وكثير مما صور أصحاب النحو والصرف من أصولهم وقواعدهم قد سلكه أبو العلاء في كتابه قصصا جميلا رائعا أو حوارا بديعا ممتعا يدور حول تمجيد الله والثناء عليه، وقل مثل ذلك في العروض والقافية، بل قل مثل ذلك في الموسيقى نفسها.
وليس تفسير أبي العلاء لفصوله وغاياته بأقل طرافة وغناء من الفصول والغايات نفسها. فما أكثر ما يشتمل هذا التفسير على كنوز لا تقوم في تاريخ اللغة العربية وعلومها وآدابها، بل في تاريخ الحياة الفنية للمسلمين بنوع خاص. ولو أني ذهبت أفصل خصائص هذا الكتاب، وما يمكن أن يستكشف فيه الباحثون من حقائق التاريخ الأدبي العربي لما فرغت من هذا الحديث، وما أشد حاجتي إلى أن أفرغ منه!
فلأقف عند طائفة من الفصول لا بد من الوقوف عندها؛ لأنها تصور نفس أبي العلاء كما نعرفها من اللزوميات، ومن الحق علي، ومن الحق لي أيضا أن أثبت هذا وأسجله، بل لعل بعض هذه الفصول يصور لنا نفس أبي العلاء خيرا مما صورتها اللزوميات.
وأول ما أثبته من ذلك هذا الفصل الذي يؤرخ لنا فيه أبو العلاء بدء حياته الفلسفية، وأظنك توافقني على أن لهذا التاريخ خطره، فسترى أن أبا العلاء لم يجلب حياته الفلسفية من بغداد، وإنما بدأها وأقام عليها في المعرة دهرا، ثم ارتحل إلى بغداد، وعاد إلى المعرة، وقد أتمها وأكملها بالعزلة. وما أكاد أشك في أنه حين ارتحل إلى بغداد حمل معه طائفة من لزومياته، ومن فصوله وغاياته.
فلنقرأ هذا الفصل قبل كل شيء: «منكراتي كمعارف الجياد، وكعوب المران، فليت شعري هل أنا مع الخطأ مصيب، سهمي في المعصية معلى الأسهم، وفرسي في حلبتها لاحق أو الوجيه، وناقتي في مراحلها وجناء الجمحي، ونجمي في ليلها الفرقد، وأنا في مضالها رافع بن عميرة، وحنيف الحناتم؟ فهل لي في الخير نصيب! رب عجل حدث عن خجل. ألا أنتظر غراب الليل ينهض، وبازي الصبح يقع، وشرقه تطلع من وراء الخباء! لكل ثمر إدراك، وليس بكل واد أراك. اصبر إن الصريف سيروب! إن الله - وله علو المكان - جعل الشر غريزة في الحيوان، فأبعدهم من الشرور أقلهم حظا في المعقول. ألا ترى الحجر الموضوع مر به العاثر، فأدمى الإبهام، ولا ذنب للحجر لكن للواضع والعاثرين؟ يا خدعة لمن تخدعين؟ لو كنت امرأة طلقتك أبين طلاق، أو أمة سرحتك سراح الكريم، أو ضائنة عبطتك لأول الطارقين! قد أخلقت الجسد فما تريدين؟ اظعني عنه لا يحمدك في الحامدين، وانزلي بالجدب أو الخصيب! ما زلت آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملا أبرق، بياضه الأيام وسواده لياليه. وهيهات! كأنني قتلت بالسنة حية عرماء! إن الزمن كثير الشرور. فلما تقضت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب، علمت أن الخير مني غير قريب. الرجل كل الرجل من آتى الزكاة ورحم المسكين، وتبرع بما لا يجب عليه، وكره الحنث، وكفر عن اليمين. لولا خشية المنقلب لكنت أحد الفائزين، يأتيني الرزق ما سعت فيه القدم، ولا عرق الجبين، وأصيب من الطيب غير حسيب. إد إلى التقوى كما يئد البعير، وبد الكافر فإنه عند الله دحير، واتئد في أمرك فإن التؤدة من رب العالمين. وإذ كانت اللحى الشيب لا تكف عن قبيح، فكن ثدا ما حييت. واعلم أن الجدث جد ليس موضعه من الكلأ بحميد. وحاسب نفسك على ما أصبت فإنك بالمحاسبة جدير، والخد المتصعر سيوضع من الأرض في أخدود. فذد الخطايا عنك كما تذاد الزرق المترنمات؛ فإن ذيادها يسير، وأرد على آمرك بغير الجميل، وزد عملك عن الخير إن وجدت المزيد. وإياك وسدا لا ضياء فيه، وشد الحسنة وثاق الطائر، ولا تأمنن أن تبين، وصد أفعال الخير، فإن صادتها ليسوا بكثير. ومت وإناؤك من الصدقة ضديد، وطد بناءك على أس، حسنك معدود، وسيئك ليس بعديد. اغد على ذكر الله، وأمس إليه، فنعم الصاحب والضجيع. وفد ناهيك عن المنكر مع المفدين، وقد نفسك إلى الواجب ولو بجرير، وكد معاديك بأن تجتنب أفعال الكائدين. ودل السائل إذا لم تعط لتكون نعم الدليل، ودم على ما قربك من الأبرار الطيبين، ودن من فعل خيرا معك فإنك مدين، وفي خالقك ود إن كنت من الوادين، وضع الأيدي عند من ذم وشكر، فإن الله رزق الشاكر والكنود، واعلم أن الحياة أخبرت عن الموت كما دل على الكلمة بالحروف هاج.»
1
ولست أفسر غريب هذا الفصل فقد فسره أبو العلاء في الفصول والغايات، فارجع إليه، ومن الخير أن تفعل، بل لعلي لم أكتب هذا الحديث إلا لأرغبك في الإلمام بهذا السجن الذي يزار فيه الشيخ. ولست أفصل ما في هذا الفصل من خصال فنية مختلفة رائعة، فقد يطول ذلك، وقد لا يتسع له وقت المعجل الذي يتهيأ لسفر قريب.
وإنما أقف عند ثلاثة أشياء سجلها أبو العلاء في هذا الفصل، ومن الخير أن تسجل في هذا الحديث للأسباب التي قد أشرت إليها آنفا.
وأول هذه الأشياء رأي أبي العلاء في أن الشر غريزة في الحيوان قد برئ منها الجماد، فالشر يدور مع الحياة وجودا وعدما، وهو يقوى كلما قوي حظ الكائن من الحياة، ويبلغ أقصاه حين يبلغ حظ الكائن من الحياة غايته، فيجمع الحس والشعور، والإرادة والعقل. وهذه الفكرة هي التي فصلتها في أول هذا الحديث، وهي شائعة في اللزوميات، وفي الفصول والغايات جميعا. والمثل الذي ضربه أو العلاء في هذا الفصل لا يخلو من دلالة، فهذا عاثر قد عثر بحجر في طريقه، فدميت أصبعه، فأيهما المسئول عن هذا الشر؟ ليس هو الحجر من غير شك، ولكنه واضع الحجر في موضعه، هذا الذي جعله عرضة لأن يؤذي من قد يمر فيعثر به، والعاثر نفسه؛ لأنه لم يتبين موضع قدمه، ولم يقدر لرجله موضعها قبل الخطو، كما يقول الشاعر القديم.
وما ينبغي أن تقف عند المعنى القريب لهذه الجملة من حديث أبي العلاء، فأبو العلاء أذكى وأعمق فلسفة من أن يقف عند هذا المعنى في تفكيره، فكن أنت من الذكاء ونفاذ البصيرة بحيث تستطيع أن تسمو معه إلى ما أراد. وأكبر الظن أن هذه الصورة المادية رمز لصور معنوية كثيرة، فما يكون في حياة الناس من شر يتصل بأجسامهم وأعمالهم، وإرادتهم، وسيرتهم بوجه عام، إنما ينحل في حقيقة الأمر إلى نوعين من أنواع التبعة: أحدهما تبعة الذي هيأ أسباب هذا الشر، وجعلها في مواضعها من حياة الناس، بحيث يعثرون بها، ويتورطون فيها. فلو لم تتهيأ هذه الأسباب لما عثر الناس ولا تورطوا، فهذه تبعة إيجابية هي تبعة خلق العالم كما هو، وفيه ما فيه من أسباب الشر.
Неизвестная страница