadix)
والمنكب (Almunécar)
وجبال البشرات (Alpujarras)
وبسطة (Baza) ، وأشهر مدنها التجارية على ساحل البحر مالقة (Malaga)
وألمرية (Alméria) .
ومع أن هذه الإمارة صغيرة بمساحتها، فقد تسنى لها أن ترزق الحياة مدة مائتين وخمسين سنة، على ما كان يحدق بها من خطر الدول المسيحية.
ذلك بأن الملوك الإسبانيين كانوا يشغلون عنها بمحاربة بعضهم لبعض؛ حروب كادت تستغرق النصف الثاني والنصف الأول من القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لا سيما نضال قشتالة وأرغون.
ثم إنهم تعودوا أن ينتفعوا من أموال المسلمين، فكانوا يجدون لذة في ضرب الجزية عليهم واعتبارهم من أتباعهم، كما كان الأمراء المسلمون يجدون هذه اللذة من قبل، فقيضوا لغرناطة عمرا مديدا؛ ليمتعوا النفس باستصفائها والإشراف عليها.
أضف إلى ذلك أن موقعها الطبيعي وما فيها من الحصون والقلاع والأبراج، يضمن لها إرهاق غزاتها، وهي على ضيق أرضها مكتظة بالسكان؛ لأن معظم المسلمين الذين هاجروا من الولايات الأندلسية التي استردها المسيحيون لجئوا إليها واتخذوها مقرا، فلقيت فيهم عددا عظيما من المحاربين الأشداء يدافعون عنها الإسبانيين بحمية واستبسال.
فإذا تكالب العدو عليها وأحست الضنك استصرخت سلاطين المغرب، وفي مقدمتهم بنو مرين، فيجيزون إليها جيوشهم لرد العاديات عن أرباضها.
فظلت هذه المملكة الصغيرة بمأمن من الكارثة العظمى لا تخشى شرها، حتى تم الاتحاد بين قشتالة وأرغون سنة 1469، فتزوج فردينان الخامس إيزابلا الكاثوليكية، واجتمعت دولتان قويتان على إمارة بني الاحمر تصليانها الحرب العوان طوال عشر سنين.
ورافق ذللك تضعضع في أحوال غرناطة من خلافها الداخلي، وانقسامها أحزابا تحترب وتتصارع، ويفزع بعضها إلى الملوك المسيحيين لمقاومة بعض ، فمهدوا السبيل للنيل منهم، وتغلب العدو على مدنهم وقلاعهم؛ فقد بات قصر الحمراء ملعبا لدسائس النساء ومكايدهن، فأشعل الثورات الأهلية ليستفيد منها الإسبان.
وكان من سوء الطالع أن يتولى أمر غرناطة السلطان أبو الحسن علي بن الأحمر، رجل لذات وشهوات، فأهمل رعاية الجيش، وأقدم على قتل كبار القواد ليأمن انتقاضهم، فتراخت القوى العسكرية في الدولة، وقل خطر حاميات الثغور.
ولم يقتصر على هذا، بل سلم زمام الأحكام إلى وزيره، وقعد عن الجهاد، حاسبا أن النصارى لا يغزونه، ولا تنقضي بينهم الفتنة، واحتجب في قصره عن الناس ليتفرغ لنسائه وملاهيه.
فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكثرت المظالم والمغارم على حد تعبير المقري؛ فإذا الثورة تتمخض في شعبه، فتنتقض مالقة على حكمه، وتبايع أخاه أبا عبد الله محمدا الملقب بالزغل؛ فتنشب الفتنة بين الأخوين مدة، ثم يخضع الزغل لأخيه، وينقضي الخلاف، ليقع بعده خلاف جديد أشد منه وأنكر، بين الابن وأبيه.
وذلك أن أبا الحسن في تهافته على اللذة كان يكثر من التسري بالجواري ليطيب له الاستمتاع؛ فوقع على جارية إسبانية اسمها إيزابلا، فشغف بها شغفا عظيما، واستولت على إرادته، فحملته على أن يتزوجها، وأسلمت فسميت الثريا، فأحلها المنزلة الأولى بين نسائه، حتى إنه قدمها على زوجه عائشة، وهي بنت عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر.
وشاء أن يجعل ولاية العهد لبعض أولادها، فاشتعلت الغيرة في صدر عائشة، وراحت تدس للثريا، وتنصب لها أشراك مكايدها، فانقسم خدام القصر على فئتين متنافرتين، تميل الواحدة إلى أولاد الحرة، والأخرى إلى أولاد الجارية، والشعب خارج القصر يتذمر على الوزير لجوره واستبداده، يطلب إقصاءه عن الحكم، والسلطان لا يلبي له طلبا.
ولم تكن هذه الأحداث لتخفى على ملكي قشتالة وأرغون، أو يفوتهما استغلالها، وهما في زواجهما واتحادهما، قررا أن يزيلا باقي كلمة الإسلام عن إسبانية.
وكان السلطان أبو الحسن قد استفزهما للجهاد في اعتدائه على الزهراء سنة 1478، وهي تابعة لملكة قشتالة، فحرضت بعلها على تجريد حملة صليبية، لا تنثني إلا بإخراج المسلمين من الأندلس، فتم تجهيزها سنة 1482م/887ه فراحت توالي الغارات على مملكة غرناطة، تفتتحها بلدا إثر بلد، وتستنزل الحصون أو تقذفها بالمدافع.
وفي هذه السنة فرت عائشة من الحمراء، ومعها ولداها أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف، خوفا من زوجها أن يفتك بهم نزولا على رغبة حظيته الإسبانية، فقصدوا إلى وادي آش يستثيرون الشعب، وهو في حملته ناقم على أبي الحسن يمقت استهتاره وقعوده، فمد إليهم يده وبايع أبا عبد الله خالعا أباه، ثم قامت ألمرية وبسطة وغرناطة بدعوة السلطان الجديد؛ فهرب أبو الحسن إلى مالقة ملتجئا إلى أخيه الزغل، فاعصوصب الشر بين حزب أبي عبد الله وحزب أبي الحسن، وفيهم الثغريون (سكان الثغر) وبنو سراج.
فقد انتصر الأولون لأبي الحسن، والآخرون لأبي عبد الله؛ فكانوا يقتتلون في الشوارع والطرق حتى تركوا الفوضى منتشرة في البلاد، وتزعم الرواية العربية أن أبا عبد الله نكب بني سراج وأفناهم، على أن المستشرقين أوغست مولر وكليمان هيوار يضيفان هذه النكبة - إن صحت أخبارها - إلى أبي الحسن؛ لأن بني سراج كانوا خصومه وأنصار ولده، فلا يعقل أن ينكبهم أبو عبد الله، ولعل الرواية العربية تخلط بينه وبين عمه أبي عبد الله الزغل، وعلى حوادث هذه النكبة بنى شاتوبريان قصته: آخر بني سراج.
وما زالت الحرب دائرة بين الابن وأبيه حتى رجحت كفة الولد، فأقام سريره في غرناطة، وأطاعته البلاد إلا مالقة والناحية الغربية.
وفي سنة 1483م/888ه قصد المسيحيون مالقة وبلش (Velez)
في نحو ثمانية آلاف، وكان السلطان أبو الحسن قد أناخ على نواحي المنكب لمقاتلة ولده، فالتقاه أبو عبد الله في جند غرناطة والجهة الشرقية فهزمه، في حين كان الزغل يقاوم الجيوش الإسبانية في مالقة، ويردها خاسرة.
فلما بلغ أبا عبد الله أن عمه الزغل انتصر على الإسبانيين في مالقة، أحب أن يكون له قسط من الجهاد الوطني والديني؛ فحشد عساكره وخرج غازيا، فتجمع عليه الإسبان في الجبال والأوعار، فكسروه وأخذوه أسيرا بعد أن قتلوا من الجيش خلقا عظيما، فأجمع أمراء غرناطة وأعيان الأندلس على إرجاع والده أبي الحسن، فذهبوا إلى مالقة وبايعوه.
وكان قد ذهب بصره على أثر مرض يشبه الصرع أصابه، فرفض أن يقوم بأعباء الملك وهو على هذه الحال، وأشار عليهم بأن يبايعوا أخاه أبا عبد الله الزغل؛ فبايعه الأندلسيون وقدموا له الطاعة، وانتقل أبو الحسن إلى المنكب فأقام بها إلى أن مات.
وأغار المسيحيون سنة 1485م/890ه على غربي مالقة فدخل أهلها في طاعتهم، وحاصروا بعدها رندة (Ronda)
فهدموا أسوارها بمدافعهم، وما انفكوا يضيقون عليها حتى طلب أهلها الأمان مستسلمين.
ثم إن فردينان رأى أن يضرب المسلمين بعضهم ببعض؛ فيستفيد من شقاقهم وتحاربهم، فبعث إلى السلطان أبي عبد الله - وهو أسير عنده - فاستقدمه وخلع عليه، ووعده بأن يساعده على خلع عمه، ويعيده إلى عرشه، ثم أطلق سراحه وأمده بالعساكر والمال؛ فثار يطلب الملك.
وجاء بلش فأطاعه أهلها، ونادى الخبر إلى غرناطة فمال إلى مبايعته أهل البيازين (ALbaycin)
وهو حي من أقدم أحياء غرناطة، قائم في أعاليها على تل منحدر يشرف على المدينة، بينه وبين التل الذي عليه قصر الحمراء فرجة صخرية.
وفي البيازين قلعة حصينة تعرف بالقصبة القديمة، وكان أهل هذا الحي على جانب من الجهل - كما يصفهم صاحب نفح الطيب - فقاموا بدعوة أبي عبد الله، وتبعهم بعض أهل غرناطة، وهم يرجون الصلح مع المسيحيين على يد السلطان الأسير لما رأوا من عطف القشتاليين عليه؛ فوقعت الفتنة بين المسلمين ورجمت البيازين بالحجارة من القلعة.
ثم جاء السلطان أبو عبد الله إلى لوشة، فظنوا أنه أتى لمصالحة عمه الزغل، وإذا صاحب قشتالة وأرغون يدهم لوشة بجيش عظيم فيحاصرها، فخف أهل البيازين إلى نصرة السلطان أبي عبد الله، ولكنهم ما لبثوا أن تبين لهم أن السلطان كان على اتفاق مع الملك الإسباني، ففتحت لوشة أبوابها لفردينان 891ه وهاجر أكثر أهلها إلى غرناطة.
أما أبو عبد الله فبقي مع الإسبانيين، فأثبت بذلك شائعة مواطأته لهم، وحقيقة الأمر أنه ما حالفهم إلا لاعتقاده أنهم سيكونون أنصاره على عمه فيستعيد منه العرش، وأن المسلمين يأمنون اعتداءهم في ظل ملكه لارتباطه بالصداقة معهم، خصوصا بعدما وعده فردينان بأن من يدخل في حكمه فهو في أمان تام.
وعلى ذلك نشط إلى بلش يدعو الناس لموالاته ويمنيهم بصلح صحيح، فأقبل عليه جمع غفير ممن رغبوا في السلامة وكره القتال، وجاءه في الجملة أهل البيازين يدعونه إلى حيهم، متجندين لنصرته والدفاع عنه، فانتقل إليهم على حين غفلة، ونزل في القلعة فانقسمت غرناطة قسمين: حزبا معه وحزبا، مع عمه نزيل الحمراء.
ولم يغفل ملكا قشتالة وأرغون عن إمداده بالجند والمال والقمح والبارود، فشبت في غرناطة ثورة أهلية كثر فيها النهب والتقتيل.
وفيما كان السلطان الزغل يدعو الأجناد والقواد من أهل بسطة ووادي آش وألمرية والمنكب لمساعدته وطرد أبي عبد الله من البيازين، بلغه أن الإسبانيين زحفوا إلى مالقة بجيش عظيم، ونزلوا على بلش يحاصرونها في آذار 1457م/ربيع الآخر 892ه؛ فخف إلى نجدتها بما اجتمع لديه من وفود وادي آش وجبال البشرات، فرأى العدو يواثبها برا وبحرا، وقد أخذ بخناقها من جميع الجهات.
فوطن النية على منازلته مهما كلف الأمر، وإذا نبأ يأتيه من غرناطة بأن العاصمة بايعت ابن أخيه أبا عبد الله، وأن هذا الأمير استولى على قصر الحمراء؛ فانكسرت عزيمته، وانهزم بجيشه قبل أن يلتحم مع الإسبانيين، وسار إلى وادي آش فنزلها وتحصن بها.
وما زال الإسبانيون يشددون الحصار على بلش حتى طلب أهلها الأمان، ودانت لهم جميع البلاد بشرقي مالقة إلا جبل فارة (Gibralfars)
حصن مالقة المنيع، فإنه لبث يدعو للزغل ويدافع الأعداء متمردا، ومالقة أعظم فرضة تجارية حربية على باب المضيق، تأتيها الإمدادات من المغرب، تنزل بها ثم تنتقل إلى غرناطة.
فكان من المعقول أن يوجه إليها فردينان حملته ويفرغ منها قبل مهاجمة العاصمة ليقطع الصلة بينها وبين العدوة المغربية، فسير إليها جيشا بريا وأسطولا بحريا يضربان عليها نطاقا عسيرا، فقاتل أهلها قتالا مجيدا، وسلط الحصن مدافعه على البر والبحر، فمني الإسبانيون بخسائر جسيمة.
غير أنهم لم يحجموا عنها، ولا فتر لهم نشاط، بل لبثوا يقتحمون إليها المخاطر حتى دخلوا أرباضها وضيقوا دائرة الحصار وصاروا يقذفون عليها قنابلهم من مسافات قريبة ، فيدمرون الحصون والمنازل.
فصبرت مالقة صبر الكرام على التقتيل والتخريب، وانقطاع الأمل من مساعدة سلاطين المغرب إلى أن فني ما عندها من الطعام وأكلت الخيل والحمير؛ فعضها الجوع المرير، وغلب عليها اليأس القاتل، فاضطرت مكرهة إلى الاستخذاء بعد منعتها، فدخلها المسيحيون في آب 1487م/شعبان 892ه وسقط في أيديهم حصنها المريد.
وتابع فردينان غاراته كل سنة، فكان يفتتح المدن والقلاع وهو يظهر الصداقة لأبي عبد الله صاحب الحمراء، ويدعي مناصرته على عمه ومنافسه في الملك، وإنما وكده أن يعزل غرناطة عن جميع المدن والولايات الإسلامية؛ فيسهل عليه امتلاكها إذا حاصرها، ويحول دون وصول النجدات إليها.
ولا يخفى ما في هذه الخطة من دهاء وحسن تدبير، فلما كانت سنة 1489م/894ه، نهض بجيشه إلى بسطة يريد انتزاعها من الزغل، فحشد السلطان الجيوش من وادي آش وألمرية والمنكب والبشرات، فوقعت بينهم معارك كثيرة كان النصر فيها للإسبانيين، وتضايق أهل بسطة من الحصار والجوع، فطلبوا الأمان، وخضع الزغل لفردينان وبايع له على أن يبقى تحت طاعته.
فدخل الإسبان بسطة في كانون الأول 1489م/محرم 895ه وأقاموا في كل قلعة قائدا مسيحيا، ودانت لهم وادي آش والمنكب وألمرية، وتم لفردينان ما أراده، ولم يبق خارجا عن حكمه سوى غرناطة وقراها وجبال البشرات، فعندئذ تبدلت سياسته نحو صاحب الحمراء ؛ فأظهر الميل لأبي عبد الله الزغل، ودعا الناس إلى الالتفاف حوله، وبذل المال لبعض القواد المسلمين فباعوه ضمائرهم، وجعلوا رجالهم في خدمته توفيرا لرجاله.
فسقطت أمام وجهه جميع الحواجز التي كانت تعوق زحفه إلى غرناطة، فكتب إلى صاحبها يستنزله عنها، واعدا إياه بأن يضعه تحت حمايته، ويعطيه مالا جزيلا، ولكنه لم ينتظر الجواب، بل دلف إليه بعساكره لينجز الأمر سريعا.
فجمع أبو عبد الله أعيان المدينة وقوادها، ومندوبين من عامة الشعب، وأطلعهم على كتاب فردينان، طالبا منهم أن يبدوا آراءهم في الجواب عليه، فإما أن يرغبوا في الجهاد والدفاع عن دينهم واستقلالهم، وإما أن ينزلوا على حكم المسيحيين.
فاتفقوا بأجمعهم على الجهاد المستميت، فأرسل إلى فردينان يبلغه رفض طلبه والاستعداد لقتاله.
فمشى الملك الإسباني إلى مرج غرناطة فاحتله بجيشه، وبعث إلى سكان العاصمة يهددهم بإفساد زروعهم إذا أصروا على مخالفته، فلم يجد عندهم غير الصلابة والإباء؛ فانتسف الزرع كله، وهدم بعض الحصون، إلا أنه أحجم عن ضرب الحصار لقلة في الذخيرة والجند، وآثر أن يرتحل إلى بلاده، مرجئا أمر غرناطة ليوم آخر.
وما كاد يبتعد حتى عادت بعض الجهات إلى طاعة صاحب الحمراء ومنها جبال البشرات، وكان الزغل قد استقر بألمرية، فدلف إليه ابن أخيه بحملة من غرناطة ليسترد الأماكن التي سلمها للعدو، فتلقاه عمه بجيش فيه قوات من النصارى الإسبانيين، فنشبت بينهما معارك دامية لم يترجح النصر فيها لأحد منهما.
وفي أثنائها خرج فردينان بجيش انضم إليه المدجنون
1
والخانة والمرتدون،
2
فقصد إلى وادي آش وأجلى عنها المسلمين، فلما بلغ خبره السلطان الزغل، خاف على نفسه لمصادقته الإسبانيين، وهم اليوم ينفون أبناء ملته عن ديارهم، فكره البقاء في الأندلس، فعبر البحر إلى وهران، ثم إلى تلمسان، واستقر بها بعيدا عن عرشه وسلطانه.
وعاد أبو عبد الله إلى غرناطة يتأهب للقاء العدو بعد أن أصبحت العاصمة الهدف الوحيد لأنظار إيزابلا وفردينان، وهيهات، لا يطمئن لها فتح ما دام المسلمون معتصمين بالحمراء، فيكفي أن يقع من الحوادث الداخلية ما يشغلهما حينا عن الولايات المفتتحة حتى تنتقض عليهما، وتعود منضمة إلى غرناطة، ناشدة حريتها واستقلالها، فلا الفتح مكفولا ولا النصر سالما، أو يندك المعقل الأخير لدولة الإسلام في الأندلس.
وعلى هذا، صمم العاهلان أن يضربا الضربة الحاسمة ما دام الزمان مؤاتيا، فيأمنا من مفاجآت الغد، فنهضا إلى حشد العساكر من قشتالة وأرغون ولاون وجليقية وأشتوريش وسواها، فتم لهما جيش لهام، فيه زهرة الفروسية الإسبانية، يترأس أقسامه الأحبار والقوامس، وتنتشر فوقه رايات الصليب والصور المقدسة، ومعه من المؤن والمدافع والسلاح مقادير عظيمة تنذر بحرب ضروس لا هوادة فيها.
وكان فردينان وإيزابلا يقودان هذه الجيوش بنفسيهما، ويتعهدان سيرها ونزولها، فزحفا بها في آذار 1491م/جمادى الآخرة 896ه إلى مرج غرناطة الجنوبي (La Véga)
ونصبا آلات الحصار على العاصمة، وقذفا حصونها بالمدافع ، ولكنها كانت منيعة، فلم يهن جانبها ولا تثلمت أبراجها.
فعلم الإسبانيون أن الحصار طويل لا ينقضي أمده إلا بعناء شهور، فأمرت إيزابلا ببناء مدينة مقابل غرناطة تناوئها مدة الحرب إلى أن تظفر الواحدة بالأخرى، وهذه الخطة أخذها الإسبانيون عن العرب عندما يطول الحصار، فبنيت المدينة وسميت شنتفي (Santa-Fé)
أي الإيمان المقدس، فنزلتها العساكر الإسبانية مستظلة بحصونها، فكان في ذلك بلاغ للغرناطيين بأن هذه الحملة تختلف عن الغارات السابقة، فما تنتهي بإتلاف الزرع وامتلاك بعض الحصون.
فوطنوا النفس على الصبر والجلاد، ووقف القواد والأشراف بجانب السلطان أبي عبد الله يشددون عزيمته، ويدعونه إلى الثبات؛ فصبرت غرناطة على الحصار وقصف المدافع، رابطة الجأش، عنيدة المراس.
غير أن الميرة عندها لم تكن تكفيها سوى مدة قصيرة، والحصار الخانق يمنع الوارد إليها من الخارج، وليس لها باب مفتوح إلا من ناحية جبل شلير (Séerra Nivada)
إلى البشرات تأتيها منه المئونة رشحا لوعورة المسالك، فكان الضيق يدفع أهلها حينا بعد آخر إلى ترك الأسوار والحصون لمنازلة العدو؛ فتقع معارك دامية يستبسلون فيها مقاتلين قتال الضواري، فيسيل مرج غرناطة دماء، ويكتسي بالجثث والهام.
وكانت إيزابلا تتعهد الجرحى الإسبانيين بنفسها، تؤاسيهم وتضمد كلومهم، وتحث الأجناد على الصبر وحسن البلاء، فتوالت المعارك بين الفريقين رابية الخسائر، والزاد والرجال في غرناطة قليل، والعدو وافر العدد والذخائر، فلا بد أن يفضي الأمر إلى معركة فاصلة تنكسر فيها شوكة الغرناطيين، ويستطيل عليهم الإسبان بقواتهم الجرارة، فيضطرونهم إلى الانقباض وراء الأسوار لا يجرءون بعدها على طلب القتال؛ فيعود الحصار بأثقاله ويشتد الجوع على المسلمين، فيزداد العدو طمعا فيهم، ويفر من المدينة خلق إلى جبال البشرات.
فدعا السلطان أبو عبد الله رجال الدولة وأهل المشورة، يستطلع آراءهم فيما ينبغي عمله، فاتفقوا على إسلام البلد حفاظا على النفوس أن تهلك حيث لا يجدي الهلاك، فاختاروا وفدا من رؤساء الجند للمفاوضة، فخرجوا إلى معسكر الإسبانيين، فاستقبلهم فردينان وإيزابلا بحفاوة، فعرضوا عليهما إسلام العاصمة على شروط فيها الأمان للمسلمين؛ فقبل العاهلان دون تردد أن تفتح المدينة أبوابها صلحا، ووضعت معاهدة الاستسلام وهي تتضمن سبعة وستين شرطا على قول المقري.
ومن النظر إلى هذه الشروط يتبين أن المسلمين فاوضوا أعداءهم مفاوضة الند للند لا مفاوضة المغلوب للغالب، وأن العاهلين الإسبانيين كانا متساهلين إلى حد بعيد، تخلصا من هذه الحرب الطويلة، ووصولا إلى الغاية التي يتوخيانها.
ولعل فردينان كان يضمر وراء هذا السخاء خطة معينة ينوي تنفيذها عندما يصبح أمر غرناطة في يده، وتسرح جنود المسلمين، وتؤخذ منها قلاعها؛ فقد جاءت شروط المعاهدة في مصلحة المنكسرين أكثر منها في مصلحه الظافرين.
ولا يرجو مقهور أن ينال من قاهره شروطا شريفة أفضل منها تصون حرية الدين وحرية النفوس معا! فهي تنص من الناحية الدينية على أنه: لا يجوز للجنود المسيحيين أن يدخلوا المساجد إلا بإذن من الفقهاء، وتبقى المساجد والأوقاف كما كانت، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم عن أموره الدينية، وكل مسيحي يضحك منهم في أثناء إقامة شعائرهم يعاقب!
لا يقسر من أسلم من النصارى على الرجوع إلى دينه، وأما من تنصر من المسلمين فإنه يوقف أياما حتى يظهر حاله، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام يترك على ما أراد.
وتنص من ناحية أخرى على حماية النفوس والعادات والمنازل والأموال، فلا يجوز للعساكر المسيحية أن تدخل بيوت المسلمين ولا تأخذ منها طيورها ومواشيها، أو تقيم فيها الولائم والمراقص على كره من سكانها.
ولا يسمح للجنود الإسبانيين بأن يصعدوا إلى السور الذي يفصل القلعة عن البيازين، لئلا يستطلعوا على دور المسلمين، ولا تخترق القوات المسيحية مدينة غرناطة يوم دخول العاهلين إلى الحمراء، وإنما تسير في طريق منحرف خارج الأسوار، مراعاة لشعور الغرناطيين.
ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة فلا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه، ولا يعاقب من قتل نصرانيا أيام الحرب، ولا ترد منه الأسلاب التي غنمها، ولا يؤخذ أحد بذنب غيره، ويخير المسلم في البقاء أو في السفر إلى المغرب وإفريقية، فمن آثر البقاء ورضي أن يكون من رعايا صاحبي السمو الملكي ، يبقى له سكنه وماله وعقاره، ولا يؤدي من المغارم زيادة على ما كان يؤديه للأمراء المسلمين، وترفع عنه جميع المغارم والمظالم المحدثة، ويسير في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله، ولا يجعل علامة يعرف بها كما يجعل اليهود والمدجنون.
ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم لدى قضاتهم، ولا يولى عليهم نصراني أو يهودي، ويحق للتجار المسلمين أن يسافروا ويعودوا متمتعين بالحرية والطمأنينة، فيمكنهم أن يعبروا بتجاراتهم إلى إفريقية كلها، وأن يتنقلوا في جميع الولايات الخاضعة لصاحبي السمو، ولا يؤدون من المكوس زيادة على ما يؤديه التجار المسيحيون.
ويجب أن تكون أسواق المسيحيين ومجازرهم منفصلة عن أسواق المسلمين ومجازرهم، لكي لا يحصل اختلاط في البضائع واللحوم.
ويستقل المسلمون بمياههم وأنابيبهم، فلا يحق للمسيحيين أن يشربوا منها أو يغسلوا بها ثيابهم، وإن صاحبي السمو وقوادهما الأكارم يراعون المسلمين، ويعاملونهم معاملة الأتباع الأوفياء.
أما من آثر الهجرة على البقاء فلا يمنع، وتنقله إلى العدوة الإفريقية - في مدة معينة - مراكب صاحبي السمو، ولا يلزمه إلا الكراء، ويحق له أن يأخذ معه جميع أمواله: ذهبه وفضته وحلاه، وبضاعته وسلاحه، ما عدا الأسلحة النارية.
ومن يتأخر عن السفر في المدة المعينة، يعطى عندما يسافر عشر ماله والكراء، وإذا لم يطب المقام للمسلم الأندلسي في المغرب وإفريقية، وأحب العودة إلى غرناطة، يسمح له بذلك في مدة ثلاث سنوات من سفره، ويحق له أن يتمتع بجميع الذمم التي تنص عليها المعاهدة.
ويشترط العاهلان الإسبانيان مقابل ذلك أن ينتقل أبو عبد الله سلطان المسلمين بأهله وحرسه من الحمراء إلى البشرات، وتكون سكناه بأندرش (Andaraxe) ، وأن يستوثق خمسمائة من أعيان غرناطة رهنا حذار الغدر والعصيان!
وخط فردينان وإيزابلا اسميهما تحت هذا القسم:
نؤكد ونقسم بأيماننا وكلامنا الملوكي أننا نحافظ ونأمر بالمحافظة على مضمون جميع ما هنا من كل شيء وكل جزء، الآن وفيما بعد، الآن وفي كل آن.
وأبرم الشروط بعدهما أبو عبد الله وزعماء المسلمين، فتوقفت الأعمال الحربية في كانون الأول سنة 1491م/صفر 897ه، وفي اليوم الثاني من كانون الثاني 1492م/2 ربيع الأول 897ه فتحت غرناطة أبوابها فدخلها صباحا فردينان الخامس وإيزابلا الكاثوليكية بموكب حافل، فسارا توا إلى الحمراء.
وكان قائد القلعة ينتظرهما على عتبة الباب فقدم لهما المفاتيح، فسلماها للكونت تنديلا (Tendilla)
وجعلاه قائدا عاما لمملكة غرناطة، ثم رفع الصليب الفضي وعلم قشتالة على برج فيلة (La vela)
أعظم أبراج الحمراء، واحتلت رجالة الجنود الإسبانية جميع الأسوار والبروج.
وكان السلطان أبو عبد الله قد غادر القلعة قبل دخولهما العاصمة، فاجتاز ساحة الأسود كسيرا منخلع الفؤاد، يسير مطرقا إلى منفاه وبجانبه أمه عائشة صامتة، قاطبة، والناس وقوف في الشوارع والشرف يشيعونه بأنظارهم منقبضين، من بين راحم وناقم، حتى إذا انعطفت به الطريق، وكادت الحمراء تتوارى عنه، أرسل إليها النظرة الأخيرة، وهطلت عيناه بالدموع، فالتفتت إليه أمه، وقالت له بمرارة الشامت المتألم:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
ولا يزال هذا الموضع يسمى إلى اليوم «زفرة المغربي».
وأقام أبو عبد الله بأندرش إلى سنة 1492م/898ه، ثم عبر البحر إلى المغرب، ونزل بفاس فاتخذها مقرا حتى مات.
خلت غرناطة من ملوكها بني الأحمر، ولكنها بقيت آهلة بالمسلمين، يزاولون فيها أعمالهم مطمئنين إلى عهد فردينان، حاسبين أن الإسبان مقيمون عليه طويلا لا ينقضون شروطه، فيتسنى لهم مع الزمن أن يجددوا قواهم، ويستأنفوا جهادهم لاسترداد سابق عزهم وسلطانهم، فإذا كان ما نالهم من ذل وانكسار عقابا سماويا على آثام اقترفوها، أو اقترفها حكامهم وزعماؤهم، فلن يتخلى الله عنهم، فيأذن ببقائهم خاضعين لحكم النصارى، والنبوات التي يسمعونها من أفواه الذين يقال إن لهم زلفى عند الله؛ تبعث في نفوسهم أملا حيا، وتبشر بقرب الخلاص، وانتهاء العقاب.
ومهما تكن شروط العهد سخية شريفة، فهي لا تعدو أن تكون شروط الغالب على المغلوب، تطالعه أبدا بزوال دولته، ووجوب خضوعه للمسيطر الغريب، وما تعودوا من قبل أن يخضعوا إلا لأبناء ملتهم، بل كانوا يتبرمون بحكم سلاطين المغرب، ويعتبرونهم دخلاء عليهم، مع أنهم مسلمون ويتكلمون العربية، فكيف يرضون حكم الإسبانيين وهم غرباء عنهم في الدين والجنس واللسان؟! فلماذا لا يسعون بكل ما لديهم من الوسائل لتحطيم هذا النير الثقيل؟! فعهد فردينان قد ترك لهم الحرية في السفر إلى الأمصار الإفريقية لتعاطي التجارة؛ فبوسعهم أن يتصلوا بسلاطينها، ويحرضوهم على تجريد حملة قوية تنقذ الأندلس المسلمة.
وما يمنعهم أن يستنجدوا المماليك في مصر، أو يفزعوا إلى الدولة العثمانية وهي في فتوتها ونشاطها، وإبان مطامعها، ممالك أوروبة تداريها وتخشاها بعد أن واتاها الحظ، فافتتحت القسطنطينية سنة 1453، وجعلتها قاعدة لها؛ فجثمت على الشاطئين، بيدها مفاتيح الشرق والغرب.
دولة مسلمة مكينة العقيدة، تطمح إلى الخلافة لتصبح باسم الشرع حامية الإسلام، فلا بدع أن يجد الأندلسيون عندها عطفا وتشجيعا كما وجدوا عند سلاطين المغرب وإفريقية ومصر، فتصبح بعد ذلك شواطئ الأندلس غرضا لغارات القرصان المسلمين يعيثون فيها وينشرون الذعر والاضطراب، فكانت هذه الغارات كافية لتحريك الأندلسيين مع انتظارهم القوة التي وعدت إفريقية بإرسالها، وهم لا تنقصهم الشجاعة، ولا العصبية الدينية، ولا كره الغريب البغيض، ومن جملة تساهل العهد معهم أن ترك لهم أسلحتهم فكأنه أعدهم للقيام بالثورة، ولا سيما سكان الجبال الوعرة كالبشرات.
ولم يكن المسلمون منحصرين في غرناطة وحدها، بل ظلت سائر الولايات الإسبانية حافلة بهم بعدما استردها المسيحيون، فإن فردينان رأى من الخير أن يستبقيهم ويعطيهم ذمة المدجنين؛ لئلا ينقص عدد السكان فتتأثر التجارة والزراعة، فوجود هؤلاء في قلب إسبانية أشبه شيء بقوة خفية مبثوثة تعتمد عليها غرناطة إذا هبت ثائرة، وغير مستصعب عليهم أن يتفاوضوا ويتفاهموا ليجمعوا أمرهم على خطة يضعونها ما دام التاجر الغرناطي يحق له - كالتاجر الإسباني - أن يتردد في مملكتي قشتالة وأرغون، فلم يمض على العهد بضع سنوات حتى أخذ الجبليون ينتقضون ويثورون، وبدأت قشتالة تفكر بإلغاء العهد أو تعديل شروطه.
والظاهر أن أول فكرة خطرت لها حفاظا على الأمن وتحقيقا للوحدة القومية -هي تنصير المسلمين وتعليمهم لغة البلاد وعاداتها؛ لأن الإسبانيين اعتقدوا أن هذا الشعب الغريب لن يندمج فيهم ما دام متمسكا بدينه وعاداته ولغته، ولعل تساهلهم في شروط العهد كان ترغيبا له في الحكم الإسباني إلى أن يتمكنوا من تنصيره أو تنصير أولاده على تمادي الزمن.
وقد عبر عن هذه الفكرة رئيس أساقفة غرناطة الدون فرناندو دو تالافيرا (Fernando de Talavera)
فطلب عند وضع المعاهدة أن تحسن معاملة الغرناطيين، وأن يجعل التساهل أساسا لشروطها على أمل أن يقبلوا الديانة المسيحية في المستقبل، وقال في ذلك كلمته المأثورة: «هؤلاء أولاد ينبغي أن نغذيهم باللبن.»
وقد كان من الطبيعي أن يترك أمر تنصيرهم على عهدة الأيام والليالي، إلا أن الخوف من الثورات التي طفقت تهدد إسبانية، والحملات التي ينتظر أن تأتيها من إفريقية -حمل فردينان على اتخاذ تدابير قاسية في حد ذاتها، فأصدر أمره سنة 1499م/904ه، بتنصير المسلمين جميعا، وإرجاع من أسلم من النصارى إلى دينه القديم، وكل من رفض التنصير يجبر على مهاجرة البلاد.
فأحدث هذا القرار اضطرابا عظيما في غرناطة والبشرات، وهب أهل البيازين في وجه الحكام فقتلوهم، وكتبوا إلى الملك الظاهر قنسو الثاني سلطان مصر مستغيثين، فبعث هذا إلى الملكين الإسبانيين يهددهما بالانتقام من المسيحيين الذين في أرضه، فاضطرا إلى أن يوفدا مرشد كاتدرائية غرناطة بطرس مارتير، ليوضح له حقيقة الأمر ويطلعه على الرسائل التي تلقتها حكومة قشتالة من سلطات المدن البحرية في إفريقية، تؤكد فيها أن المبعدين لاقوا من الإسبانيين أحسن معاملة.
واستطاع العاهلان في الوقت نفسه أن يخمدا ثورة الجبليين، ويكرها المسلمين على التنصر، ولا سيما الفتيان والفتيات؛ فإن التنصر كان شاملا فيهم، وآثر جماعة أن لا ينزلوا عن دينهم، فرحلوا إلى المغرب في مدة ثلاثة أشهر تاركين أملاكهم للدولة.
قال صاحب نفح الطيب: «وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم، بادية وحاضرة، وامتنع قوم من التنصر ورغبوا في الثورة؛ فاستأصلهم الإسبان سبيا وقتلا، ومنهم من خرجوا على الأمان إلى العدوة المغربية.»
ولكن فاجعة المسلمين المتنصرين (Morisques)
لم تقف عند هذا الحد؛ ذلك بأن العدد الأكبر منهم ظل يبطن الإسلام ويحافظ سرا على شعائره وتقاليده، قال المقري: «كان من أظهر التنصر من المسلمين، وبقي على دينه خفية، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى أنهم أحرقوا كثيرا بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلا عن غيرها من الحديد، وقامت لهم ثورات في بعض الجبال على غير طائل.»
فقد فهم الإسبانيون أخيرا أن تحويل شعب عن دينه جملة - بطريق الإكراه - عمل عقيم لا يؤدي إلى النتيجة المنشودة، ولم يجد نفعا ديوان التنقيب (Inquisition)
ما قام به من الفحص البليغ عن هؤلاء المتنصرين في الظاهر، ومن ضروب العقوبات البربرية كالتعذيب والتحريق، حتى كان عهد فيليب الثاني فأصدر قرارا 1565م بإخراج العرب المتنصرة من إسبانية كلها إلا من حسن إيمانه ولم يلحقه شك في نصرانيته، وفصل الأولاد الصغار عن آبائهم وأمهاتهم؛ فوضعوا في المدارس تحت رقابة الحكومة، ليتربوا تربية مسيحية خالصة.
غير أنه لم يتم الجلاء إلا في زمن فيليب الثالث، فأخرجوا إخراجا عاما سنة 1609م/1017ه، فخلت منهم ربوع الأندلس بعدما عمروها بحضارتهم زهاء ثمانية قرون، وآضت إسبانية للإسبانيين.
المراجع
الكتب العربية
ابن الأثير: الكامل.
ابن خلدون: كتاب العبر.
ابن خلكان: وفيات الأعيان.
المقري: نفح الطيب.
ابن بسام: الذخيرة.
ياقوت: معجم البلدان.
البستاني: دائرة المعارف العربية.
بطرس البستاني: أدباء العرب، جزء 3.
الكتب المنقولة
يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (الترجمة العربية: لمحمد عبد الله عنان).
الكتب الفرنسية
DOZY, Histoire des Musulmans d’Espagne, 4 Vol. petit in - 8, 1861.
DOZY, Recherches sur l’histoire et la littérature de l’Espagne. Leyde - E. J. Brill 1881.
CL HUART, Histoire des Arabes, Geuthner,
Louis BERTRAND, Histoire d’Espagne, Arthême Fayard,
E. LÉVI-PROVEÇAL, Islam d’Occident, Librairie Orientale et Américaine, Paris.
Georges MARÇAIS, La Berbêrie Musulmane, Aubier,
J. BERAUD - VILLARS, Les Touareg au pays du Cid, Plon,
C. BROCKELMANN, Histoire des Peuples et des Etals Islamiques. (Traduction française de M.Tazorout). Payot,
Неизвестная страница