لقد تسممت أمسيتي. كنت أحبه كثيرا وكان يبادلني هذا الحب، وقد أخبرني عن وفاته السير دنيسون أمس. فمتى أعقل أن علي أن أعد نفسي لتقبل موت أصدقائي؟!
وكان عليه أن يتلقى قريبا موت صديق آخر (وكنا قد عدنا إلى القاهرة)، وأعني به موت حسين بك عبد الرازق، الأخ الأكبر لمصطفى. كنا نحبه كما لو كان أخانا الأكبر أيضا. كان يعيش أغلب الأحيان في عزبة أهله في «أبو جرج» التي كان فيما أظن مسئولا عنها. وكان يجمع إلى الاستقامة المثلى إخلاصا كاملا. كان كثير التعلق بالتقاليد؛ فامرأته وبناته كن يعشن في رصانة فرضتها تقاليد الماضي. ومع ذلك فعندما كنت في «أبو جرج» مع طفلي، فإنه كان غالبا ما يطلب إلي أن آتي إليه في التعريشة حيث كان يجتمع بنظار المنطقة ومزارعيها، وكان ذلك يؤثر في نفسي تأثيرا طيبا. لقد كنت أتحدث إليه في ثقة كاملة، وكانت هناك ناحية لم نكن نتفق حولها مطلقا. فقد كنت أستمتع بتغريد العصافير في الصباح، أما هو فقد كان يسخط أشد السخط؛ لأنه كان يرغمه على الاستيقاظ باكرا جدا.
عندما وقعت المصيبة كان مصطفى في البحر لا يعرف عنها شيئا. وذهب طه إلى الإسكندرية مع علي
130
لاستقباله. وأمضى ثلاثتهم يوما كان في منتهى القسوة عليهم جميعا.
والذكرى تستدعي الذكرى؛ أعني الموت المأساوي لعميد أسرة عبد الرازق قبل تسع سنوات من وفاة حسين عبد الرازق، أعني موت حسن باشا عبد الرازق الذي كان قد استقبلني لدى وصولي مصر والذي لم يكف عن العناية الودية بي؛ فقد كانت له لفتات مماثلة للفتات أخيه. كنا مدعوين معه لعشاء كنت فيه المرأة الوحيدة من المدعوين، وامتد العشاء. وكنت قد تعبت وبدأت أشعر بالسأم. آه! ما أكثر سأمي! ... ولاحظ ذلك حسن باشا؛ فقال لي بصوت منخفض : «هل تريدين العودة؟» فقلت بلهفة: «آه ... نعم!» فنهض وخاطب مضيفنا قائلا: «يا صاحب المعالي، إن السيدة طه حسين متعبة، فإذا سمحتم لي فإنني سأرافقهما؛ إذ علي العودة أنا الآخر أيضا.» إنه أمر بسيط ولا شك، لكنه ذو أهمية كبيرة في بعض الأحيان.
لقد حدث ذلك في إحدى المراحل العنيفة من الصراع السياسي الذي كان يجعل البلد في اضطراب دائم. كان هناك في ذلك اليوم، يوم وفاته، اجتماع للأحرار في مكتب «السياسة» وكان طه حاضرا هذا الاجتماع، وكان هناك خارج المقر بعض المجرمين يختفون في الظلام. كانوا يستهدفون عدلي ولا شك، إلا أن حسن باشا والمحامي زهدي كانا أول من خرج من الاجتماع ... بعد خمسين سنة مرت على هذا اليوم، كان من بين الجمهور الذي جاء للتعزية بوفاة طه، سيدة لم أكن أعرفها، وكانت شقيقة زهدي. لا شيء يموت.
كان حسن باشا قد جاء لزيارتنا في مصر الجديدة قبل عشية يوم المأساة، وعندما استأذن للانصراف رافقته. وعلى العتبة، تبادلنا القول: «إلى اللقاء.» ثلاث مرات بشكل غريب. وعندما كنت أنظر إليه يبتعد، شعرت بشيء من الاضطراب. لم تكن لي حدوس كثيرة، لكن ذلك الحدس كان واحدا منها. لم يعد طه ذلك المساء المأساوي في وقته المعتاد، وكنت قلقة. يا لوجهه عندما عاد! ... كان ممتقعا، واكتفى بأن قال لي بصوت أجش: «لقد قتلوا حسن باشا قبل قليل.»
بعد عودتنا من لبنان في عام 1927، كان لا يزال ثمة بعض الاضطرابات بسببنا بمناسبة قرار رد الدعوى الذي كان يراد إلغاؤه، واستقالة طه التي انتهى إلى سحبها، لكن الحياة سارت سيرها الطبيعي بعد كل شيء. وكان هناك حفلات استقبال وحفلات عشاء عامرة، ولم أعد كما كنت في البداية أشعر بالانزعاج من اجتماعات كانت تقتصر على الرجال فقط، وأكون فيها المرأة الوحيدة.
كنا نسكن في شارع المنيا؛ فقد كان أقل غلاء نسبيا من شارع رمسيس. وكنا اشترينا أول سيارة لنا؛ كانت عبارة عن سيارة كرايزلر عتيقة، جددت كليا عندما بيعت لنا، على أنها أسعدتنا كثيرا برغم حالتها وبرغم أنها كانت تقبع أكثر الأوقات في الجراج للأسف! كانت تسهل لنا، خلال إجازات الإسكندرية، كثيرا من النزهات، وخاصة في أبي قير. أما في القاهرة، فقد كنت أستطيع أن «أهوي» طه قليلا برغم احتجاجاته بالطبع؛ ذلك أن العمل كان مقدسا عنده، وكانت النزهات رفاها لم يكن يسمح به لنفسه ... وهناك نزهة من هذه النزهات قمنا بها ذات مساء ولا تزال ذكراها عذبة في خاطري؛ كنا نعود من حلوان، وكنت أحاول أن أصف له جمال هذا الطريق بين الشواطئ الصخرية والماء وضوء القمر على الصخور وانعكاسه الباهت في النيل، وكان يستشعر هذه الأشياء بحساسية عميقة.
Неизвестная страница