114

كان لا بد من العودة على كل حال. وهكذا فإن كلا من أمينة ومؤنس يعودان إلى الجامعة من جديد، في حين أن ابنتي ج. عادتا إلى المدرسة الثانوية. وكنا نعود إلى القرية من حين إلى آخر؛ الأمر الذي كان يتيح لطه أن يتخلص خلال يوم واحد على الأقل من إرهاق كان يقلقني، لكن هذا البيت كان مشبعا بذكرى الأيام المظلمة. وقد أغرق الألم طه في واحدة من هذه الأزمات السوداوية التي لا يمكن تخيلها إذا لم يعشها الإنسان معه، ولما كان غارقا في مأساة لا يستطيع منها فكاكا فقد كان مرعبا ولا سبيل للتفاهم معه، وكان يبدو وحيدا في العالم، ولم يكن ينتبه إلى أنني كنت بحاجة إليه. وعندما كنت أعود إلى ميت رهينة كنت بمجرد أن أدفع باب غرفتنا، أصاب بتثاقل وعجز عن الحركة لا فكاك منهما. وانكمش طه داخل نفسه، ولم يكف عن الألم حتى نهاية الحرب، لكنه لم يكن الوحيد الذي كان يتألم.

غدت أخبار فرنسا نادرة. وقد علمت في شهر ديسمبر أن أمي وأختي اللتين استطاعتا الوصول في يونيو إلى البيرينيه قد عادتا إلى باريس حيث استقرتا فيها بشكل ثابت. وكان بوسعي الكتابة لهما لوجود منطقة حرة بفضل خالة لي كانت تسكن في «كليرمون فيران»، وكانت تبذل أقصى جهدها لإعلامي عن بعض أخبارهما بمختلف الوسائل.

وفي أبريل 1941 جاء الجنرال ديجول إلى القاهرة وتحدث في الجامعة الأمريكية. وقد استقبله طه الذي كان يراقب إذاعة فرنسا الحرة (والتي كانت مصر كريمة إذ سمحت بها) في دار الإذاعة.

كما استمعنا إلى أوركسترا فلسطين التي كانت قيد التكوين تقريبا آنذاك ... لقد استقبل أعضاء الفرقة يومها استقبالا جيدا.

وخلال أربع سنوات، كان ثمة شباب جامعيون ، طلاب وطالبات، قد قرروا في حماسة عفوية وبغير غرض أن يجعلوا من وجه فرنسا حاضرا على الرغم من كل شيء، ذلك الوجه الذي كانوا يعرفونه ويحبونه. وقد جعلوا من أنفسهم فريقا أطلقوا عليه اسم «الطلبة».

194

وقد وضعت «الأوبرا» تحت تصرفهم وكانوا يقدمون في كل مرة عرضا فريدا؛ كانوا يتولون كل شيء بأنفسهم فيما عدا استخدام الآلات عندما يكون استخدامها ضروريا. ولم يكن الأساتذة أو غيرهم يتدخلون في اختيار المسرحيات أو في إخراجها، ولقد استمعنا إليهم يمثلون موسيه وبومارشيه وفين وجيرودو. كانوا يعملون عن قناعة وبذكاء بحيث أن القاعة التي كانت في غاية الازدحام بالجمهور لم تكن تخفي حماسها، وكان هناك من يتطوع للإسهام في هذا المشروع بحماسة. وكنا - جان وأنا - نساعد كلما كان ذلك ممكنا، في العمل بصنع بعض الأثواب الضرورية عندما لا يستطيعون العثور على ما يريدون، أو بإعارة بعض قطع الأثاث أو الأجهزة التي لم يكن يسعهم العثور عليها أيضا.

وبعد الحرب، ذهب جميع هؤلاء الشباب تقريبا إلى الخارج في بعثات كانوا سيبدءونها أو كانوا سيستأنفونها بعد اضطرارهم لقطعها. ولقد تركت تلك الأعمال في نفوسهم ذكرى جميلة انطبعت كذلك في نفوس الآخرين.

أما القلق العميق فقد عرفته القاهرة لحظة تهديد العلمين.

195

Неизвестная страница