ثم أرأيت إلى فنه اللفظي في هذه القصيدة كيف استقام له واستجاب لدعائه، فلم يمتنع ولم يتمنع، ولم يلتو ولم يعوج، وإنما استجاب مسمحا طيعا، فأشاع في القصيدة هذه الجزالة الحلوة، وأشعرك مع ذلك بنفسه، وأنبأك بأنه ليس من الطاعة والاستسلام، بحيث تظن أو بحيث يظن الشيخ نفسه، وإنما هو على كل حال فن عزيز منيع لا يبلغ إلا بعد الجهد، وكل ما في الأمر أن هذا الجهد قد يكون عنيفا شاقا أحيانا، وقد يكون رفيقا هينا أحيانا أخرى.
أما أنا فقد استعذبت نغمة هذه القصيدة، واسترحت إلى صوت الشيخ وهو ينشدها، وأردت أن أستزيد من هذه المتعة، فأقمت مع الشيخ وصحبته ذات مساء، حتى إذا تقدم الليل خلوت إلى نفسي، فخلوت إلى ذكرى الشيخ، وسمعته ينشد قصيدة أخرى ليست أقل جمالا وروعة من هذه القصيدة، ولكنها أطول منها، وأسرع سعيا إلى النفس، وأعذب موقعا فيها، ولا بد من أن أحمل إليك صدى إنشاد الشيخ لهذه القصيدة الرائعة.
وأيسر ما أحمله إليك من هذا الصدى ترديد لمقطوعات من هذه القصيدة، وتصوير لبعض الآراء التي نثرها الشيخ في هذه الأبيات.
وقد التزم الشيخ في القصيدة هاء السكت، والتزم معها النون والسين، وظهر لالتزامه هذا أثر واضح في الفن اللفظي؛ فقد تحكمت القافية أحيانا، ولكنها تحكمت في سماحة وعذوبة، وفي شيء من الدل والتيه، واستجابت بعد هذا التحكم، فكانت استجابتها حلوة شائقة مرضية لحاجات النفس، ونزعات العقل جميعا، ومطلع هذه القصيدة قول أبي العلاء:
تهاون بالظنون وما حدسنه
ولا تخش الظباء متى كنسنه
ولكن لنمر مسرعين بهذا البيت وبالأبيات التي تأتي بعده، والتي يصور فيها أبو العلاء عبث الزمان بالناس والأحداث على نحو ما يفعل في كثير من شعره ونثره، وينهى فيها عن الكلف بالغانيات، ويفتن في وصفهن وصفا يصد عنهن، ولنقف عند هذه الأبيات:
تشابهت الخلائق والبرايا
وإن مازتهم صور ركسنه
وجرم في الحقيقة مثل جمر
Неизвестная страница