74

وسار الركب الصامت في موكب واجم، والخيل تتعثر في الأخاديد التي خطتها سيول الشتاء المنصرم في تلك الصحراء الجرداء، التي لم يبق على وجهها أثر من النبات إلا هشيم تذروه الرياح، يزيد السهل القفر وحشة. وسار الفرسان يلفون اللثم حول وجوههم ليتقوا الرمال السافية، ولكن الحر الكامن في الهواء كان يجعل الأنفاس كثيفة كأنها تلج إلى الصدور قطعا صماء.

ولاح عند الأفق الغربي تل أغبر، يقطع صفحة السماء ثقيلا كأنه يهم بالنهوض ولا تسعفه الهمة.

ورفع الفارس المطرق الذي كان في أول الموكب الحزين رأسه في بطء، وقلب وجهه فيما حوله حتى استقر نظره على قرية فوق التل البعيد، والتفت إلى صاحبه الذي يسير في أثره وقال له: أتعرف ما هذه المدينة يا شاد بك؟

فأجاب صاحبه: هي قرية تروجة يا مولاي.

فقال له الفارس وهو مطرق: نعم، هي تروجة، آخر قرية على حدود الصحراء. اسمع نصيحتي يا صديقي واتركني لشأني واذهب أنت وهؤلاء الأصدقاء لتجدوا لأنفسكم متسعا للحياة.

فقال شاد: وهل كنا لننكث عهدنا ونغدر بك؟ إن لك في أعناقنا عهدا قطعناه على أنفسنا منذ مات الملك قانصوه الغوري شهيدا ... لقد حلفنا أن نكون جنود السلطان طومنباي أينما كان، ولن نزال جنودا لسلطان مصر حتى نسفك آخر ما بقي من دمائنا.

فأطرق طومنباي حينا ثم تنفس وقال: ما كنت أؤثر يا شاد أن تمتد بي الأيام حتى أرى نفسي طريدا مع هذه الفئة القليلة من الفرسان البسلاء، الذين جررت عليهم الشقاء معي. إنني أحس يا صديقي أن طالعا من النحس يتبعني، ولست أدري كيف ينقلب نصري خذلانا، وكيف ينفلت الأمر من يدي كما ينفلت نور الشمس من بين الأصابع. كلما ظننت أن النصر قد أقبل وأصبح في قبضة يدي، وجدت الشؤم يطاردني وصحوت على هزيمة طاحنة كأنني كنت في كابوس ثقيل.

وعاد الفارس إلى صمته وجعل ينظر نحو التل البعيد، وسار الموكب واجما يقتفي أثره صامتا، لا تسمع فيه إلا خشخشة حوافر الخيل إذ تخبط في سيرها كليلة تمتد أعناقها نحو الأرض من الإعياء. ثم لفت الفارس رأسه فجأة نحو صاحبه وقال له: أتعرف ماذا كان هذا التل من قبل يا شاد؟

فتمتم الرجل قائلا: هذه أول مرة أراه.

فكشف الفارس رأسه وأزاح اللثام عن وجهه الذي لوحته الشمس، وقال في صوت حزين: هذا التل بقية مدينة عظيمة كانت هناك في أيام القدماء، عندما كانت هذه الأرض سلسلة من البساتين الظليلة. هكذا الدنيا يا شاد، يفنى عزها ويطوى مجدها فلا يبقى منها إلا أثر مثل هذا التل القائم في الصحراء. لقد كنت أقف في مصر إلى جانب الأهرام، فأتصور الذين بنوها وما كان لهم من المجد والغنى والفن، ثم أحس قلبي يخفق كأنه يريد أن يقف ويخمد في صدري إذ أتأمل ما نحن فيه اليوم من ضعف وخمود. هذا التل يقوم في وسط الصحراء مناديا بأن الأبناء قد يرثون المجد ولا يحافظون عليه.

Неизвестная страница