وهو الذي ينبئنا في غير موضع، وفي غير كتاب بأنه يؤثر الرمز، ويصطنع الألغاز، ولا يكره التحرز بالتقية. وإذن فماذا أراد بهذا الفصل وأمثاله، وماذا أراد بهذه المفارقات التي بثها فيما ترك من شعر ونثر؟
أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأي من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطرا، وهو إنكار العلة الغائية، وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية معينة من هذه الغايات التي نعرفها نحن، ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها.
وقد صور أبيقور وصور لوكريس من بعده هذا الرأي تصويرا قويا رائعا، فليس من الحق عند الأبيقوريين أن العين خلقت ليبصر بها الناس، ثم ليحققوا بهذا الإبصار ما تعودوا أن يحققوا من أغراضهم ومآربهم، وليس من الحق أن القدمين قد خلقتا ليمشي عليهما الناس، وإنما أبصر الناس بالأعين؛ لأنها وجدت كذلك، ومشى الناس على الأقدام؛ لأنها وجدت كذلك. أو قل كما يقول لوكريس أن الأعضاء قد أوجدت غاياتها، ولم توجد هي لتحقيق هذه الغايات . وإذن فمن الكبرياء المسرفة أن يظن الإنسان أنه قد اهتدى إلى أسرار الكون، ومن الكبرياء المسرفة أيضا أن يظن الإنسان أنه الغاية من وجود العالم، وأن الطبيعة قد خلقت له، وسخرت لمنافعه وأغراضه. والحق على الإنسان أن يقتصد ويتواضع في حياته العقلية والعملية أيضا، في حياته العقلية فلا يزعم أنه قد عرف الحقائق كلها، واستكشف الأسرار كلها، ولا يزعم أن بارئ هذا الكون قد فكر كما يفكر الإنسان، وقدر كما يقدر الإنسان، وأنشأ الأشياء لأغراض يسيرة ضئيلة كهذه الأغراض التي يتصورها الإنسان.
وفي حياته العملية فلا يغلو في إكبار نفسه وفي انتحال ما ينتحل لها من السلطان على الكائنات، ولا يزعم أنه خلق ليسود الطبيعة، فيجب أن تستذل له الطبيعة كلما أراد لها إذلالا.
وليس الذي يعنيني أن يكون هذا الرأي الذي يراه الأبيقوريون ملائما أو غير ملائم لأصول الديانات السماوية، وإنما الذي يعنيني هو أن أبا العلاء قد أخذ بهذا الرأي الأبيقوري كما أخذ بغيره من آراء أبيقور. فإذا كانت قدرة الله تستطيع أن توجد العالم على غير صورته التي نعرفها، وأن تضع ملكة الإبصار في القدمين، وملكة الشم في المنكبين، وملكة السمع في اليدين، وملكة الذوق في الأذنين، وتستطيع أن تجعل سهول الأرض وجبالها في غير الأماكن التي قسمت لها، وأن تقر في السهل ما ألف الجبل، وفي الجبل ما ألف السهل، فلماذا اختارت قدرة الله هذه الصورة الواقعة دون غيرها من الصور الممكنة؟
أما أبو العلاء فجوابه يسير لا غبار عليه، وهو يوافق الأبيقوريين من ناحية، ويخالفهم من ناحية أخرى. جوابه يسير، وهو أن لله حكمة لا يفهمها الإنسان، ولا يستطيع العقل أن يبلغ كنهها.
وإذن؛ فكل ما يصل الإنسان إليه من التحليل والتعليل في أقضية العقل، وكل ما يصل الإنسان إليه من الغرور والتسلط على الأحياء والأشياء باطل لا أصل له. ليس من حق الإنسان أن يأكل الشاة؛ لأنها لم تخلق ليأكلها، ولا أن يشرب اللبن؛ لأنه لم يخلق ليشربه، ولا أن يختلس ضرب النحل؛ لأن النحل لم تجمع ضربها له، وإنما جمعته لأنفسها. وقصيدة أبي العلاء في اللزوميات صريحة واضحة في هذا كله:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فأبو العلاء هنا موافق ومخالف للأبيقوريين، يوافقهم في إنكار العلة الغائية، ويخالفهم في اعترافه بحكمة الله هذه التي لا يفهمها العقل. فالأبيقوريون - كما هو معروف - ماديون لا يعترفون بقدرة الإله على شيء من الخلق.
Неизвестная страница