واقرأ معي هذه القصيدة التي حقق فيها أبو العلاء هذه الحرية تحقيقا حسنا، فلم يضق بلفظ، ولم يضق بمعنى، ولم يضق بأسلوب؛ وإنما فرغ لفنه، وفرغ فنه له، وفرغ لفلسفته، وفرغت فلسفته له، وفرغت أنت له وللفلسفة وللفن، تسمع وتنظر، وتستمتع وتذوق، لا تجد في ذلك عنفا ولا عسرا.
اقرأ معي هذه القصيدة فستجد هذه اللذة الفنية الممتازة التي تأتي من هذه الملاءمة الرائعة بين الحرية والتقييد، وبين السجن والإطلاق. فأنت لن تخلص من التزام حرفين بل ثلاثة أحرف، فالقيد ملحوظ دائما، ولكنه قيد خفيف لا يعوقك عن الخطو، بل لا يعوقك عن السعي، بل لا يعوقك عن العدو، لا يعوقك عن شيء من هذا، ولكنه يشعرك بنفسه، ويشعرك بهذه اللذة التي يجدها من يجري وهو مقيد برغم القيد، ومن ينهض وهو مثقل برغم العبء الذي يحمله.
اقرأ معي هذه القصيدة فسترى أن الفن قد واتى فيها أبا العلاء مواتاة حسنة حقا، لم يشغله قيده عن العناية بما عداه مما يجمل به اللفظ، ويصح به المعنى، ويعتدل به الأسلوب. وإلام أراد أبو العلاء في هذه القصيدة؟ إلى ما تعود أن يريد إليه في أكثر قصائد اللزوميات ومقطوعاتها؟ إلى ما قرأته ألف مرة ومرة منذ بدأت في قراءة اللزوميات إلى أن انتهيت إلى هذه القصيدة في آخر الديوان؟ فنحن في النون المفتوحة إلى هذه الفلسفة المظلمة المضيئة، القاتمة الباسمة التي ينعى فيها الشباب، وتقطع أسبابه، وتقطع أسباب اللذة والأمل مع أسباب الشباب والقوة، والتي يأمر فيها بالإذعان والاستسلام لحكم الأيام ما دامت الآمال لا تواتى، وأسباب الأماني لا تتصل، والتي يأمر فيها بالاحتياط للمستقبل الذي يكون بعد الموت، أو الذي لا يكون لأنه مجهول، فالخير أن يحتاط له الرجل العاقل، وأن يدخر له ما وسعه الادخار من صالح الأعمال، أو مما يرى أنه من صالح الأعمال.
فأبو العلاء ينهى عن طائفة من الآثام، ويأمر بطائفة من الحسنات، حتى إذا فرغ من النهي والأمر عاد إلى ما بدأ به من الشك الذي ينتهي بصاحبه إلى اليأس والقنوط، ولكنه يأس حلو، وقنوط سائغ لا تجد فيه مرارة لاذعة، ولا ينتهي بك إلى جزع مهلك، وإنما هو منته بك إلى الأناة التي يمازجها الرضى، وإلى الهدوء الذي يشيع فيه الإذعان، وإلى هذه الحال النفسية الممتازة التي ينظر فيها الفيلسوف إلى الحياة وأحداثها وأهوائها وآمالها نظرة فاترة شاحبة، تصحبها ابتسامة ساخرة، فيها كثير من الازدراء الحلو المريح.
اقرأ معي هذه الأبيات، وحدثني عن هذه الجزالة التي تشيع فيها وفي القصيدة كلها، والتي تأتي من التزام ما لا يلزم قبل أن تأتي من أي شيء آخر، فهاء السكت هذه التي التزمها أبو العلاء في آخر كل بيت بعد هذه النون المفتوحة، وبعد هذه الضاد الساكنة، تمنح البيت قوة معتدلة، هي الجزالة بنفسها، ضخامة في الضاد، ثم خفة في النون، ثم حلاوة في هذه الهاء الساكنة التي قلما يلجأ إليها الشعراء، والتي تشيع في الشعر وفي النثر حلاوة وظرفا حيثما وجدت. وما أبعد أن أبا العلاء قد ذكر ظرف عبيد الله بن قيس الرقيات في قصيدتيه المشهورتين:
بكرت علي عواذلي
يلحينني وألومهنه
و:
ذهب الصبا وتركت غيتيه
ورأى الغواني شيب لمتيه
Неизвестная страница