ولكن أبا العلاء معذور بعض العذر فيما تورط فيه ودفع إليه، فقد كان مضطرا إلى أن يعيش في بيئته التي عاش فيها، وإلى أن يشارك هذه البيئة فيما كانت قد دفعت إليه من ألوان الجدل في الدين والفلسفة، فهو إذن مضطر إلى أن يثبت وينفي، وإلى أن يعرف وينكر، وإلى أن يقبل ويرفض. وليس هو الذي ابتكر هذه المشكلات التي عرضت له أو عرض لها، وإنما أقبل إلى الحياة وبلغ الشباب، فوجد هذه المشكلات قد وضعت موضع البحث من أقدم العصور، وكثر فيها الاختلاف، واشتد فيها الأخذ والرد، ونشأ عن ذلك شر عظيم في حياة الناس، وفساد منكر في أمورهم، فلم يكن له بد من أن يستعرض ما استعرض الناس من قبله، ويستقبل ما استقبلوا، ويقول فيه مثل ما قالوا أو غير ما قالوا. وقد فعل، وانتهى به هذا كله إلى هذه الحيرة المؤلمة المهلكة، ومن يدري إلى أي حال كان يصير أبو العلاء لو أنه نشأ في بيئة بريئة لم تعرض لها هذه المشكلات، ولم تدفع إلى ما دفعت إليه بيئة أبي العلاء من ألوان الجدل؟
ولكن هذا سؤال لا يغني ولا يفيد، فأنت تستطيع أن تلقيه بالقياس إلى كل مفكر تأثر بما وجد في بيئته من المشكلات القديمة أو الطارئة، وبالقياس إلى كل إنسان من رجال التفكير أو من رجال العمل دفعته بيئته إلى أن يفكر أو إلى أن يعمل. وهذا السؤال ظريف حله يتيح لمن يلقيه أن يذهب في الفرض مذاهب لا تحصى، ولكنه لا ينتهي آخر الأمر إلى شيء.
فلنأخذ أبا العلاء كما هو، كما أرادت فطرته وبيئته وظروفه أن يكون، ولنرث له من هذا البؤس الملح، وهذه الحيرة المضنية، ولنستمتع بهذه اللذة الحلوة المرة التي نجدها عندما نسمع صوته المشرق الحزين ينشر هذا الشعر، الذي إن صور شيئا فإنما يصور رجولة قوية، ومروءة صادقة، وقلبا رحيما، وعقلا ذكيا نافذا، وشكا مهما يعنف فهو لا ينتهي بصاحبه إلى هذا التمرد الوقح الذي نجده عند كثير من الذين أسرفوا في الثقة بعقولهم، وإنما ينتهي به إلى الخوف والإشفاق، والغلو في الحذر، والاحتياط للنفس، والاجتهاد في الخير، ولا ينتهي به إلى هذه السخرية اللاذعة التي تقطع الأمل على كل آمل، والقول على كل قائل، وإنما تنتهي به أحيانا إلى سخرية رفيقة باسمة، لا تقطع على مخالفيه أسباب التفكير، بلا لا تقطع عليهم أسباب محاورته، والرد عليه.
نعم، يجب أن نعذر أبا العلاء، فنلاحظ ما أغرق فيه الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والمتصوفون والمجادلون عن الفرق السياسية، باللسان أحيانا، وبالسيف أحيانا أخرى، من ألوان التأويل والتعليل والتضليل، وأن نلاحظ أنه وقد فطر كما فطر ذكي القلب، قوي العقل، مرهف الحس، دقيق الشعور، لم يكن يستطيع أن يلقى هذا كله غير حافل به، ولا ملتفت إليه، أو أن يمر بهذا كله ساخرا منه، وعابثا به كما فعل بشار وأبو نواس. وإنما فكر الرجل فشقي بتفكيره. وحسبه أن شقاءه بالتفكير لم يدفعه إلى أكثر من أن يشتد على نفسه، ويأخذها بما أخذها به من العنف، ويدفعها إلى ما دفعها إليه من النسك، ويصرف شرها عن الناس، ولا يمنح الناس من آثارها إلى ما يدعوهم إلى الروية والتفكير، ويثير في نفوسهم اللذة والمتاع.
واقرأ هذه الأبيات التي تصور يأسه من إسراف المؤولين فيما أولوا، ومن إسراف المعللين فيما عللوا ، ومن إسراف الفقهاء وأصحاب الكلام فيما حاولوا من ألوان التوفيق والتفريق، ثم انظر إلى البيت الأخير منها فسترى يأسا مهلكا، ولكنه لا يثير في النفس ثورة، ولا يدفعها إلى جموح، وإنما هو منته بها إلى الرضا والإذعان:
وقد كذب الذي يغدو بعقل
لتصحيح الشروع إذا مرضنه
هي الأشباح كالأسماء يجري ال
قضاء فيرتفعن وينخفضنه
وتلك غمائم الدنيا اللواتي
Неизвестная страница