وإذا قال قائل: إنه قد هجا الناس جميعا، ولم يعف الأنبياء من هجائه فهو صادق؛ لأن أبا العلاء قد نقد الناس جميعا ومنهم الأنبياء نقدا لا يريد به الشر، ولكنه لا يخلو من الحدة التي تبلغ أقصى العنف أحيانا. وماذا تريد أن أقول وأبو العلاء قد أثنى على الله أحسن الثناء وأطيبه وأبقاه في اللزوميات كلها، ولكنه مع ذلك لم يتحرج من مخاصمة الله أحيانا في الجبر والتكليف، وفي العقاب والثواب، ثم انتهى به الأمر إلى أن يعترف بأنه إذا تأله فإنما يتأله خوفا وإشفاقا، وذلك حيث يقول:
خلقت من الدنيا وعشت كأهلها
أجد كما جدوا وألهو كما لهوا
وأشهد أني بالقضاء حللتها
وأرحل عنها خائفا أتأله
وجملة القول أني أقمت معك أيها الشيخ الكريم بضعة عشر يوما في سجنك المظلم الكئيب، فحمدت هذه الإقامة؛ لأني وجدت فيها لذة عقلية ممتازة، وألما عقليا ممضا، ولأني رحمتك وأشفقت عليك من كل ما وجدت في سجنك من لذة وألم، ولو استطعت لأطلت الإقامة معك، فإني لم أرض حاجتي من جوارك بعد، وما أظن أني سأرضيها في يوم من الأيام. وما أعرف أن شيئا من الأشياء أحب إلي وآثر عندي من التحدث إليك والاستماع منك والحديث عنك، ولكني مضطر الآن إلى أن أودعك راغما.
فقد تقدم الليل، وإذا أشرقت شمس الغد فلا بد من الرحلة إلى باريس، وأنت لا تعرف ما باريس، وما أظنها كانت قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد. أما أنا؛ فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم، وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك. وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه. ومن يدري؟ لعلي أسأم لذات باريس فأفزع منها إليك من حين إلى حين. فليكن وداعي لك الآن موقوتا، ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق. إلى اللقاء.
مورزين
3 أغسطس-17 أغسطس 1938
هوامش
Неизвестная страница