Научные и социальные обсуждения
مباحث علمية واجتماعية
Жанры
أما العلوم الأدبية فواسعة جدا، ويدخل تحتها علوم اللغة، لا من حيث وضعها ونشؤها؛ فإن ذلك من المباحث الطبيعية الحسنة والمهملة في المدارس، بل من حيث تعليلها. والمنطق والفلسفة العقلية، وعلم الآداب والسياسة واللاهوت، إلى غير ذلك من اجتهادات العقل وأوضاعه، ففيها كثير من المبادئ التي يدخلونها في رءوس التلامذة قسرا كأنها قضايا مسلمة، وكثير منها ما يكون مغلوطا. ويربون العقل عليها حتى يفقد ما له من القوى الذاتية، ويصبح كأنه مصنوع على قالب معلوم، وناهيك بهذا المصنوع المبني على المغلوط. وبعد أن يصنعوه على هذه الصورة يفرغون فيه العلوم، حيث تبقى فيه عقيمة أو تظهر بمظاهر متناقضة؛ ولذلك كان أكثر الذين يقيمون في هذه المدارس زمانا طويلا، ويدرسون دروسها القانونية، يخرجون منها متعلمين كثيرا، ولكن فاقدين كل امتياز ذاتي في عقولهم. وأكثر الناس الذين امتازوا بخاصة ذاتية في عقولهم هم من الذين لم تسمح لهم الأحوال، إما لمرض وإما لسبب آخر، باتباع هذه الدروس القانونية على النسق المعول عليه في أكثر المدارس، ونجوا بذلك من الوقوع تحت سلطان هذه التربية العقلية.
فالمدارس لا يجوز لها أن تضغط على العقول لتصنعها على قالب معلوم، وتضيق عليها المذاهب، بل يلزم لها أن تعدها إعدادا عاما، وتوسع لها المنافذ حتى يسهل عليها التصرف في العلوم التي تعلمها، والبحث في جميع الأشياء التي تعرض لها.
وبين المدارس الموجودة بيننا فرق عظيم في ذلك، وأفضلها ما هجر الخطة الأولى، وكان أقرب إلى الخطة الثانية. والفرق بين تلامذة المدرستين واضح، وأرجحية الجانب الواحد لا تحتاج إلى بيان، ولو كانت حكومات المشرق من الحكومات المرتقية لاهتمت بهذا الأمر جدا على الأسلوب الذي ألمعنا إليه، والذي يحتاج بسطه إلى تفصيل طويل.
ولو كنت ناظرا للمعارف - لا أقول ذلك من باب التمني - لأكثرت التردد على المدارس، لا في الحفلات الرسمية للأكل والشرب والطرب على نغم الموسيقى، واستماع خطب المدح الباردة، ومبادلة العبارات الفارغة، بل للوقوف على أحوال التلامذة في أدق أمورهم؛ في مائهم وهوائهم وغذائهم ونظافتهم ومطبخهم وأسرتهم وملابسهم، فضلا عن طريقة تعليمهم، بل للوقوف على حال المعلمين من ذلك أيضا؛ فإني أذكر أن معلما من معلمي المدارس الكبرى حضر مرة للتداوي عندي، فلما كشفت لباسه الأسود كدت أتقيأ ما في معدتي من شدة سواد قميصه لشدة قذارته، فكيف يرجى ممن هو بهذه القذارة في جسمه أن يكون أنظف من ذلك في عقله، وأن يكون مرشدا لهؤلاء الأطفال إلى ما يصح به جسمهم ويذكو عقلهم وتسمو آدابهم؟
ولا ريب أن بعض المدارس أصلح من البعض الآخر في هذه الأمور، وأن كثيرا منها اصطلح جدا عما كان عليه من عشرين سنة، خصوصا في أوروبا، إلا أن البعض الآخر لم يزل كما كان عليه من عهد أربعين أو خمسين سنة، خصوصا في سوريا ومصر من البلاد التي يهمنا التعليم فيها. والإصلاح الذي حصل في المدارس في النصف الثاني من هذا القرن هو في جملته دون الممكن ودون المطلوب، خصوصا إذا قسناه بالإصلاح الذي حصل في المستشفيات والفنادق. ولا ندري كيف تصبر الهيئة الاجتماعية والحكومات المتمدنة على ذلك مع علمها أن هؤلاء الأطفال هم رجال الغد؟ فعلى صحة أبدانهم يتوقف نماء الأمة، وعلى صحة عقولهم يتوقف نجاحها.
وإهمال الرحمة بالأطفال بالغ الغاية القصوى في بلاد المشرق، وإذا ألقينا نظرنا إلى الأطفال في هذه البلاد خصوصا، ضاق علينا قاموس اللغة لوجود ألفاظ تعبر عما يجيش في النفس من الاحتقار لرجال الأحكام ولهيئة البلاد نفسها، ولا سيما بعد أن عدوا أنفسهم في عداد الحكومات والأمم المتمدنة يتقلدون كأنهم لا يعقلون، فيؤلفون الجمعيات للرفق بالحيوان، كأنهم استوفوا ما يلزم لنوع الإنسان، مع أن الحاجة إلى إقامة الجمعيات للرفق بالأطفال خصوصا في هذه البلاد أشد وأولى. فلا نظن أن العاهات التي تشوه الأبدان، والوفيات التي تذهب بالأرواح، بالغة في بلاد مبلغها في هذه البلاد. فالرفق بهؤلاء الأطفال من أول واجبات الأمة وواجبات الحكومة إذا كانتا تريدان أن تعملا عملا معقولا مشكورا، ولا أقل من أن تنشئ لهم المستشفيات الكافية.
ولا تستغرب أيها القارئ إذا قلت لك إن في كل من تركيا ومصر لا يوجد مستشفى واحد للأطفال؛ فالحكومة تعتذر من عدم وجود المال (إلا إذا شاءت)، وغالب أغنياء الأمة ليس فيهم من يفهم قوة هذه الأعمال؛ لجهلهم وقلة عقلهم، مع أن الذي أنفقته حكومة تركيا ومصر على سياحة إمبراطور غني، كان في إمكانه أن يسوح على نفقته وما تنفقه الأمة من وقت إلى آخر على الاحتفالات الصبيانية البليدة كان وحده يكفي لإنشاء مستشفيات تأوي فيها أطفال البلدتين معا.
والمضحك المبكي أن الحكومة والأمة اللتين لا تهتزان لهذا الأمر الجلل تنتفض أعصابهما رعبا لعمل مشجوب، يأتيه بعض الرعاع من وقت إلى وقت آخر بعيد، كالإيقاع بعظيم يسهل تعويضه لهوس تسهل مداواته، ويأس تسهل ملافاته، فتقوم قيامتهما، وتبثان العيون والأرصاد، وتأخذان البريء بجريرة المذنب، كأن القيامة قد قامت ويوم الحشر قد دنا. وأغرب من ذلك أن هذه الغيرة قد امتدت إلى جرائدنا في هذه الأيام، فقامت تجسم الأوهام، وتؤكد المزعوم، وتحذر وتندد وتنبه رجال الأحكام إلى خوف بعيد عنها قريب منهم. كأنهم أحرص منهم على حياتهم، وأشد استمساكا منهم بنظاماتهم، مع بعدها عن امتيازاتهم، منادية بالويل والثبور، ذارة الرماد على مسترسل سطورها، كأنها خافت على قصور أصحابها أن تنسف ، وأموالهم أن تسلب، وأرواحهم أن تنهب، وهم منها أفرغ من فؤاد أم موسى، حتى أرواحهم لم يبقوا على استقلالها مدفوعة بعوامل لا يصح أن تسمى الانعطاف؛ لأن هذه الحاسة النبيلة كثيرا ما تخونها في حوادث أشد من أعمال الفوضويين ضررا، وأكثر منه مساسا بهم، فكم نرى الحاكم الواحد يضحي مئات الألوف من النفوس والملايين من الأموال على مذابح الطمع والجهل، ولا تنبس ببنت شفة، فلو كانت هذه الحاسة الشريفة هي التي تدفعها إلى ذلك، لوجب أن تظهر فيها على نفس النسبة، وحينئذ لملأت العالم ضجيجا وعجيجا، فالحكمة تقضي في مثل ذلك أن يبحث عن السبب لملافاته من أصله. فالفوضوية والاشتراكية وكل الجمعيات المقاومة للنظام الحالي، بقطع النظر عن كونها صالحة أو غير صالحة، دليل على أن الهيئة الاجتماعية تشعر بتعب موجود حقيقة تقصر النظامات الحاضرة عن تداركه، فإصلاح هذه النظامات لإزالة هذه الأسباب أحق وأولى. وما إهمال تربية الأطفال الذين فيهم بحثنا من جانب هذه الهيئة والنظامات إلا سبب واحد من أسباب كثيرة اجتماعية داعية إلى تأفف الهيئة الاجتماعية.
فلعل جرائدنا تجد في هذا الموضوع ما يشغلها البحث فيه أشهرا وسنين فتفيد وتستفيد، وخصوصا نحن الشرقيين الذين نشعر بثقل وطأة الأجنبي، ونحاول التخلص منه؛ فهذا لا يتم لنا إلا إذا وجهنا كل قوانا إلى الاعتناء بأطفالنا الذين هم رجال الغد حتى نستطيع أن نناظر بهم من هم أرقى منا، وحتى لا نبقى بهم كما قال الشاعر:
صبياننا في القبح مثل شيوخنا
Неизвестная страница