بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
الحمد لله الذي أرسل جود جوده على الأنام فهمي وخلق الإنسان وكلفه ليكون بكمالات نفسه الناطقة قيمًا، وابدع إذ أطلع في سماء ذاته من شرائف صفاته انجما، وغاير بين حركات الحيوانات فمكبوب، ومنساب، وسابح وطائر بالجناح سما، ومنح كلًا منها الهاما يقرطس غرض المرام سهمه متى رمى، وأقامه فيها مقام العقل الغريزي الذي نبل به قدر المرء ونمى، والصلاة على سيدنا محمد أشرف خلق ولج القول سمعه، وشق له اللسان فما وعلى آله وصحبه ما أضاف الخالق في تركيب البدن إلى اللحم دمًا.
وبعد: فهذا الفن الثالث من الفنون التي دعت النفس إلى جمعها أحاديث أمانيها ولجأت إلى الانقياد بوضعها من وساوس أغراض تعانيها قصرته على ذكر الحيوان بجملة أنواعه وما اشتمل عليه كل ذي روح من أخلاقه وطباعه ولم التفت إلى ما تحدث عن استعمال شيء منها من النفع والضر، ولا إلى ما ذكرته الأطباء من تشريح أعضاء الصور وذلك موضوع لهم في كتب مروية عدت باختلاف الأسماء والنعوت معنونة فمتى أرادت الافهام إستفصاحًا عن أسراره واستصباحًا من أشعة أنواره فسبيلها إلى تعرف مقصودها منه، مقسوم إلى تسعة أبواب جعلتها معربة عنه: الباب الأول: " في ذكر خصائص نوع الإنسان " الباب الثاني: " في ذكر طبائع ذي الناب والظفر " الباب الثالث: " في ذكر طبائع الحيوان المتوحش " الباب الرابع: " في ذكر طبائع الحيوان الأهلي " الباب الخامس: " في ذكر طبائع الحشرات والهوام " الباب السادس: " في ذكر طبائع سباع الطير " الباب السابع: " في ذكر بغاث خشاش الطير " الباب الثامن: " في ذكر طبائع الطير الليلي والهمج " الباب التاسع: " في ذكر طبائع البحر والمشترك " وهنا أنا ابتدي قاصدًا إن شاء الله تعالى سواء السبيل مستعينًا بالله تعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل.
مما يكون فاتحة الكتاب.
الباب الأول
وهو القول في بيان شرف الإنسان على سائر المخلوقات
قال الله تعالى:) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا (. فعلم بهذه الآية أن الإنسان صفوة العالم وخلاصته وسلالته، وخاصته، ونخبته، وثمرته، وزبدته فمن أدوات التكريم فيه قول الله تعالى:) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه (ومن خلقت من أجله، وسببه جميع المخلوقات علويها وسفليها، خليق بأن يرفل في ثياب الفخر على من تعداه، وتمتد إلى اقتطاف زهرات النجوم يداه ومنها أنه واسطة بين شريف وهو الملائكة، ووضيع وهو الحيوان ولأجل ذلك، جمع فيه قوى العاملين، وأهل لسكنى الدارين، فهو كالحيوان في الشهوة والغذاء، وكالملائكة في العلم، والعقل، والعبادات، ووجه الحكمة فيه أنه تعالى لما رشحه لعبادته وخلافته في عمارة أرضه وهيأة مع ذلك لمجاورته في جنته ودار كرامته، جمع فيه القوتين، فإنه لو كان كالبهيمة معرى عن العقل لما صلح لخلافة الله تعالى، وعبادته، ومجاورته في جنته كما لم تصلح البهائم، ولو خلق كالملائكة معرى عن الحاجة البدنية لم يصلح لعمارة أرضه كما لم تصلح الملائكة لذلك.
ومنها أنه خصه برتبة النبوة، واقتضت الحكمة الإلهية أن تكون شجرة النبوة صنفًا مفردًا ونوعًا واقعًا بين الإنسان والملك، ومشاركًا لكل واحد منهما على وجه فإنه كالملائكة في الاطلاع على ملكوت السماوات والأرض، وكالبشر في أحوال المطعم والمشرب ومثله واقعًا بين نوعين، مثل المرجان مكونه شبيهًا للنبات والمعدن فإنه بما فيه من الحجرية يشبه المعدن، وبما فيه من النمو وتشذب الأغصان يشبه النبات ومنها أنه إذا طهر من نجاسته النفسية، وقاذوراته البدنية جعل في جوار الله تعالى يكون حينئذ أفضل من الملائكة لقوله تعالى) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (وفي الحديث) الملائكة خدم أهل الجنة (.
القول في مبدأ خلق الإنسان
قال أصحاب النظر في أسباب حدوث الموجودات: إن الحكمة اقتضت إن تكون المخلوقات أربعة أقسام: قسم له عقل ولا شهوة له.
قسم له شهوة ولا عقل له.
وقسم له عقل وشهوة.
وقسم لا عقل ولا شهوة.
1 / 1
فسبق إيجاد ما له عقل، وليس له شهوة، وهو الملائكة، وما له شهوة ولا عقل له، وهو كل الحيوان خلا الإنسان، وما ليس له شهوة ولا عقل وهو الجماد وبقي من الأقسام الأربعة قسم، وهو الذي له عقل وشهوة فأوجدت القدرة التامة والمشيئة الكاملة، نوع الإنسان وتممت به الأقسام التي كانت في ضمان الإمكان، فإن رجحت شهوته على عقله التحق بالبهائم، وإن رجح عقله على شهوته التحق بالملائكة وقال آخر: جزوى الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس هوى، والإنسان بجمع الكل ابتلاء، فإن غلب الروح على النفس والهوى فضلته البهائم.
وذهب بعض الإخباريين في سبب إيجاد الإنسان الأول وهو آدم ﵇ إن الله تعالى خلق السماوات وعمرها بالملائكة، وخلق الأرض وعمرها بالجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فبعث الله تعالى لمحاربتهم جندًا من السماء فاجتاحوهم قتلًا وأسرًا إلا القليل ممن سكن الجزائر، وأعماق البحر فكان فيمن أسر) عزازيل (، وهو إبليس فلما خلت بقاع الأرض من الجن ولم يبق فيها إلا الدواب، شاء الله تعالى أن يخلق من بعدهم فيها من يعبده ويوحده وذلك لا يتأتى إلا ممن له وعقل فبعث الله تعالى إلى الأرض ملكًا يقال له جبريل ﵇ ليأخذ من ترابها ما يخلق منه خلقًا يعمرها به فناشدته الله تعالى في ذلك خوفًا أن يخلق منها ما يعصيه، فتركها، وصعد، فانزل الله تعالى ملكًا يقال له عزرائيل، فسألته في ذلك فقال: لا أعصي أمر ربي فأخذ من سهلها وحزنها وطيبها، وخبيثها، وأحمرها، وأسودها، ثم صعد به فخلق الله من ذلك بشرا عجن طينته بيده، وخمرها أربعين سنة، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وسماه آدم لأجل أنه خلق من أديم الأرض أي من وجهها، وكان خلقه لمضي أحد عشر ساعة من يوم الجمعة وأهبط إلى الأرض عند انقضاء اليوم فكان لبثه في الجنة إلى حين خروجه منها ساعة واحدة من أيام الآخرة، مقدارها ثلاث وثمانون سنة وثلاثة أشهر من سني الدنيا، ويقول الناس في خرافاتهم: إن آدم ﵇ لما هبط إلى الأرض اجتمعت الطير والهوام، والوحوش، والحشرات، وانطلقت إلى الضب وكان قاضيها حينئذ، فذكرت له حال الإنسان ووصفته بصفته فقال: أراكم تصفون خلقًا ينزل الطير من السماء، ويخرج الحوت من الماء، فمن كان ذا جناح فليطر، ومن كان ذا مخلب فليحتفز، وتزعم اليهود في التوراة: إن الله تعالى فرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، وقال هذا يوم راحة ودعة، تعالى الله أن يمسه فيما خلق لغوب ونصب، وهل ذلك إلا حالة من جبل جسمه من لحم وعصب، ولم يكفهم كفرهم حتى وصفوا هيئة الاستراحة بصفة هي عين التجسيم وركبوا في حكايتها الخطر العظيم، والهول الجسيم.
فصل
وخلق الإنسان على أربعة أضرب
إنسان من غير أب ولا أم، وإنسان من أب لا غير، وإنسان من أم لا غير، وإنسان من أب وأم.
الضرب الأول:
1 / 2
إنسان من غير أب ولا أم وهو آدم ﵇ خلقه من تراب، وركب فيه روحا مؤيدا بالعقل ليقارن في العبادة من جعلت السماء مركزًا له وهم الملائكة، ونفسا متسلطة بالشهوة ليقارن في التناسل من جعلت الأرض مركزا له وهم الحيوانات، ومبدأ خلقه أن الله تعالى لما أراد إبرازه من العدم إلى الوجود، وامتحان إبليس له بالسجود قلبه في سنة أطوار، طور التراب وهو قوله تعالى:) ومن آياته أن خلقكم من تراب إذا أنتم بشر تنتشرون (وطور الحمأ وذلك قوله تعالى:) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون (، وهذا الكلام يقتضي التقديم والتأخير، لأن الطين لا يكون صلصالا إلا بعد أن يكون حمأ، يقتضي ذلك، قال الزمخشري معناه) من صلصال كائن من حمأ (فيكون صفة لصلصال، وطور الطين اللازب وذلك قوله تعالى:) فاستفتهم أهم أشد خلقا من خلقنا، إنا خلقناهم من طين لازب (، وطور الصلصال وذلك قوله تعالى:) خلق الإنسان من صلصال كالفخار (، ولما كان في هذا الطور كان إبليس إذا مر به، وقف ليتأمله، وفي رواية يركذه برجله، ويقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ويقال كان يدخل من فيه، ويخرج من دبره لأنه كان أجوف، وطور التسوية وهو جعل الخزفة التي هي الصلصال عظما ولحما ودما، وإنما كانت الأطوار على هذا الترتيب لأن التراب الذي هو المبدأ الأول كان متفرق الأجزاء فجبل بالماء حتى اجتمعت أجزاؤه، فصار حمأ مسنونا أي طينا مائعا متغير الرائحة إذ من عادة الماء إذا خالطه شيء غير لونه وطعمه وريحه لا سيما إذا كان ما خالطه ترابا، ثم ترك الحمأ برهة حتى نقصت رطوبته، واشتد فصار طينا وهو المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة، واللازب الذي يلصق بما لامسه، وهو اللازم أيضا، وفي هذا الطور كان تخطيط الصورة وتشكيلها، وتقدير أعضائها، وتفصيلها، ثم ترك الطين حينا صار صلصالا كالفخار، وهو الطين الذي أصبح خزفا وترك حتى جف وسمعت له صلصلة، أي صوت كما يسمع للفخار إذا طبخ بالنار، ثم كانت التسوية وهي إحالة هذه الخزفة إلى جسم حيواني يصلح مسكنا للروح الروحاني وكل طور من هذه الأطوار على ما حكاه ابن منده، أربعون سنة فيكون مجموع كونه حمأ مسنونا إلى أن صار طينا لازبا، إلى أن صار صلصالا كالفخار ثم إلى سوي مائة وعشرون سنة من سني الدنيا، ثم نفخ فيه الروح فصار حيا ناطقا وقال علي ﵇، مشيرا إلى ما أودع جسد آدم ﵇ من أسرار التخليق: جمع سبحانه من حزن الأرض، وسهلها وعذبها، وسبخها تربة شنها بالماء حتى اختلطت، ولاطها بالبلة حتى لزبت فجبل منها صورة ذات احناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمعها حتى استمسكت، وأجلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأجل محدود ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يتخيلها وفكر يتصرف فيها، وجوارح يختدمها وأدوات تقلبها، فيعرف بها الأذواق والمشام والألوان، والأنواع والأجناس، وبهذا الاعتبار تكون تمام الحكمة الآلهية في تخليق الإنسان أظهر مما في سائر المخلوقات، لأنه خلقه من ضدين متباينين، وجوهرين متغايرين، وذلك أن الروح علوي، والبدن سفلي والعلوي والسفلي ضدان، والروح نوراني، والجسد ظلماني والنور والظلمة ضدان " والروح لطيف والبدن كثيف واللطافة والكثافة ضدان " والروح سماوي والبدن أرضي، والسماوي والأرضي ضدان، ويستظرف قول أبي إسحاق الصابي في معنى هذا:
جملة الإنسان جيفة ... وهيولاه سخيفة
فبماذا ليت شعري ... قبل النفس الشريفة
إنما ذلك فيه ... حكمة الله اللطيفة
وقال آخر:
من أين للطين القيام بنفسه ... أو أين للفخار أن يتكلما
لو لم يكن روح الحياة تمده ... ما كان من أسمائه يتعلما
وقال آخر:
لم يكن الون غير نكر ... سلافة الكرم عرفته
فآدم أصله تراب ... ونفخة الروح شرفته
الضرب الثاني
1 / 3
إنسان خلق من أب لا غير وهي حواء ﵍، ويذكر الاخباريون في مبدأ خلقها أن آدم ﵇ نام في الجنة، ثم استيقظ فرأى حواء إلى جانبه فقال: يا رب ما هذه؟ قال: زوجك تسكن إليها خلقتها من ضلعك القصراء التي في جانبك الأيسر، ولهذا يوجد عدد أضلاع الجانب الأيمن في الرجل اثنا عشر وعدد أضلاع الجانب الأيسر أحد عشر، وقد خرج البخاري في صحيحه مصداق ما ذكر أن النبي ﷺ قال:) استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضل وإن أعلى الضلع أعوج وإنك إن قومته كسرته، وإن تركته استمتع به على عوج فيه (.
الضرب الثالث: إنسان من أم لا غير وهو عيسى ﵇ قال الله تعالى) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب (. ذهب بعض المفسرين للكتاب العزيز أن الله تعالى لما خلق آدم، بقي من التراب الذي خلقه منه جزء، وقال آخرون لما تم خلقه عطس فسقط من أنفه تراب فلما أراد خلق عيسى ﵇ بعث جبريل إلى مريم ﵍ فنفخ ذلك التراب في فرجها، وهو جيب درعها أو ذيلها، فحملت بعيسى من ساعتها، وجاءها المخاض إلى جذع النخلة فوضعته عندها، وهذه السرعة في الحمل والوضع نتيجة قوله تعالى:) كن فيكون (، والمستقبل في موضع الحال، وقيل في مدة الحمل ثمانية أشهر ولا يمكن هذا الحمل لغيره لأنه لا يعيش ولد لثمانية، وقيل سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر، وقيل ثلاث ساعات حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وقال ابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته نبذته، وقيل حملته وهي بنت ثلاث عشر سنة وقيل عشر سنين ويؤيد القول الأول قوله تعالى:) إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (، والكلمة كن، وبهذه الكلمة صار التراب المتفرق الأجزاء جسدا ملتئما ذا عظم ولحم وعصب وعروق ودم، قابلا لنفخ الروح فيه، ومعنى وروح منه أي: من عنده.
الضرب الرابع:
1 / 4
إنسان من أب وأم، هو الذي خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، يعني من صلب، وترائب الأم، ودافق بمعنى مدفوق، وقال الله تعالى:) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى (يعني آدم وحواء ولهذا قال أرباب العقول الصافية والأذهان الوافية: إن آثار التركيب في البشر أكثر مما هي في الملائكة لأنهم خلقوا من شيء واحد وهو النور والبشر خلقوا من جوهرين الروم والبدن، وظهروا من اثنين الأب والأم وركبوا من شيئين المني والدم، وغذوا بغذائين الطعام والشراب فهم أكمل وأتم وهذا الضرب تم بعد أن تم عليه ستة أطوار أيضا، وهي النطفة ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كسوة العظام لحما، ثم الإنشاء، وهو نفخ الروح فيه قال الله تعالى:) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضعة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر (أي: حيا ناطقا، أما قوله) من سلالة من طين (فذهب بعض المفسرين للكتاب العزيز إلى أن هذا القول إشارة إلى آدم ﵇، ثم ذكر نسله ونبه على أنهم مخلوقون من نطفة وذهب بعض الحذاق: منهم إلى مراده بالطين الأغذية التي استحالت دما بعد أكلها لأن منبتها فيها ثم استحال الدم منبتا لحركة الوقاع والجماع وبهذا يكون مبدأ الإنسان من النطفة، ويكون في مقابلة التراب لكونها مواتا وهي إذا وقعت في الرحم امتزجت بمني المرأة فصار شيئا واحدا، ثم يكون بعد أيام قلائل بطبخ الرحم له علقة وهي دم قدمه جفاف ما، وهو في مقابلة الحمأ المسنون فما فيه من الاختلاط والامتزاج ولا تزال حرارة تدأب في التخفيف حتى تصير العلقة مضغة بعد برهة، وهي في مقابلة الطين اللازب الذي يمكن معه قبول الصورة ثم يكون عظاما بعد حين وهي مقابلة الطين الصلصال، لاستحكام الجفاف، واليبس عليها بحيث أنها إذا قرعت صلت، فإذا صارت عظاما كسيت لحما فاشتد به البدن واعتدل واشتد ما بين العظام من الخلل، وهذه في مقابلة، فإذا سويته، وقوله ثن أنشأناه خلقا آخر، في مقابلة ونفخت فيه من روحي، ومقدار كل طور على ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ، أربعون يوما إلا أنه لم يذكر غير ثلاثة أطوار وهي النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فذلك مائة وعشرون يوما فإنه قال ﵇:) إن أحدكم يجمع مثل ذلك ثم يرسل الله ﷿ إليه الملك فينفخ الروح، ويؤمر بأربع كلمات، رزقه، وأجله وعمله، وسعيد أم شقي، وفي رواية أن الملك يقول: يا رب ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ فيقول الله ﷿ ويكتب الملك (ولهذا السر جعل الشارع عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا لإستبراء الرحم فيها.
القول في الشيء الموكل بتدبير الإنسان
قالوا:) الإنسان أشياء كثيرة، فلكثرة ما هو به كثير يعجز عن إدراك ما هو به واحد (، ويكفي أن نعلم أن النفس قوة إلهية واسطة بين الطبيعة المصرفة للاسطقسات والعناصر المتهيئة بين العقل المنير لها، الطالع عليها، السائر فيها، المحيط بها، فكما أن الإنسان ذو طبيعة لآثارها البادية في بدنه، فكذلك هو ذو نفس لآثارها الظاهرة في آرائه وأبحاثه ومطالبه ومآربه، وشكه وكذلك هو ذو عقل لتميزه وتصفحه واختياره وفحصه، واستظهاره، ويقينه وشكه وظنه وفهمه ورويته وبديهيته، فإن قيل: كفت الطبيعة، قلنا: قد كفت في مواضعها التي لها الولاية فيها من النفس كما كفت النفس في الأشياء التي لها عليها الولاية من قبل العقل في الأمور التي له الولاية عليها من قبل الإله وإن كان مجموع هذا كله راجعا إلى الإله فإنه في التفصيل محفوظ الحدود على أربابها وهو كالملك الذي في بلاده وجماعة يصدرون عن رأيه وينتهون إلى أمره ويتوخون في كل ما يعقدونه ويملونه ويبرمونه وينقضونه، ما يرجع إلى وفاته ومراده وكل ذلك منه وله وبه.
وقالوا الحيوان ينقسم بالقسمة الأولى إلى ثلاثة أقسام
أحدهما: حي مالك: وهو الذي تدبره نفسه الناطقة، وتدبره الطبيعة بالقوى الطبيعية وهذا هو الإنسان.
والثاني: حي مملوك: وهو الذي تدبره الطبيعة بقواها، ويدبره العقل من خارج، أعني من قبل الإنسان، ولهذا لا يوجد هذا النوع إلا حيث يوجد الإنسان كما يكون الزرع حيث يكون الزارع، وهكذا كالخيل والبغال والحمير والبقر وما أشبه ذلك.
1 / 5
والثالث: هي لا مالك ولا مملوك: وهذا النوع تدبره الطبيعة وهو مثل الكلأ، وهو سائر السباع والأنعام والسمك والطباشير والحشرات فتبين لنا من هذه القسمة أن الإنسان أكمل الحيوان لاشتراك النفس الناطقة التي هي العقل والطبيعة في تدبيره فأما الطبيعة فإنها قوة الباري تعالى وجل مدبرة لبدن الحي، وإنما قيل لها طبيعة لأنها تلزم شيئا واحدا، ولا تقوى على الشيء وضده، كما في الآلات الصناعية لأن المناشير لا تفعل فعل الفأس والفأس لا يفعل فعل القدوم، وقال بعضهم: هي قوة نفسية، ثم قال فإن قلت عقلية أو إلهية لم يبعده وهي التي تسري في أثناء هذا العالم محركة ومسكنة ومحددة، ومبلية، ومنشئة، وهي بالمواد أعلق، والمواد لها أعشق، وقال آخرون: الإنسان هو كالشيء المتقوم بتدبير الطبيعة للمادة المخصوصة بالصور البشرية، المؤيدة بنور العقل من قبل الإله، وهذا وصف يأتي على الشائع عن الأولين في حد الإنسان، إنه حي ناطق ميت أي حي من قبل الحس والحركة، ناطق من قبل الفكر والتمييز ميت من قبل السيلان والاستحالة، فمن حيث ما هو حي مشارك للحيوان، ومن حيث ما هو مشارك لما يتبدل ويتحلل، ومن حيث ما هو ناطق هو إنسان حصيف، ومن حيث ما يبلغ مشابهة الملائكة بقوة الاختيار البشري، والنور الإلهي هو ملك.
1 / 6
وأما النفس: فقد اختلف في ماهيتها فقال قوم هي امتزاج الأركان وقال أفلاطون: جوهر بسيط عقلي يتحرك من ذاته بعدد مؤلف، وقال فيثاغورس جوهر نوري ولا خلاف عندهم أن الباري ﷿ جعلها كمالا أولا لجسم طبيعي آلي، وذهب أرسطو إلى أنها ليست متصلة بالبدن اتصال انطباع فيه ولا حلول وإنما اتصلت إلى تدبير وتصرف، وإنها حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، وذكر على ذلك دلالة استطلناها فتركناها، واستدلوا على وجودها بالتصورات العلمية، والاختبارات الإرادية، وقالوا: لا نشك في أن الحيوان يتحرك إلى جبهات مختلفة حركة إرادية، إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية لتحرك إلى جهة واحدة لا تختلف البتة، فلما تحرك إلى جهات مختلفة علم أن حركته اختيارية والإنسان مع أنه مختار في حركاته كسائر الحيوان إلا أنه تحرك بمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال، وهو معرفة عاقبة كل حال، والحيوان وليست حركاته بطبعه على هذا المنهج فيجب أن يميز الإنسان بنفس خاص كما يتميز سائر الحيوان عن سائر الموجودات واستدلوا على أنها جوهر فقالوا: من شرط الجوهر أن يكون قابلا للأضداد من غير تغير وقد رأينا النفس قابلة للشيء وضده، مثل العدل والجور، والذكاء والبلادة والعلم والجهل، والبر والفجور، والشجاعة والجبن، إلى غير ذلك من الأضداد التي لا يحصرها التعداد، واستدلوا أيضا فقالوا يمتنع أن يكون المدبر لهذا الجسم جسما لأن الجسم لا يقبل صورة أخرى من جنس صورته الأولى إلا من بعد مفارقة الصورة الأولى البتة، مثاله أن الجسم إذا قبل صورة وشكلا كالتثليث وليس يقبل شكلا آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول، وكذا إذا قبل نقشا ومثالا، ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصية ضد خاصية الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرة كلما نظر وبحث وارتأى وكشف،) ويمتنع أن يكون المدبر أيضا للبدن عرضا لأن العرض لا يتفق زمانين لقبوله التغير والاستحالة، ولأنه لا يوجد إلا في غيره فهو محمول لا حامل، ويمتنع أن يكون هيولى، فإنها لو كانت، لكانت قابلة للمقدار والعظم، واستدلوا أيضًا على أنها جوهرة بكونها لا يدخل عليها ضد ولا يصل إلى شيء منها بلى، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويموت، ويفقد لأنه يفارق النفس، والنفس تفارق ماذا حتى يكون في حكم البدن وشكله، ولو كانت كذلك لكانت تموت وتنفى، فأما الإنسان بها حي وجب أن لا يكون حكمها حكم البدن، ولا يخص على من كان عريا عن الهوى عاشقا للحق، فالفرق بين النفس المحركة للبدن، وبين البدن المتحرك بالنفس فإن البدن معجون من الطين، والنفس تدبره بالقوة الإلهية، ولهذا احتاج إلى الأجناس والمواد والاقتباس والالتماس حتى تكون هذه الحياة الحسية تالفة إلى آخرها من ناحية الجسر، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولا بالأبد بعد الأبد ولو لم تكن النفس لا تموت ولا تفسد بفساد البدن عند المفارقة لما قال الله تعالى مخاطبا لها مفارقتها للبدن) يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية (ولما قال في حق الشهداء) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين (ولما قال في حق آل فرعون) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا (، وهذا منبه على أن النفس بعد مفارقتها للبدن تنتقل أما إلى خير وأما إلى شر، ولهذا قال ﵇:) القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار (.
وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله:
خلق الناس للبقاء فظلت ... أمة يحسبونها للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد
1 / 7
وكل ما ذكرته القدماء في النفس ذكرته العلماء في الروح وألجأهم الحال في ذلك إلى أن قالوا: هما اسمان موضوعان على مسمى واحد، هو: مدبر بدن الإنسان، وذلك بالاستقراء من حديث رسول الله ﷺ، وذهب قوم: إلى انهما متغايران، وقالوا الإنسان ذو روح ونفس، فالروح جسم لطيف تنبت في البدن به يحس ويتحرك، ويلتذ، ويألم، ويضعف، ويقوى، ويصلح، ويفسد، والنفس جوهر بسيط عالي الرتبة بعيد عن الفساد منزه عن الاستحالة، فالإنسان بالنفس ما هو إنسان لا بالروح، وإنما هو بالروح حي فقط، ولو كان إنسانا بالروح لم يكن بينه وبين الحمار فرق فإن له روحا وليس له نفس، وقالوا: الروح تغني عن النفس في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنسانا، ولا تغني النفس عن الروح في الإنسان، فإن الروح كالآلة للنفس تدبرها بواسطة، وليس ذلك لعجز النفس، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير، وقال ابن عباس في ابن آدم وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هو الذي به النفس، والتحرك، فإذا نام العبد قبض نفسه ولم تقبض روحه، وإذا مات قبض نفسه وروحه.
وقالوا: للنفس ثلاث قوى: قوة نباتية، ويشترك فيها النبات والحيوان، وقوة حيوانية ويشترك فيها الحيوان والإنسان، وقوة إنسانية وهي خاصة بالإنسان، وبعضهم يسمي هذه القوى، ويقول: النفس كجنس انقسم إلى ثلاثة أنواع، أو كعين تفجرت منها ثلاثة ينابيع، أو كشجرة تفرعت منها ثلاثة أغصان أو كرجل يعمل ثلاث صنائع، فالنفس النباتية محلها الكبد، ومنه مبدأ النشوء والنمو، ولهذا جعلت فيه عروق دقاق غير ضوارب ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف، وقوى النفس الحيوانية، محلها القلب، ومنه مبدأ الحرارة الغريزية، ولهذا فتحت منه عروق ضوارب إلى الدماغ ليصعد إليه من حرارته ما يعدل ما فيه من برودة، ويترك فيه من أثاره ما يدبر به الحركة والحس وقوى النفس الإنسانية محلها تصريفا وتدبيرا الدماغ، ومنه يبدأ الفكر والتعبير عن الفكر ولهذا فتحت له أبواب الحواس مما يلي هذا العالم، وأبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم، فالحواس خمس وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، والمشاعر خمس، وهي: الحس المشترك وهي قوة مرتبة في مقدمة الدماغ من شأنها قبول ما حصل في الحواس من المحسوسات.
والخيال: وهو قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ من شأنها حفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس، وتبقى فيها بعد غيبة المحسوسات فهي خزانته.
والفكر: وهو قوة مرتبه في التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تركب الصور والمعاني بعضها من بعض بحسب الاختيار.
والوهم: وهي قوة مرتبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تحكم في الصور المحسوسة بمعان غير محسوسة، كإدراك الشاة معنى في الذئب فتنفر منه ومعنى في النوع فتنفر إليه.
والحفظ: وهو قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ من شأنها حفظ المعاني المدركة بالوهم، واسترجاعها عند النسيان، ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك، إلا أن تلك في الصور، وهذه في المعاني.
1 / 8
وأما العقل: فقال: العقل أشرف من النفس لأنه يستخلفها ولهذا إشراقه ألطف، ومنافعه في إشراقه أشرق، وحدده: بأنه قوة إلهية أبسط من الاسطقسات، كما أن الاسطقسات أبسط من المركبات وهو خليفة الله، وهو الفائض الفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى، وإن قيل هو نور في الغاية لم يكن ببعيد، وإن قيل اسمه يعبر عن نعته لم يكن بمنكر هذا الحديث، إذا لحظ في ذروته التي يشرق منها فوق إشراق الشمس وأما إذا فحص عن أثاره في حضيضته فإنه تميز وتحصيل وتصفح، وحكم، وتصويب وتخطئة، وإجازة وإيجاب وأباحة، وأما إذا فحص عن أنحائه، فأنحاؤه على قدر ما يقال فلان عاقل، وفلان أعقل، وفلان في عقله لوثة، وفلان ليس بعاقل وهذا الاختلاف بحسب الاختلاف في الألوان، والصور، والقصر، والحسن والقبح والاعتدال والانحراف، وذلك مدروك بالحس مشهود بالعيان، وأما إذا فحص عن صنيعته فهو الحكم في قبول الشيء ورده، وتحسينه، وتقبيحه وحقه وباطله وذلك إن الأشياء أما أن تكون حسية أو عقلية، أو مركبة منهما، أو متولدة عنهما، وتكون أما صحيحة، وأما فاسدة، أو حقا أو باطلا، فالعقل يتصفح هذه كلها بنوره ويحكم لها وعليها بحكمه، ويعطي كلا منها الذي حقه وتسميته التي هي له ويقال: الإنسان بين طبيعة هي عليه وبين نفس هي له كالمنتهب المتوزع، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه، قوى ما هو له من النفس، وضعف ما هو عليه من الطبيعة، وإن لم يستمد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو من النفس.
وقال أصحاب الكلام في الطبيعيات في الإنسان قوة عالمية نظرية من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، ثم لها نسب إلى هذه الصورة وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة، وقد يكون بالقوة والفعل، والقوة تنقسم إلى ثلاثة أوجه: قوة هيولانية وهي الاستعداد المطلق من غير فعل ما، وهو الاستعداد الأول الذي للفعل الساذج، وبه يهتدي إلى الثدي إذا خرج من الرحم، ويبكي إذا جاع. وقوة ممكنة وهو استعداد فعل ما كقوة الطفل على الكتابة بعد ما يعلم بسائط الحروف. وقوة ملكة وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة.
فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور تشبه الاستعداد المطلق وتسمى عقلا هيولانيا، وإذا حصلت فيها المعقولات الأول التي تتوصل إلى المعقولات الثنائية تسمى عقلا بالفعل، وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت مخزونة بالفعل، متى شاء طالعها، فإن كانت حاضرة عنده بالفعل سمي عقلا مستفادا، وإن كانت مخزونة بالقوة سمي عقلا بالملكة، وها هنا ينتهي النوع الإنساني، وعنده يتشبه بالمبادئ الأول أن يتصل بالعقل الفعال، فيصرف كل شيء من نفسه، لا تقليدا، أما دفعة فيزمان واحد، وأما دفعات في أزمنة شتى، وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس، وأدناها الولاية، وأعلاها النبوة.
واختلف في مسكنه فذهب جالينوس من الحكماء، وأبو حنيفة من العلماء إلى أن مسكنه الدماغ، واحتجوا بأن العقل أشرف القوى فوجب أن يكون مكانه أشرف، وأشرف الأمكنة أعلاها يكون مكان العقل الدماغ وهو بمنزلة الملك العظيم الذي يسكن القصر العالي المشرف، وأيضا أن الحواس محيطة بالرأس كأنها خدم الدماغ، واقفة حوله على مراتبها، وأيضا إن محل الرأس من الجسد، محل السماء من العالم، وكما أن السماء محل الروحانيات فكذلك الدماغ فوجب أن يكون مستكن العقل وقد اعتبر اختلاط العقل إنما يكون بما يطرأ على الدماغ من مرض أو عرض، وذهب الجمهور إلى أن مسكنه القلب وعلى ذلك تضافر الكتاب، والسنة والعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى:) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب (أي: عقل فعبر عن الحال بمحله، وقال تعالى) أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (.
أما السنة: فقوله ﵇:) إن في ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب (وصلاحه يكون بزيادة ما فيه من العقل الهادي إلى الخير، وفساده يكون بنقصانه الحاوي على الشر.
وأما المعقول: فإن العقل لما كان شريفا وجب أن يكون مكانه أشرف الأعضاء وأشرف الأعضاء القلب، لأنه الرئيس الأعظم، لو أنه أول عضو يخلق من الإنسان ولما كان الأهم في الخلق كان الأشرف في الأعضاء ولأن محله من البدن في الوسط، والأعضاء محيطة به فكان كالملك حوله وأشياعه وعبيده
1 / 9
القول فيما امتاز به الإنسان من التخليق والتركيب
ونجعل الكلام فيه: بأن الاحتلام، أعني يبتدئ في الصبي إذا بلغ أسبوعين منت السنين، وفي هذا السن تنبت عانته، ويخشن صوته، وتتغير رائحة عرقه وتنفلق أرنبته من طرف الروثة، وهذه علامات البلوغ، وكذلك النساء يطمثن إذا مر عليهن السن، ويرتفع ثديهن، وتتغير أصواتهن، ومتى طمثت الصبية هاجت إلى الجماع، وتتلذذ بذكره من غير فعل، وبعض الذكور لا يحتلم، وكذلك بعض النساء لا تطمث.
ومنها أن المني لا يوافق الولادة إلا بعد مضي ثلاثة أسابيع سنينا وهذا المعتاد، وقد رأيت أن ولدا للمقتدر حملت منه جارية وهو ابن إحدى عشرة سنة، وفي صحيح البخاري:) إن المغيرة بن سعيد قال احتلمت وأنا ابن اثنتي عشرة سنة وفيه أيضًا عن أن الحسن ابن صالح قال أدركت جارة لنا جدة وهي ابنة إحدى وعشرين سنة (، وكان بين عمرو بن العاص وبين ولده عبد الله اثنتا عشرة سنة وإذا جامع الرجل المرأة، وبقي المني في رحمها ستة أيام، ولم يقع فذلك دليل على الحمل فإذا تم الحمل لا يكون خروج الدم طبيعيا بل يرجع إلى الناحية العليا إلى الثديين فيستحيل لبنا عند قرب الولادة.
ومنها أن الرجل يستفرغ ولد امرأتين لأنه يولد له وهو ابن تسعين سنة، والمرأة لا تلد بعد الخمسين إلا نادرا، ولا تحيض، إلا ما حكي أن موسى بن عبد الله بن حسين حملت به أمه وهي بنت ستين سنة وكان بين موسى بن عبده المريدي وبين أخيه ثمانين سنة ومنها أن المرأة تفرط في السمن فتكون عاقرا، والرجل يكون فلا يطرأ عليه ذلك، والمرأة تهيج في الصيف والرجل في الشتاء.
ومنها أن المرأة إذا حملت أحست بما في بطنها، ولا سيما في نواحي الحالبين فإذا كان الحمل ذكرا فالحس من الناحية اليمنى، يوجد بعد أربعين يوما وإذا كان أنثى فإنه يكون في الناحية اليسرى بعد تسعين يوما في الغالب ومنها أنه أكثر الحيوانات شهوة للجماع، وأقدرها عليه، وإن ضرب المثل في ذلك بالعصفور، فإن العصفور يسفد في فصل وزمان معلوم والإنسان يقدر على ما قدر عليه العصفور في كل حين لا سيما إذا توفرت الدواعي من الغلة والجمال والشبيبة، والرفاهية، وأحد ما يكون الغلام أشبق وألح، وأحرص عند أول بلوغه ثم لا يزال كذلك حتى يقطعه الكبر أو آفة تعرض له، والجارية لا تزال من وقت إدراكها وحركة شهوتها على شيء واحد من ضعف الإرداة حتى تكتهل فإذا اكتهلت قوي عليها سلطان الحرص والشهوة للباه فيكون هيجانها عند سكون هيجان الكهل، وإدبار شهوته.
ومنها أن حد الولادة في الناس مختلف بخلاف سائر الحيوانات فإن مدد حمل الحيوان في كل نوع على حد سواء من الكثرة والقلة إلا النساء، فإن منهن من تلد لستة أشهر وعلى هذا حمل قوله تعالى:) وحمله وفصاله ثلاثون شهرا (، وبذلك أفتى علي ﵇ في مجلس عمر بن الخطاب ﵁، وكانت امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها فكف عنها، ومنهن من تلد لسبعة أشهر يقال أن الشعبي ولد لهذا العدد، ومنهن من تلد لثمانية أشهر، وقلما يعيش لعلة ذكرها المنجمون على زعمهم ليس هذا موضع ذكرها وهذه المدد مختلفة، وقد ذكر أصحاب التواريخ جماعة ولدوا فيها، فأما من ولد لثمانية أشهر فعيسى ﵇، والشعبي ولد لسبعة أشهر، وكذلك جرير الشاعر وعبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، ومنهن من تنقضي مدة الحمل التي هي تسعة أشهر وتستأنف مدة أخرى، ولا تيأس من الولد كما حكي أن هرم بن حيان حملت به أمه أربع سنين، ولذلك سمي مرة هرما وإن امرأة لابن عجلان ولدت له بعد أن حملت خمس سنين، وحملت مرة أخرى ثلاث سنين ثم ولدت غلاما وكانت تسمى حامل الفيل، وروي أن الضحاك بن مزاحم حملت به أمه ستة عشر شهرا، وولد شعبة لسنتين، ومالك بن أنس ﵁ لثلاث سنين، وخرج من بطن أمه، وقد بدت أضراسه، وسمع نساء الحجاز من ولد عمر بن الخطاب يقلن ما حملت امرأة منا أقل من ثلاثين شهرا، وولدت بنت أبي عبيدة محمد بن حسن على رأس أربع سنين.
1 / 10
ومنها أن النساء وإن اختلفن في مدة الحمل، وبين سائر الحيوانات في ذلك فقد يشتركن معها في أن تلد المرأة فذا وتوأمين، وربما ولدت ثلاثة أو أربعة وخمسة بقالب البخاري: بنو راشد السلمي أربعة ولدوا في بطن واحد، عامتهم محدثون، وكان شريك لهذه الأعجوبة يقول: إذا مات الرجل وله حمل وأرادوا أن يقسموا الميراث عزلوا نصيب أربعة ذكور لما شاهد من بني راشدة، والمرأة إذا وضعت توأمين، وكان أحدهما ذكرا فقلما يسلمان.
ومنها أن المرأة تحتمل الجماع بعد الحمل بخلاف سائر الحيوانات وربما علقت، وهي إذا علقت بعد زمان يمضي عليها بالذي حملت به أولا يتم ويهلك الأول والثاني، فإن علقت بعد الحمل بزمان يسير يسلمان كلاهما وهما التوأمان، وحكى أرسطو في كتاب الحيوان: أن امرأة ولدت لتسعة أشهر ثم ولدت بعد ذلك بشهرين فعاش الثاني وهلك الأول.
ومنها أنه قد يولد لذوي العاهات ما يشبههم من الأولاد، فيولد للأعرج أعرج وللأعمى أعمى، وربما كانت العاهة في ولد الولد وكذلك في اللون.
ومنها أن جميع الحيوانات التي لها أربعة أرجل يكون ولده في الرحم ممتدا منبسطا ما خلا ولد الإنسان فإنه يكون قاعدا القرفصاء شبه المتفكر وأنفه بين ركبتيه وأذناه خارجتان عنه ويداه عليهما، وهو يتنفس في خلاء ووجهه إلى الصلب لتحدر الطعام على صلبه ولا يتأذى به.
ومنها أن يتقدم الجنين عند خروجه ماء، وذلك عند انقلاب الرحم والمشيمة ومتى لم تربط سرته لساعة وقوع المشيمة، وسال منها دم قبل أن يجمد هلك.
ومنها أن المولود إذا نعر لساعته وأومئ بيده إلى فيه، وطلب الثدي ويلازمه السهر أربعين يوما، ويقال أن ذلك من وحشة يجدها لفراق وطنه الذي كان فيه وهو الرحم، وما أحسن قول علي بن العباس بن جريح الرومي وقد ذكر هذه الحالة، وما الحكم فيها:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون الطفل ساعة يوضع
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأوسع
إذا عاين الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يفزع
وقد ورد أن ذلك من طعن الشيطان له في خاصرته.
ومنها أنه إذا خرج من الرحم يخر مقبوض الكف، ويقول أصحاب الإشارات أن ذلك دليل حرصه على الدنيا، وإذا مات فتح كفه، يشير بذلك أني مع حرصي عليها خرجت منها بلا شيء، وقد نظم هذا بعض الفقهاء فقال:
وفي قبض كف الطفل عند ولاده ... دليل على الحص الموكل بالحي
وفي بسطها عند الممات إشارة ... ألا فانظروني قد خرجت بلا شيء
ومنها أنه قد يولد مختونا وتسميه العرب ختان القمر، ويزعمون أن السبب في ذلك، ولادة أمه له في مكان صاح للقمر لا يستره سقف ولا جدار.
قال أمرؤ القيس يهجو قيصر ملك الروم:
إني حلفت يمينا غير كاذبة ... لأنت اقلف ألا ما جنى القمر
إذا طعنت به مالت عمامته ... كما تجمع تحت الفكة الوتر
وقد ولد جماعة من الأنبياء - صلوات الله عليهم - كذلك منهم سيد البشر الشفيع المشفع في المحشر - الذي ختم به النبيين وأعلا درجته في عليين - محمد المبعوث إلى الأحمر والأسود صلى الله عليه صلاة دائمة يوم بنعث ونحشر ومنه أنه حين يولد تكون عينيه زرقاء ثم يتغير إلى اللون الذي شأنه أن يوجد له، ولا يوجد ذلك شيء من الحيوان، وهو في طفولته يحلم ولهذا نرى - حين ينتبه - أما مذعورا يبكي وأما مسرورا يضحك والإنسان وحده يولد، ولا أسنان له، لقلة الأرضية فيه، فإذا كبر صلبت مواده، وصلحت لمادة الأسنان، وجميع عظامه من الكون الأول سوى الأسنان فإنها تتجدد مرتين في العمر مرة في الشهر السابع وما بعده، ومرة في العام السابع وما بعده.
والذي يختص بالصورة أمور منها: إن الله تعالى ميزه على سائر الحيوانات بأن خلقه في أحسن تقويم فجعله منتصب القامة عريض الظفر معرى البشرة عن الوبر، وجعل عقله في دماغه، وصرامته في قلبه، وغضبه في كبده، وسروره في كليته وضحكه في طحاله، ورعبه في رئته، وفرحه في وجهه.
ومنها أن جعل الحلاوة في عينيه، والجمال في أنفه، والصباحة في وجهه والوضاءة في نشرته، والملاحة في فمه، والظرف في لسانه، والحسن في شعره والرشاقة في قده واللباقة في شمائله
1 / 11
ومنها أن جعل لعينيه أهدابا عليا وسفلى بخلاف سائر الحيوانات فإن ذوات الربع لها أهداب لأجفانها العليا دون السفلى، وليس لعيون الجناح أهداب البتة.
ومنها أن ميز أنفه بالشم والقنا وجعله مثلث الشكل مستطيلا مبرأ من الفطس والخنس.
ومنها النطق الذي لولاه كان صورة ممثلة أو بهيمة مهملة، وهو فصيح وإن عبر عن نفسه باللفظ والخط، والعقد، والإشارة.
ومنها ما في يده من المنافع فإنه، لما كان محتاجا إلى الخياطة والكتابة وسائر الصنائع العملية قسمت الأصابع، وقسمت الأصابع إلى أنامل، وهو وإن شاركه الصنائع الحيوان في حاستها المدركة للملامسة، والخشونة، واللين، واليبس، والحرارة، والبرودة فقد امتاز عنه بأن أضيف إليه معرفة الثقل والخفة، وكذا إن شاركه الهر والقرد في إجهاز ما يأكلانه إلى الفم فليس فيها من المرافق ماله، فإنه إذا بسط كفه كان طبقا، وإن قعره كان مغرفة، وإن ضم الكفين بعضهما إلى بعض في التقعير كان قبعا وإن ضم أصابعه كان له سلاحا يقاتل به عدوه.
وقال بعض الباحثين عن خلائق الإنسان أنه جمع فيه جميع ما تفرق في الحيوان ثم زاد عليها ثلاث خصال بالعقل للنظر في الأمور النافعة لتجلب والضارة لتتجنب، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بواسطة النظر، وباليدين لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلة لما في الطبيعة من قوة النفس ولما انتظم له هذا كله جمع الحيل للطلب والهرب، والمكايدة والحذر، وهذا بدل من السرعة والخفة التي في الحيوان، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن، واتخذ الجنن لتكون رقابة له من الآفات مكان الشعر والوبر.
وقال الجاحظ: وهم يجعلون كل إنسان وطائر ذا أربع، فجناحا الطائر يداه ويدا الإنسان جناحاه، ولهذا كان كف الطائر في رجله وكف الإنسان في يده، ولما كانت يد الإنسان جناحه صار إذا عدا يحركهما، ومتى قطعتا لم يجد العدو كما، لو قطعت رجلا الطائر لم يجد الطيران، وفي الناس من إذا فقد يديه عمل برجليه كل ما كان يعمل بيديه لو كانتا له، وركب ذوات الأربع في يديها، وركب الإنسان في رجليه، وفي الناس من يعمل بيساره ما يعمل بيمينه، ويسمى أعسر يسر، وبهم من يقصر بيمينه عما يعمل بيساره، ويسمى الأعسر، وإذا كان أعسر مصمتا فليس سوى الخلق.
ومنها أنه ليس في الحيوان ماله ثدي في صورة غير الفيل والإنسان لكن هما في الفيل بين الحالبين، والصدر، وربما حني الرجل على الطفل فدرت له ثدياه وكذلك المرأة العاقر.
ومنها أن سائر الحيوان الناحية العليا منه أنبل من الناحية السفلى خلا الإنسان، فإنه بالعكس إذا كان حدثا، وإذا أسن كان على التساوي وهذه علة اختلاف سيره وحركته، وكذلك رجلاه أكبر من يديه، وليس ذوات الأربع من ذوي البراثن والحوافر، فإن أيديها أكبر من أرجلها.
ومنها أن المرأة إذا غرقت رسبت، فإذا انتفخت طفت منقلبة على وجهها والرجل بخلاف ذلك، وإذا ضربت عنقه لا تتحرك له جثة بخلاف سائر الحيوان إذا ذبح وإذا وقعت جثته في الماء بعد بينونة الرأس عنها لم ترسب، وبقيت قائمة في الماء، ولم تظهر أكان الماء جاريا أو راكدا، فإذا جاف وانتفخ وانقلب وظهر بدنه كله.
ومنها أن كل أخرس أصم حكمة من الله تعالى، ولطفا إذ لو سمع الكلام ولم يجب مات حسرة، وأصحاب الكلام في الطبائع يقولون: إن الخرس طارئ عن الصم، وإنما كان ذلك لأنه حين لم يسمع صوتا قط مؤلفا، أو غير مؤلف لم يعرف كيفيته، فيقصد إليه ويحكيه.
ومنها أن في طبع الإنسان، أنه متى انهزم نزل عن جواده ليحضر ببدنه لأنه يظن أن إحضاره أنجى له، وأنه إذا كان راكبا على ظهر فرسه كان أقرب إلى الهلاك.
ومنها أن في الناس من يحرك فروة رأسه ومنهم من يحرك أذنه من بين أعضائه، وربما حرك إحداهما وترك الأخرى ساكنة، ومنهم من يبكي إذا شاء من غير سبب محدث للبكاء، ومنهم من يبكي بإحدى عينيه، وبالتي يقترحها المنعت له.
1 / 12
ومنها أنه متى خصي صلب عظمه، وعظمت رجلاه، وساوى الصبي في الأمن من الصلع، وغيره من الحيوان إذا خصي دق عظمه واسترخى لحمه، ومتى خصي الإنسان في أي سن كان، حفظ عليه الخصاء حال تلك السن من الأفعال السياسية والطبيعية مدة حياته فمتى خصي قبل العشر سنين لم يتغير دمه عن دم الطفولية ويبقى في مزاج الصبي لابثا لا يتحرك، وإن تعالت سنه، والدليل على ذلك أنه إذا غضب بكى، وإذا غلب سطى، ويرضيه الخداع أكثر مما يرضيه الحق ويعرض له الشر عند حضور الطعام، والبخل عليه والشح الغالب في كل شيء وكل ذلك من أخلاق الصبيان، ومن خصي وهو في النحو لا يؤثر الخصاء في مزاجه وذلك بعد ثماني عشرة سنة ولم تسقط لحيته لكنه يعدم الشهوة أما كلها أو بعضها، ويسلم له جميع ما للفحول، وهو مع الخصاء يحتلم ويرى الماء إلا أنه غير دافق، وليس له رائحة الطلع، ويجامع النساء كثيرا لكنه ينزل بعد الجهد الشديد ماء يسيرا متغير الريح، وقال الجاحظ: الخصي تقوى شهوته، وتسخن معدته وتتسع فقحته، وتنتن جلدته، وتنجرد شعرته، وتكثر دمعته، ويخرج من أكثر معاني الفحول وصفاتهم، فصار كالبغل الذي ليس بحمار، ولا فرس، وتصير أخلاقه مقسومة على طبائع الذكر والأنثى، وربما لم يخلص له خلق، ولم يصف بل يصير مركبا ممزوجا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن العجب خروجه عن شطر طباع الذكورة إلى شطر طباع الأنوثة، ولا يعرف له التخنيث، وكان ينبغي أن يكون في الخصيان عاما.
القول في السبب الموجب لتغاير أخلاق الإنسان
قد تقرر بالاختبار الباحث عن الإنسان وطرائق ما فيه، وبه أن أحواله مختلفة لسبب أن كل ما يدور ويجوز عليه مقابل بالضد أو شبهه كالحياة والموت والنوم واليقظة، والحسن والقبح والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسفه والرضا والغضب إلى غير ذلك مما يطول تعداده، ويكثر ترداده، وما ذاك إلا ليظهر امتيازه على سائر الحيوانات فإنها لم يوجد منها شيء يزول عن خاصيته، ولا يتعداها إلى خلافها لأن الأسد لا يوجد جبانا، ولا الأرنب جريئا ولا الغزال بطيئا لا الدب سريعا وقد يوجد الإنسان جريئا كالأسد، جبانا كالأرنب سريعا كالغزال، بطيئا كالدب، خبيثا كالثعلب، سليما كالفيل، ذليلا كالكلب، عزيزا كالفهد، وحشيا كالنمر، أنيسا كالحمار، ويقال الإنسان صفو الجنس الذي هو الحيوان، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان، فالإنسان هو الشخص الذي هو واحد النوع، وما كان صفوا وخلاصة بهذا النظر فيه من كل ضرب من الحيوان خلق أو خلقان، أو أكثر، فظهر بذلك عليه ويظن أيضًا فيه بالأقل والأكثر، والأغلب والأضعف كالكمون الذي في طبائع الخنزير والفأرة والبيات الذي في طباع الذئب والتحرز الذي في طبائع الجاموس من بنات الليل، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلا بصاحب المقدمة، والحذر الذي في طباع الخنزير، والكمن تمثلا بصاحب الساقة، وكأوبة الطير إلى أوكارها، وغيرها من الدغل والأعشاب والغياض التي تراها كالمعاقل ولما وهب الإنسان الروية وأعين بالفكر، ورفد بالعقل جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه، وفي نفسه بما خصصه به خالقه وميزه حين أظهره للوجود وأبرزه قال الشاعر:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
1 / 13
وبهذه المزية فضل جميع الحيوانات حتى بلغ منها مراده بالتسخير والأعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها وهذه المزية استفادها بالعقل لأن العقل ينبوع العلم والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر بينهما مستمد منها فصواب بديهة الفكر من سلامة العقل وصواب روية الفكر من صحة الطباع وصحة الطباع من موافقة المزاج بالبدن الاتفاقي والاتفاق الغيبي. وأصحاب الكلام في تهذيب الأخلاق يرون أن اختلاف الأخلاق في الإنسان كائن عن اختلاف قوى النفس الناطقة فإنهم يسمون القوة التي محلها الدماغ النفس الإنسانية وعنها تصدر الأفعال الملكية والقوة التي محلها القلب، النفس الغضبية وعنها تصدر الأفعال الشيطانية، والقوة التي محلها الكبد النفس الشهوانية وعنها الأفعال البهيمية، ولا يخلو أن تقوى كلها حتى تبدو أفعالها متكافئة من غير مطاوعة منها لغيرها وتكون كعدة أقوام ترافقوا ولهم أغراض بعددهم ليس للواحد منهم على الباقين رئاسة، فهم مترافقون متعاضدون حتى تسلم لهم الحياة في سبيلهم، ويتم لكل واحد منهم إدراك غرضه، وإذا كانت كذلك كانت نفوس الملوك الجبابرة والساسة القاهرة لما فيها من علو الهمة التي في خاصة بالنفس الإنسانية، ولما فيها من التغلب والاعتصام ومنع اجانب، وانتهاك الحرمة، وذلك خاص بالنفس الغضبية، ولما فيها من الحرص والطمع والنشوة والاستئثار بالأموال من غير اعتقاد كغاية أو وقوف عند غاية، وذلك خاص بالنفس الشهوية وأما أن تضعف النفوس الثلاث ضعفا متكافئا حتى لا تصل واحدة إلى حقها إلا أنها في هذا لا يقال لها سقيمة ومن كانت هذه حال أنفسهم كانوا إسقاط الناس ورعاعهم وأهل الضعف والسكينة، ومن لا يوجد لهم تقدم في معاشه ولا تدبير في نفسه ولا يأخذ نفسه بدقيق الصنائع ولا بمعالي الأمور، ولا يلتمس قوته في نفسه إلا عند نوع قليل الفكر كثير النوم لا تسؤوه اللأواء ولا تسره النعماء، وأما أن تقوي النفس الإنسانية، وترأس الغضبية والشهوية مع سلامتها، ولزومهما الحال الأفضل ومن كانت نفوسهم كذلك كانوا حكماء الناس وفلاسفتهم، والمعلمين الحكمة فإن كانتا ضعيفتين مسامتين ليستا على المجرى الطبيعي، ومن كانت هذه الحال أنفسهم كانوا عبادا زهادا، خائفين لله ﷿، هينين لينين أو ظباء الأخلاق قليلي الشهوة للمآكل والمشارب، والمناكح زاهدين في المكاسب والتجارات محبين لله تعالى راغبين فيما عنده منقطعين إليه، وذلك أنهم لما بطل تعلق النفس الغضبية والنفس الشهوانية ظفرت النفس الإنسانية بنفسها فاشتاقت إلى عالمها، وزهدت فيما سواه، وأما سقم الثالثة فتبطل أفعالها ولا يوجد لشيء منها المجرى الطبيعي فيكون من ذلك البله والمعتوهون، ومن لا يحصل من أمر دينه ولا ماكله ولا مشربه شيئا البتة حتى أنه يوجد هؤلاء من لا يلتمس قوته، ومنهم يثب على الناس، ومنهم من يخاف الناس، ومنهم من فيه مداراة للناس وخبث، وأما أن تقوى الغضبية وتملك الاثنتين وتستولي عليهما مع سلامة فيها وهذه نفوس المحاربين وأهل النجدة والإقدام والبطش والمنافسة والتغلب لأن تدبير النفس الإنسانية كله هو فيما كان فيه لذة النفس الغضبية وأما أن تقوي النفس الغضبية مع سقم الاثنين وخروجها عن الحالة الطبيعية فتكون هذه نفوس السراق وقطاع الطريق، وأهل الدعارة وقتلة النفوس، والصابرين على العقوبات فهذه الطبقة تستلذ أن تؤذي من لا يؤذيها، وترى ذلك مغنما، قاسين القلوب على نفوسهم فضلا على من سواهم، وأما أن تقوى الشهوانية وتملك الاثنين مع سلامة منهما، فإن هذه نفوس التجار وكسبة الأموال، وأهل الثراء، وأما أن تقوى وتستقيم الاثنتان، ويبطل فعلهما إلا أنهما ليستا بسقيمتين البتة، فتكون هذه النفوس نفوس الملاحين والنقلة والرعاع وكل من تعبه لشبع بطنه، وقد تقوي نفسان وتستقم واحدة أو تسقم نفسان وتقوى واحدة ولهذا ضرب من التركيب لا يخفى على من له ذهن وفكر
فصل
وها هنا أمثلة ضربت لذي العقل الرزين ليتبوأ منها معقل الرشد الحصين، قربت فيها الحكماء بعد الأرب، وجعلتها فارقة في الاختلاف بين الضارب والضرب.
1 / 14
ومنها أنهم مثلوا النفس الإنسانية بالملك المستولي، وأفضل أحواله أن يكون عالمًا عادلا لينا مهيبا مطاعا قويا من غير غلطة، رؤوفا من غير مهانة والنفس الغضبية مقال جنده الذين يسدون ثغوره ويقهرون أعداءه، ويقومون رعيته، وينفذون أمره وأفضل أحوالها أن تكون عزيزة الجانب في نفسهم سهلة الانقياد لسلطانها المستخدم لها، والنفس الشهوانية مثال رعيته الذين يجب أن يكون عريكتهم لينة مواتية ورهبتهم منه، ومن جنده ثابتة مستحكمة فمتى أخذت هذه القوى مأخذها، وتعادلت في أوزانها وأقسامها كان الإنسان كاملا وإن زال عن ذلك نقص، وكان نقصانه بمقدار زواله، والنفس الإنسانية، لا تسلم من معارضتها إلا أن تكون صارمة قوية أبية، فإنها إذا كملت شدتها واستحكمت قوتها ثبتت لمقابلة العدوين اللذين معها، إذ قيل للقوي بين الضعيفين، فأما إن كانت وضعيفة بين قوتين فهناك تجتمع المعايب والمثالب وترتفع المحاسن والمناقب.
ومنها أن البدن كالمدينة، والنفس الإنسانية كالملك، والحواس الباطنة والظاهرة كالجنود، والأعضاء كالرعية، والغضب والشهوة كعدوين ينازعانه الملك ويسعيان في هلاك رعيته، فإن قصد الملك قهرها استقامت مملكته وصارت إلى العاقبة رعيته وإن لم ينازعهما، وضيع الحزم اختلت مملكته وصارت عاقبة أمره إلى الهلاك.
ومنها أنهم قالوا: مثل النفس الإنسانية مثل الفارس ركب لأجل الصيد فشهوته فرسه وغضبه كلبه، فمتى كات الفارس حاذقا، وفرسه مرتاضا، وكلبع معلما كان جديرا بالنجح، ومتى كان الفرس جموحا والكلب عقورا، ولا فرسه تنبعث تحته على حسب إرادته، ولا كلبه يسترسل بإشارته، فهو خليق بالعطب فضلا عن أن ينال ما طلب.
ومنها أن البدن كبيت فيه إنسان وسبع، وخنزير، فالإنسان النفس الإنسانية، والسبع الغضب، والخنزير الشهوة، فأي الثلاثة غلب فالمسكن له فيجب أن تكون هاتان النفسان تحت سلطان النفس الإنسانية فيجريهما مجرى المركب الذي يركبه عند الحاجة بسرج يذلله وشكيمة تحنكه، وحنان يلينه وسوط يخفيه فإذا نزل عنه ألزمه الشكال والرباط لئلا يجد على حال من الأحوال شيئا إلى أن يشرد فيهلك ويجني على صاحبه، والقول الحق أن الخلق مشتق من الخلق وكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق ولكن لا مندوحة على الاستبصار، وقمع التلون بعزائم الاستبصار حتى يصير المحمود من الأخلاق بحتا والموصوف لا يشتغل بالأرزاء به وقتا ولو لم يكن ذلك ممكنا لما وضعت الحكماء الكتب في الحض على تهذيب الأخلاق وإصلاحها، وليس ذلك بالعبث فيها بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة، مثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضا، ولكن ليستفيد نقاء شبيها بالبياض والنفس الإنسانية إذا ساست القوتين أعني " الغضبية والشهوية "، فحذفت زوائدهما ونقت فواضلهما ووفت نواقصهما، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمة في الشهوة أخمدت نارها، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنائها فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم فيعود السفه حلما، أو تحالما، والحسد غبطة، أو تغابطا، والغضب كظما أو تكاظما، وصرفت هذه الكوامن في هذه المكامن إذا سارت سورتها، وثارت ثورتها على مناهج الصواب تارة بالعظمة واللطف، وتارة بالزجر والعنف، وتارة بالأنفة وكبر النفس وتارة بإشعار الحذر وتارة بعلو الهمة، وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام، والعفاف عند الهائج أحلى من قضاء الوطر، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة والمرارة عند المحفظ أطيب من المماراة على أن الأمرين بالتخلق والتطبع غير منكرين
1 / 15
إن الأخلاق تابعة لمزاج البدن في الأصل يقال: إن الخلق من الخلق، والولد شبيه بوالده لكنهم لما رأوا كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا أو قلل منه وكف عنه كما يقال لبصير سدد طرفك، واكحل عينيك وقر ناظرك، وكذا يقال للطويل تكامن في هذا الزقاق حتى دخلن وتقاصر حتى تصل لمرور به، وحرضوه عليه لوجود الأمكان، وعدم العجز عن وطئ الجسر في امتثال الأمر، ولا كان الحال هذه، فرقوا ما تقدم التمثيل به في الاستطاعة وبين تكليف ما لا في الوسع، وهذا إن يقال للأعمى لم لا تكون بصيرا وللطويل لم لا تكون قصيرا، فإن الأول من باب الخلق الذي مكن أن ينتقل، والثاني من باب الخلق الذي لا يمكن أن يتبدل، والإمكان مخلوق في المكلف، ولولا هذا لما قال ﵎:) ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها (ثم قال:) قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (فلو لم يكن ممكنا لما لاح الفلاح ليحضه بالحرص على تزكية النفس والاجتهاد في إزالة لبس الدين وقد قالوا ونفائس الأخلاق وخسائسها تكون بحسب التمايز والغرائز فإن كرمت أواصره فمحمول إلا أن تغلب النفس هواها فيشوب من أخلاقها بالمذموم، ومن لومت عناصره مطبوع على الشر إلا أن تحدث بقواها فيمتزج المذموم من أخلاقها بالمحمود، لكن لا يدومان، فإن الطبع أملك للنفس التي هي محله وعلة تضاد أخلاق الكريم إن نفسه الإنسانية ربما ضجت أو اهتضمت فتبعثها أنفتها من العار على المكافأة والانتصار، كما قال الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال أعرابي:
أنا الصاب إن " شورست " يوما وإنني ... جني النخل إن سومحت يوما لأكلي
بسيط يد بالعرف والنكران أقل ... بوعد وإيعاد أقل قول فاعلي
صؤول على الضعف المنيخ وممسك ... غرامي عن الواهي المضلل
وكما قال البحتري:
متى أخرجت ذا كرم ... إليك ببعض أخلاق اللئيم
وكما قال أبو تمام:
أخرجتموه بكره عن سجيته ... والنار قد تنقضي من ناصر السلم
ومن كلام الحكماء كن من الكريم حذرا إن أهنته، ومن اللئيم إن أكرمته ومن العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الفاجر إن عاشرته، وقد تظرف بعض المتأخرين في قوله:
تكرمت لا طبعا وجدت تكلفا ... فقام خطيب في البرية يخطب
فلما أتاك الناس من كل جانب ... منعتهم بالطبع والطبع أغلب
وعلة ذلك في اللئيم أنه ربما كان له صديق يصفي له الود لا يعبأ به جريا على سجيته، فإذا ألم وتكلف من التودد ما لا في وسعه فيعجز، ويقصر ولهذا قال القائل في ذلك:
هيهات لا تتكلفن في الهوى ... فضح التطبع شيمة المطبوع
والسابق إلى هذا القول زهير بن أبي سلمى حيث قال:
ومن يبتدع ما ليس من حتم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس حتمها
وقد أبان بعض المتكلمين في الخلاق السبب في تباينها واختلافها، وتغلب بعضها على بعض فقال المخلوقات على ثلاثة أقسام: إما كامل لا تتطرق إليه النقصانات، وهم أصحاب العالم العلوي) أجسادهم السماوات وأرواحهم الملائكة، ونفوسهم الكواكب. وإما ناقص لا تتطرق إليه الكمالات وهو الحيوان والمعادن والنبات. بقي من التقسيم قسم وهم الذين يكونون كاملين مرة، وناقصين أخرى فإذا صاروا في الكمال كانوا جالسين مع الملائكة في حضرة رب العالمين معتكفين على بابه مواظبين على ذكره متوكلين على رجمته، وأما إذا صاروا في النقصان ومقام الغضب والشهوة، أما في الغضب فتارة يكون كالكلب العقور، والجمل الصؤول، وتارة كالنار المحرقة، والمياه المغرقة وأما في الشهوة فتارة يكون كخنزير أجيع ثم أرسل إلى النجاسات، وتارة كالذباب يدب على القاذورات فهو مع كونه شخصا واحدا، يصدق عليه أنه ملكي نوراني بالفضائل، وشيطاني ظلماني بالرذائل، وقالت الأطباء تباين أخلاق الإنسان عن اختلاف الطبائع فيه فغن الحرارة إذا غلبت على مزاج القلب يكون شجاعا سريع الحركة والغضب قليل الحقد، ذكي الخاطر حسن الأخلاق، وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليدا غليظ الطبع ثقيل الروح، وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب سمح النفس كثير الإنسان، وإذا غلب عليه اليبس يكون صبورا ثابت الرأي، صعب الانقياد والمراس، يضبط ويحقد، ويمسك، ويبخل، وقد لمح بعض الشعراء فقال:
1 / 16
تحمل أخاك على ما به ... وإلا فما فيه مستمتع
وأنى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وعلى أثر ذكر الطبائع سئل جالينوس عن الإنسان فقال سراج ضعيف بين أربع رياح، يريد البروج والطبائع الأربع.
وقال آخرون إنما اختلفت أخلاق الإنسان عن اختلاف الطينة التي خلق منها، لأنها كانت مجموعة من طيب الأرض وخبيثها وسهلها وحزنها، وأحمرها وأسودها وقد أشار بعض الشعراء إلى ذلك بقوله:
والناس كالأرض ومنها هم ... واثمد يجعل في الأعين
ومن تشتكي الرجل منه الأذى ... من خشن قاس ومن لين
ومن أحسن ما يقال من القول الذي يفي بحق الإنسان في التكريم وتعلية درجة التعظيم: إن الله تعالى ركب فيه الضدين بدليل قوله تعالى) وهديناه النجدين (وهما على بعض الأقوال مختلفان، اختلاف المطعم والماء، يصدر أحدهما حالة الأفاقة، والآخر حالة الإغماء وإلى هذا أشار الشاعر بقوله هذا:
تمر على المرء أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
فهذا عذب فرات صلح لأحياء ما هو ن الفضائل في عداد المرات، وهذا ملح أجاج قطع عبابه ما نهج للمدح من المسلك، والفجاج، ولما اقتضت الحكمة الإلهية جبلة على ذلك جعل بازاء كل مذموم من الملائم محمودًا من المكارم لتغشى الظلمة بالنور فبصيرته في خير المستور فتغلبه بعض هذه الأخلاق على بعض، في الإنسان تعلو فيعلو، أو تنقص فيرخص، فإن علا استحق قول الشاعر:
يا كامل الآداب منفرد العلا ... والمكرمات ويا كبير الحاسد
شخص الإمام كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد
وقول الآخر:
قد قلت حين تكاملت وغدت ... أخلاقه زينًا بلا شين
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين
وإن نقص استحق أن يقال فيه:
تأنست بذميم الفعل طلعته ... تأنس المقلة الرمداء بالظلم
القول في معنى تسميتهم الإنسان بالعالم الصغير فذلك كمن وجوه: منها أن معنى تسميتهم أوجد المخلوقات خمسة ضروب الجماد والنبات والحيوان والشيطان، والملك، وكلها مجموعة في الإنسان فهو جماد حيث يكون نطفة ولا حركة فيه ولا حس وهو نبات حيث ينمو ويغتذي، وهو حيوان يلد ويألم وهو شيطان حيث يقوى ويضل، وهو ملك حيث يعرف الله تعالى ويعبده.
ومنها أنه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفيه، ولأنه ينهش اللحم كما تنهش السباع، ويأكل البقول كما تأكله البهائم، ويقضم الحب كما تقضمه الطير، ولهذا قالوا لا متفرق لو جمع كان منه إنسان إلا العالم، ولا مجتمع لو فرق كان منه العالم إلا الإنسان، فهو إنسان بالفعل عالم اكبر بالقوة، وعالم أكبر بالفعل إنسان بالقوة.
ومنها أن الله تعالى خلق المخلوقات في عالم الأجساد على أربعة أصناف قائم كالأشجار، وراكع كالبهائم، وساجد كالحيات، والحيتان، وجالس كالجبال، فخلق الإنسان حيث يكون تارة قائمًا، وتارة راكعًا، وتارة ساجدًا، وتارة قاعدًا ويقال إنما بالعالم الصغير لأنهم مثلوا رأسه وروحه بالشمس إذ قوام للعالم إلا بها، كما لا قوام للجسد إلا بالروح، وعقله بالقمر لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود، ومثلوا حواسه ببقية الكواكب السيارة، وآراؤه بالنجوم الثابتة ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد وضحكة بالبرق، وظهره بالبر وبطنه بالبحر ولحمه بالأرض وعظامه بالجبال، وشعره وأعضاؤه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، ومغار عروقه بالعيون.
1 / 17
ومنها أن فيه ما يشاكل الجمع، والشهور، والأيام، والسنة، أما الجمعة فإن بدنه سبعة أجزاء وهم: اللحم، والعظام، والأعصاب، والعروق، والدم، والجلد، والشعر وأما الشهور فإن لبدنه اثنا عشر جزء مدبرًا منها ستة باطنة وهي الدماغ والقلب، والكبد والطحال، والمعدة والأنثيان، وستة ظاهرة وهي العقل والحواس الخمس، وأما الأيام فان فيه ثلاثمائة وستين عظمًا منها ما هو لبنيه الجسد، مائتان وخمسة وستون عظمًا، والباقي سمسانية لسد الفروج التي تكون بين العظام، فإن فيه أربعة أخلاط طبعها طبع الفصول الأربعة، فالدم الربيع في حرارته ورطوبته، والمرة الصفراء كالصيف في حره ويبسه، والمرة السوداء كالخريف في برده ورطوبته وسئل أرسطو طاليس: فما تقول في البلغم؟ قال الملك الأكبر إن فتحت عليه بابًا، فتح بابًا، قيل فما تقول في الدم؟ قال عبدك وبيدك، وربما قتل العبد مولاه، قيل فما تقول في المرة الصفراء؟ قال كلب عقور في حديقة، قيل فما تقول في المرة السوداء؟ قال هيهات تلك الأرض إذا ماجت ماج عليها وقال جالينوس: البلغم في الجسد كالسبع الذي لا يضرب شيئًا إلا قتله، وإن منه السودان، كاللص إذا دخل الدار عمد إلى خير شيء فيه فسرقه، يغلب على القلب والدماغ فيفسدهما، والدم كعبد السوء ربما قتل سيده فدواؤه إخراجه لأن التصفية لا تنفع فيه، والصفراء يرضيه اليسير، ويصلحه القليل فهي تهيج بالثمرة وتعمقها شربة باردة وهذه الأخلاط من أول مزاج الأركان التي هي العناصر الأربعة، وهي النار، والهواء، والماء، والأرض، ومزاجها تقابلها وازدواج بعضها ببعض، ومن هذه الأركان يبتدئ التركيب، واليها ينتهي التحليل وهي على الجملة، فالإنسان وعاء القوي وظريف المعاني وطينة والصور ومعدن الآثار، وهدف الأعراض، ولكل شيء فيه نصيب، ومن كل شيء عنده حلية وله إلى كل شيء مسلك، وبينه وبين كل شيء نسبة ومشاكلة، وهو جملة أشياء لا تنفصل، وتفصيل حقائق لا تتصل، وهو لب العالم بين المتوسط بين العالمين وله نزاع إلى الطرفين إلى ما حط عنه بالتشوف إلى الكمال، وإلى ما يعلو عنده بالتنزه عن النقصان، وهو تابع للغالب، ومنجذب مع الجاذب، وفاعل فيما علا عليه، وقبل أثره، وقابل مما انحط عنه وسرى إليه أثره والله اعلم بالصواب.
الباب الثاني
في ذكر طبائع ذي الناب والظفر
قال ابن أبي الأشعث: الحيوان السبعي أرضي ناري، وإنما قيل له أرضي ناري لما فيه من العدو والخفة والافتراس، وأكل الدم واللحم الحي، وجميع ذلك بطبعه الناري، وإنما قيل له الأرضي لأن اليبس فيه مفرط لغلبة يبس الأرض على حر النار، وحر النار مساعد غير معاند فلهذا هو أشد الحيوان واجرؤه، وهو قوي الصلب شديد الختل عاسي الجسم شرس الأخلاق لا يألف كل نوع من أبناء نوعه لشراسته واستئثاره هو نفسه، ولا يتزوج، ولا تربي الذكور أولادها لقساوة قلوبها، وإن وجدت جراها أكلتها، ولنجعل أول ما نذكر من هذا النوع
القول في طباع الأسد
1 / 18
وإنما بدأنا به أولا لأنه أشرف هذا النوع لأن منزلته في منزلة الملك المهيب لقوته، وشجاعته، وقساوته، وجهامة خلقه، وشارسة خلقه، والذي يعرفه الناس منه صنفان أحدهما مستدير الجثة، والاخر طويلها كثير الشعر، وعد أرسطو في هذا النوع ضرويًا كثيرة، وحكى عن بعض من تكلم في طبائع الحيوان قلبه أن في أرض الهند سبعا سماه باليونانية في عظم الأسد وخلقته، ما خلا وجهه فإنه شبيه بوجه الإنسان ولونه شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، وفي طرفه جمة وله صوت يشبه الزمارة وهو قوي يأكل لحوم الناس وذكر أن في السباع ما يكون في عظم الثور وفي خلقته، له قرون سود طولها في قدر شبر إلا أنه لا يحرك الفك الأعلى كما يحركه الثور، ولرجليه أظلاف مشقوقة، قصير الذنب بالنسبة إلى نوعه، ويحفر بخرطومه، وينسف التراب، وإذا جرح هرب، وإذا ضعف رمح برجليه، ورمي برجعيه على بعد، فأما السبع الذي صدق فيه الخبر فإن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون: إن اللبوة لا تضع إلا جروا واحد وتضعه بضعة لحم ليس فيها حس ولا حركة، فتحرسه من غير حضان ثلاثة أيان ثم يأتي أبوه ذلك فينفخ في تلك البضعة المرة بعد المرة حتى تتحرك، وتتنفس فتنفرج الأعضاء، وتتشكل الصورة ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلا بعد سبعة أيام من تخلقه، وهي ما دامت ترضع لا يقربها الذكر البتة، فإذا مضت على الجرو ستة أشهر كلف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب، وطارد الذكر الأنثى، فإن كانت صارفة أمكنته من نفسها، وإن لم تكن دفعته ومنعته، وبقيت مع شبلها بقية الحول وستة أشهر من الثاني، وحينئذ تألف الذكر وتمكنه من نفسها، وللأسد بعد: الوثبة واللصوق بالأرض والإسراع في الحضر إذا هرب، والصبر على الجوع، وقلة الحاجة إلى الماء ما ليس لغيره من السباع وهو إذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها ولو جهده الجوع ولا يأكلها غيره، وإذا أكل يقيم يومين وليلتين بلا طعام لكثرة امتلائه ويجعر بعد ذلك جعرا يشابه جعر الكلب، وإذا بال رفع إحدى رجليه كالكلب وإذا فقد أكله صعب خلقه، وإذا امتلأ بالطعام، فهو وادع، وأكل الجيف أحب إليه من اللحكم العريض الغض، وهو لا يثب على الإنسان للعداوة، ولكن للطعم، فإنه لو مر به وهو شبعان لم يتعرض له، وهو مع ذلك حريص نهم، واسع النحر ينهش ولا يمضغ، قليل الريق ولهذا يوصف بالبخر، ولحم الكلب أحب اليه، ويقال إنما ذلك لخفته عليه فإنه إذا أراد الطواف في جنبات القرى الح الكلب بالنباح عليه والإنذار به، فيرجع خائبا لنهوض الناس عليه، فإذا أراد ذلك بدأ بالكلب ليأمن إنذاره، ومن شأنه إذا أكثر من حسو الدم واكل اللحم، وحلت نفسه منهما طلب الملح وجعله كالحمض بعد الحلة فهو يطلبه، ولو كان بينه وبين عريسه خمسون فرسخا، ويوصف بالجبن والجرأة، فمن جبنه أنه يذعر بصوت الديك، ومن نقر الطشت، والضرب على الطنبور والحبل الأسود، والديك الأبيض، والسنورة، والفأرة، وقد تكون النار من أسباب اغتراره واغتياله لأنه يعتريه ما يعتري الظباء والوحوش عند رؤيتها النار من الحيرة والعجب بها وإدمان النظر إليها، والفكر بها حتى تشغله عن التحفظ والتيقظ، ومن جرأته أنه يقدم على المقنب الكبير، والجمع الكثير، والأسد الأسود أكثر جرأة وجهالة وكلبا على الناس ويقال: إن الأنثى أجرأ من الذكر، والجاحظ لا يعجبه هذا القول ويقول: إنما هي أنزق ومن عادته إذا عاين أحدا لا يفزع ولا ينهزم، وإن ألجئ إلى ذلك وأحس بالصيادين تولى، وهو يمشي مشيا رفيقا، وهو مع ذلك ملتفت يضمر الخوف ويظهر عدم الاكتراث، فإن تمكن منه الخوف هرب عجلا حتى يبلغ مكانا يأمن فيه فإذا علم أنه آمن مشى ميادا، وإن كان في سهل وألجئ إلى الهرب جرى جريا شديدا كالكلب، وإن رماه أحد ولم يصبه شد عليه، فإن أخذه لم يضره وإنما يخدشه، ثم يخليه كأنه من عليه بعد الظفر به، وإذا شم رائحة الصيادين عفا أثره بذنبه وفيه من شدة البطش ما أنه يأتل الجمل فيضرب جنبه بيده فيثني الجمل عنقه كأنه يريد عضه بيساره إلى مشعره فيجذبه جذبة يفصل بها بين دأيات عنقه، وإن ألفاه قائما وثب عليه، فإذا هو في ذروة سنامه فعند ذلك يضربه كيف شاء ويتغلب به كيف أحب ومن عجيب أمره أنه لا يألف شيئا من السباع لأنه لا يرى فيها ما هو كفؤ له فيصحبه، ولا يطئ على اثره شيء منها، ومتى وضع جلده مع سائر
1 / 19
جلودها تساقطت شعورها، ولا يدنو من المرأة الطامث، ومتى مس قوائمه لحاء شجر البلوط خدر ولم يتحرك من مكانه وإذا غمره الماء جاء الصبي حتى يركب على ظهره ويقبض على أذنه، ولا تفارقه الحمى ولذلك الأطباء يسمون الحمى داء الأسد، وعظامه عاسية جدا، وإن دلك بعض عظامه ببعض خرجت منها نار كما يخرج من الحجارة، وكذلك في جلده من القوة والصلابة، ما لم يعمل فيه السلاح إلا من مراق من بطنه، وليس في الأسود إلا وحشيا، وقد يطول مثوى الواحد مع الناس حتى يهرم وهو في جميع حالاته صعب شديد العزم لا تؤمن شروره إن انفرد من سوامه وأبصر غيضة بين يديها صحراء، ويبلغ من العمر كثيرا، وعلامة ذلك أن يصاد فيوجد مهشوم الأسنان وليس ذلك إلا من الكبر.
الوصف والتشبيه
وصفه أبو زيد الطائي في حكاية حكاها لعثمان بن عفان ﵁ وقد لقيه فقال:) أقبل يتظالع من بغيه، ولصدره غيظ، ولبلاعيمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض كأنما تخبط هشيما، أو يطأ صريما، ذا هامة كالمجن، وخد كالمسن، وعينان سجراوان كانهما سرجان، وقصرة ربلة، ولهزمة رهلة وساعد مجدول وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن، ومخالب كالمحاجن وفم أشدق كالغار الأخرق يفتر عن معاول مصقولة غير مغلولة، فهجهجنا به قرقر وبربر ثم زأر فجرجر، ثم لحظ البرق يتطاير من جفونه عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل، وجحظت العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون، وقد روى آخرون في حكايته وصفا آخر، وكان الوصفان مصنوعين على لسانه، إذ العرب قلما تسترسل في السجع.
وهو له عينان حمراوان مثل وهج الشرر كأنما نقرتا بالمناقر عرض حجر لونه ورد، وزئير رعد، هامته عظيمة، وجبهته سقيمة، نابه شديد، وشره عتيد، إذا استقبلته قلت أقرع، وإن استدبرته قلت أقرع، لا يهاب إذا الليل عسعس، ولا يجبن إذا الصبح تنفس ثم أنشد:
عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الإقدام للقرن قاهر
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغصا في وجهه الشر طائر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
ومن التهويلات في الأسد نظما قول القائل:
إياك لا تستوش ليثا مخدرا ... للهول في غسق الدجى دواسا
مراسا كأمراس القليل جدوله ... لا يستطيع له الأنام مراسا
شثن البراثن لمحاجن عطفت ... أظافره فتخالها أقواسا
لان الحديد لجلده. . . فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا
مصطكة أرساغة بعظامه ... فكأن بين فصولها أجراسا
وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها مقباسا
وقال آخر يصفه:
توق وقاك رب الناس ليثا ... حديد الناب والأظفار وردا
كأن بملتقى اللجين منه ... مذربة الأسنة أو حدا
وتحسب لمح عينيه هدوء ... ورجع زئيره برقا ورعدا
تهاب الأسد حين تراه منه ... إذا لاقته في الغاب فردا
تصيد من الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تأنف يصيدا
وقال الناشئ يصفه:
رب ذي شبلين قسورة ... قد أجم الحين في اجمه
لا يرى حيا يطيف به ... لا ولا يدنو إلى حرمه
كمجن الحرب هامته ... وكغفور النار غور فمه
وكجدل الجذع قصرته ... وكهضيب صعب ملتزمه
وتظفر القد ساعده ... وتلف رحب مبتسمه
وكوقب الشعب فعلته ... وكلصب شعب ملتقمه
ولناب الناب مخلبه ... حين ينجيه بمختطمه
وكأن الموت معترض ... بين لحييه وملتثمه
1 / 20