54

فقال ابن الحر باسما: لقد أصبحت يا ابن أخي لا أرى. لست أرى شيئا ولا أعبأ بأن أرى.

فقال الشاب وقد أحس في جواب الشيخ شيئا من الاستخفاف: ما عهدناك إلا ذا بصر وبصيرة يا شيخ جعفي.

فأطرق الشيخ لحظة ثم قال: لقد علمت حسن رأيك يا جرير بن كريب، ولكني آثرت أن أعكف على صلاتي وأنتظر لقاء ربي.

فقال جرير في شيء من اللجاجة: عرفناك دائما مصليا كما عرفنا أنك تنتظر لقاء ربك في كل لحظة، ولكن ذلك لم يمنعك من نصرة الحق فيما مضى.

فلم يملك ابن الحر أن تبسم وقال في دفعة: الحق؟ أين الحق يا ولدي؟ إنها كلمة تتردد على الألسنة ولا يراد بها إلا غير الحق.

فتحرك القوم قلقين، وقال أحدهم في صوت أجش: أأنكرت الحق يا أبا الأشرس وقد طالما نصرته؟

فعاد ابن الحر إلى الإطراق، وانعقدت على وجهه عبسة وقال بعد قليل: وكيف أنكر الحق وقد قضيت العمر أنصره؟ ألا إني قد رأيت الناس قد صار أمرهم إلى فتنة عمياء. أما سمعتم عبد الله بن عمر صاحب الرسول يقول: «إنها فتنة، القاعد فيها خير من القائم»؟ ألا ترى ذلك يا أخا الأزد؟

فقال الرجل معبسا: إنها كلمة قالها ابن عمر ليداري بها ضعفه، وما أنت وابن عمر؟ إنه رجل لم تسبق له همة.

فتحرك ابن الحر في شيء من الامتعاض وقال: مهلا يا عمرو بن جندب. ألم يكف هذا العالم من قد وثبوا به؟ ألا يكفيك أن ترى في الشام مروان، وفي البصرة ابن الزبير، وفي فارس ابن الأزرق، وفي خراسان ابن حازم؟ أتريد أن نثب نحن كذلك على الكوفة فنزيد في الفتنة عصبة أخرى تسفك الدماء؟ ألا لقد آن لابن الحر أن يتجنب دماء المسلمين يا عمرو بن جندب. لقد أرقت من الدماء في حروبي ما أرجو أن يغفره الله لي، إذ أرقتها وأنا أحسب أني أجاهد في سبيله. ولكني أرى القتال أصبح اليوم في سبيل الدنيا وحدها. لا يا عمرو، لن أسفك بيدي هذه دما جديدا في غير قصد. وما الذي جد في أمرنا حتى نتحدث عن الثورة؟ لقد بايعت البصرة ابن الزبير، وما نحن والبصرة إلا كجناحي هذا العراق. إن في البصرة قوما لا يقلون عنا عددا، وليسوا دوننا شرفا، وما أسلموا أمرهم إلى ابن الزبير إلا بعد أن ذاقوا مرارة الفتنة فيما بينهم. ألا تعرفون ما ذاقت البصرة من الويل والخراب إذ وثبت بكر بتميم، ووثبت تميم بالأزد؟ أفتحبون أن ينزل بالكوفة ما نزل بأختها من قبل؟ هذا هو الأحنف بن قيس سيد تميم بالبصرة، وهذه بكر بن وائل مع مالك بن مسمع، وهذه الأزد مع ابن عمرو، قد اتفقوا جميعا على أن يتجنبوا القتال وبايعوا لابن الزبير، فلم لا تبايعونه وتحقنون الدماء؟

وكان ابن الحر يريد أن يستمر في حجته، لولا أن قاطعه أحد الفتيان صائحا: لقد صدقت يا ابن الحر. إنك لست ترى شيئا، ولا تعبأ أن ترى شيئا!

Неизвестная страница