То, что остается каждой ночью из ночи
ما يتبقى كل ليلة من الليل
Жанры
قلت له: لم أر غير الفراغ.
إذن يا صديقي: ماذا بعد؟
ما حملته لما لا يحتمل، ما شيدته لمن لا يسكن، ما قولته لمن لا قول له ولا لسان، ما أطعمته إلى من ليس بذي بطن وعاطفة وجوارح، لما صليته وأركعته لمن لا مواقيت له ولا هدى، لما أنكحته لمن هو بلا فرج، لمن؟
إذ قال لي الشيطان: يا بركة ساكن، اسمع عني كل شيء، وأنكرني بكل شيء، وإذا عبدتني عبدتك، وإذا كفرت بي فإنما أنت تكفر بك، إذا رأيت في الشمس شيئا غير القمر، فإنك لم تر الشمس ولم تر القمر، وكانت السماء مسحبة، ولم يكن الوقت ليلا ولم يكن نهارا، ما كنا لننتظر القيامة لنعرف الحقيقة، وما كنا لنتوق للموت لنصحو، وما كنا لنتأمل الجرح لنعرف وقاحة المدية، وما كنا لنستنشق الدم، أو نبارك المبولة، لنتحرى ديمومة الجسد، ولكن في سعة الفراغ مقبرة تكفي للجهل والمعرفة، سرير وثير للصحو والنسيان، جرار الأغنيات الطيبات وموسيقى نهاياتنا، سننشدنا بأناملنا، وصرصور العقل الذكي: السقوط في الهاوية يعني أن تدرك اللاقاع، والنهاية قد تحدث دون معانقة غرار صلب، الهواء الطازج يذبح كما السكين.
دعنا نبدأ من أول القول: ليس كل ما يقود إلى مكان ما، هو طريق، وليس كل ما لا يقود إلى مكان ما، هو غير الطريق، من قال لك: إن الشيطان لا يلبس لباس الشيء؟ ومن قال لي: ما لم يلبس لباس الشيء هو ليس بشيطان؟
ما لم أقله للسيد: إنه عندما سقطت قبعته رأيت في فراغ جمجمته جميع الأشياء، أظنني لم أر سواي.
لعنة الكتابة وكتابة اللعنة
كنت في غرفتي، وهي عبارة عن بناية صغيرة من الطين اللبن، وبعض أفرع الأشجار الغليظة والبانبو في مدينتي الصغيرة «خشم القربة»، بنيتها بنفسي بالطوب الذي صنعته من ذات تراب البيت، في مجرى مائي قديم قمت بدفنه وتحويله لاتجاه آخر، على الرغم من تحذير الجميع لي بأن الماء لا يترك مجراه، ولكن لخيبة ظنون الجميع لم يعد إلى مجراه حتى اليوم، مما أكد لأمي فكرتها الأساسية عني عندما داهمتني فيه، وأنا أضع أمامي كومة كبيرة من الأوراق، وفي يدي قلم كوبيا، أدون أشياء لا تنتهي بصورة متواصلة. قالت لي: «يا عبدو»، وهذا هو الاسم المحبب لديها ولدي «هل تدري ما تكتب؟» قلت لها: نعم. قالت لي: لا، أنت لا تدري ماذا تكتب؛ لأن ما تكتبه هو ما يمليك إياه الشيطان الذي كان يسكن معنا في البيت بالقضارف وأنت صغير، لقد كان صديقك، هل تذكره؟
وكنت أيضا أعرف أن كثيرا من أفراد أسرتي يعتقدون بأن لدي شيطان في بيتي، وأكد خالي جبريل - عليه الرحمة - أنه رآه ينزل ذات صباح باكر من شجرة التمر هندي التي في فناء داري، يلبس جلبابا أبيض ناصع البياض ويدخل إلى حجرتي، ورأته ابنة خالتي، وهي عادة ما تستيقظ مبكرة لصناعة كسرة الخبز التي تبيعها لأحد مطاعم القرية. لم أتعرف على ملامحه تماما، ولكنه كان عبارة عن كتلة سوداء تفوح منها رائحة عفنة، وصوته أشبه بالشخير، كان ينظر إلي عبر نافذة المطبخ، وعندما صرخت، هرب ناحية بيت عبدو الذي لم يكن موجودا حينها في المدينة إلى اليوم - حيث أنني أسافر كثيرا في البلدان - أترك بيتي دون حراسة، لا لأن ليس به ما يسرق غير الكتب، ومخطوطات كتبي التي دونتها في أزمنة لم يكن فيها الحاسوب الآلي مشاعا للفقراء؛ لكن لأن اللصوص يعرفون أن ببيتي شيطانا يحرسني، ويؤلف لي الروايات والقصص، ويصيبني بقدر من اللعنة معقول، لا يريدون نيل جزء منها ولو يسير؛ لذا عندما اعتقلت أول مرة في عام 1993 قالت لي أمي - عليها الرحمة - مرة أخرى: «يا عبدو خلي الكتابة»، عندما اعتقلت في مرات كثيرة لاحقات، كان يطالبني ضباط الأمن بأن أترك الكتابة «استرح وأرحنا»، في عام 2012، عندما أخذني شاب صغير من قوات الأمن الوطني إلى مكتب الاستخبارات بمدينة الدمازين قال لي: «اكتب لنا كل أسماء كتبك وموضوعاتها، وأعطني إياها في ذاكرة إلكترونية، واكتب لي إقرارا تلتزم فيه بألا تنشر هذه الكتب؛ لأنها ضارة بالمجتمع.» لأنني أطيع رجال الأمن وخاصة العنيفين منهم، الذين يستخدمون جملا مباشرة لا لبث فيما تعني، وأعلم أيضا أن الروائي مخلوق ضار؛ لأنه يخل بوضعية السكون الكسول التي يفضلها ولاة الأمر، تلك المحببة للمجتمع.
كتبت الإقرار وكسبت حريتي، لكن شيطاني اللعين الماكر لم يرضه ذلك، حيث وسوس في صدري بأن أحضر كتبي التي نشرتها بالقاهرة إلى معرض الكتاب بالخرطوم في نفس العام، كانت اللعنة الكبرى، حيث تعرضت حياتي لأول مرة لخطر الفناء الأبدي من خريطة الأحياء، وكدت أن أسجل حضورا دائما في دفتر الموتى لولا أنني هربت للمنفى حيث أقيم الآن، في قرية نائية وسط جبال الألب.
Неизвестная страница