150

250

كان يوم حريق القاهرة يوما حافلا بالقلق والأسرار أيضا؛ إذ لم نكن نعرف حقا ما الذي كان يجري. كان نظام منع التجول الطاغي مستمرا، وخلال الأشهر التي تلت جرت محاولات عدة لإقامة حكومة جديدة، لكنها لم تنجح، ثم كانت نهاية الملكية.

لم يخل بيتنا من الزوار عند سقوط الوزارة. كنا نتلقى كميات من الأزهار والرسائل، وكنا نرى أنواعا من الثناء والمديح غريبة؛ فقد أهدى إيطالي مثلا إلى طه معزوفة عسكرية من تأليفه، وجاء مصري إلينا بلوحة مؤطرة بإطار فخم لجد جده الذي كان فكر في تأسيس مدرسة للغات، فكان من العدل إذن إهداء هذه الذكرى لطه الذي قام بتأسيس مثل هذه المدرسة!

كانت هذه اللفتات، وهي في معظمها اعتراف بجميل، تمس شغاف قلبه بالتأكيد، لكنه كان مع ذلك ينظر للأمور من عل إلى حد ما، أعني فيما يتعلق بسقوط الوزارة. كان له في الوفد أصدقاء حقيقيون سمحوا له بتحقيق عدد من مشروعاته، لكنه لم يكن سياسيا، ولم يكن عضوا في الوفد. وفي فترة، وربما في فترات كثيرة، انتقد عدد من الوفديين الحزبيين تعيينه وزيرا «على حساب» أعضاء الحزب؛ فقدم طه استقالته للنحاس الذي رفضها محتجا بأن المسألة - وقد كتب له ذلك - ليست مسألة حزب، وإنما هي مسألة وطن.

كان النحاس ودودا باستمرار، يحترم طه ويتعامل معه في جو من الألفة البسيطة السائغة التي عرفت عنه دوما. وإني لأذكر رحلة قمنا بها معا وبمحض الصدفة قبل زمن الوزارة بوقت طويل، وعندما كان «الوفد» العدو رقم واحد للحكومات القائمة، كنا قد أمضينا أسبوعا في أسوان، ولم نكن نعلم أن النحاس سيعود إلى القاهرة بالقطار نفسه الذي كنا سنعود به، وكانت السلطات تخشى قيام مظاهرات بهذه المناسبة، فمنعت الدخول إلى المحطة على كل من لم يكن مسافرا؛ فلم يحدث شيء، إلا أنه عند وصول القطار إلى المحطة التالية، كان هناك سيل بشري يتدفق على طول الرصيف، وصعد المتظاهرون متدافعين إلى المقصورة التي كان الزعيم فيها - أعني مقصورتنا؛ إذ كان النحاس قد جاء إلينا للجلوس بالقرب من طه - وكانت هتافات الترحيب تختلط بباقات الورود، وكانت زجاجات «الشربات» تقذف بصورة خطيرة عبر باب المقصورة، وتمكن بعض الجسورين من اقتحام المقصورة، فجرحت قدم مؤنس المسكين - وكان طفلا آنذاك - وكادت تنسحق؛ فتسلقنا على المقاعد. وكان ذلك يتكرر في كل مكان كان القطار يتوقف فيه حتى هبوط الليل، وكان هناك نفر من الناس كانوا يرقصون بصورة رائعة على خيولهم الجميلة على امتداد الطريق، وقد بدا النحاس متأثرا على الرغم من اعتياده على مثل هذه التظاهرات، ولقد تأثرت أنا الأخرى.

ولكي يبدأ العمل، استعاد طه بفرح رئاسة لجنة المعاجم في المجمع اللغوي، واستغرقته تماما المهمات المختلفة المنتظرة منه، أو تلك التي يلزم بها نفسه، بحيث إنه كان في نهاية السنة التالية مرة أخرى خائر القوى، الأمر الذي اضطره إلى تعطيل العمل في كتابه عن الخليفة علي الذي كان قد كتب في «التيرول

Tyrol » الفصول الستة الأولى منه.

كانوا يبدون نحوه الاحترام والثقة (وكانوا يسمونه «أبو الثورة»). كان أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور، وطولب من جديد بإلقاء محاضرات، وألقى منها عددا لا ينسى، كمحاضرته عن حرية الكاتب، أما محاضرته في نادي الضباط فكانت داوية؛ فلدى خروجه ألقت امرأة بنفسها على عنقه، وأرسلت له في الغداة سلة رائعة من الورد.

بينما كان طه يتحدث عن حرية الكاتب، كان ابني يتحدث عن الموسوعة في الإذاعة. كنت في منتهى التعب وأنا أصغي إلى أحدهما مفكرة بالآخر، في حين كنت أشد خيوط الصوف في يدي؛ وكنت منفعلة إلى حد ما. لم يكن طه يهمل المجمع أو المعهد؛ فقد قبل إلقاء دروس خارج البرنامج في الكلية، وأعطى - إذا جاز لي القول - دفعة الانطلاق لمركز التربية الأساسية التابع لليونسكو في سرس الليان؛

251

Неизвестная страница