وأحكام الحوادث لا يقسنه
فإلى أي فكرة ذهب أبو العلاء في هذا البيت إذا لم يكن قد ذهب إلى تصوير عجز العقل عن فهم الحوادث التي تعرض للناس والأشياء، وتعليلها وتحليلها من جهة، وإلى إثبات أن هذه الحوادث التي لا تعلل ولا تحلل ولا تؤول تنتج في حياة الناس أشياء يراها العقل ظلما وجورا، فينكرها وينبو عنها؟ فالخيرات التي تنتجها الأرض، وتنتجها الحضارة كلها محصورة لا يمكن أن تتفاوت حظوظ الناس منها، إلا إذا كان الظلم مصدر هذا التفاوت، فإذا ظفر زيد بالغنى فلا بد من أن يضطر عمرو إلى الفقر. وليس من الميسور، ولا من المعقول أن يكون الناس كلهم أغنياء. وإذن فلم يستأثر زيد بالغنى، ويضطر عمرو إلى الفقر؟ وكيف السبيل إلى رفع هذا الظلم ، ووضع العدل مكانه، وتحقيق الإنصاف بين هذين الرجلين اللذين يظفر أحدهما بأكثر من حاجاته، ويحرم أحدهما أيسر هذه الحاجات؟
سبيل ذلك تحقيق المساواة من غير شك، سبيل ذلك أن يؤخذ من الغني، وأن يرد على الفقير، حتى لا تكون بينهما هذه الفروق التي تبيح لأحدهما أن يظلم الآخر، ويستعلي عليه، وتكره أحدهما الآخر على أن يبغض صاحبه، ويضمر له الضغينة والموجدة. ولكن أبا العلاء ليس صاحب إصلاح عملي، وإنما هو مفكر شاعر ناقد، يرى الشر فيدل عليه، وما أكثر ما يرى الشر! ويرى الخير فيدعو إليه، وما أندر ما يرى الخير! وهو في الوقت نفسه لا يقطع بأن الشر الذي يراه شر مطلق، وبأن الخير الذي يراه خير مطلق، هو لا يقطع، وهو من أجل ذلك، ومن أجل أشياء أخرى لا يعمل، وإنما يعتزل الناس، وينفرد عنهم، ويؤثر نفسه بالعافية، يرفض الثروة، فيبرأ من ظلم المعدمين، والاستعلاء عليهم، ويبرأ في الوقت نفسه من حقدهم عليه، وبغضهم له، ويطمئن إلى الفقر، وتستريح نفسه إليه، فلا يشعر بألم الحرمان، ولا يتعرض لهذه العواطف المؤلمة التي يثيرها الحرمان في النفوس، فهو قانع مطمئن إلى قناعته، لا يظلم الناس، ولا يرى أن الناس يظلمونه، أو هو عاف لهم عما قد ينزلون به من الظلم.
هو اشتراكي لولا أنه صاحب قناعة وزهد واعتزال للناس، وإعراض عن الحياة العاملة، وما يكون فيها من جهاد. هو اشتراكي الرأي، فلسفي السيرة، ولنقتصد مع ذلك في اللفظ وفي الحكم أيضا، فلا ينبغي أن يفهم من اشتراكية أبي العلاء ما يفهم من اشتراكية كارل ماركس، وإنما ينبغي أن يفهم من اشتراكية أبي العلاء ما يفهم من اشتراكية العصور القديمة، ومن اشتراكية الثائرين والساخطين، في القرن الثالث والرابع للهجرة بنوع خاص.
فأبو العلاء قد عرف ثورة صاحب الزنج، وعرف ثورة القرامطة، ولام صاحب الزنج كما لام زعماء القرامطة، ونعى عليهم آمالهم، ونعى عليهم فلسفتهم، ولكنه استبقى من هذه الفلسفة شيئا واحدا؛ لعله أن يكون هو الذي أنشأ هذه الفلسفة: وهو الشعور بالظلم في توزيع الثروة، والإنكار لما يكون من انقسام الناس إلى طبقات؛ الأغنياء والفقراء.
وتستطيع أن تنظر إلى هذه الأبيات التي رد فيها أبو العلاء على الشيعة، وعلى صاحب الزنج، وعلى القرامطة، فسترى أنه أنكر عليهم جميعا ما كانوا يطلبون أو يحاولون، أو ينتظرون من تحقيق العدل في الأرض. أنكر عليهم الإمام الذي كانوا ينتظرونه، ولكنه اعترف بأن الجور شيء واقع، ولا سبيل إلى الإفلات منه، وصرح بأن ليس للناس إمام يستطيعون أن يثقوا به ويطمئنوا إليه إلا العقل. ولكن العقل يستطيع أن يكشف الظلمة، وأن يجلب الرحمة بشرط أن يطاع وليس إلى طاعته سبيل؛ لأن في طبيعة الناس، وفي طبيعة الحياة ما يجعل طاعة العقل عسيرة إلا على أمثال أبي العلاء. وهذه الأبيات هي قوله:
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
Неизвестная страница