ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصوفية والغلو فيها - ضمن «آثار المعلمي»
ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصوفية والغلو فيها - ضمن «آثار المعلمي»
Исследователь
عدنان بن صفا خان البخاري
Издатель
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٣٤ هـ
Жанры
الرسالة السابعة
ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصُّوفيَّة
والغلو فيها
6 / 249
فصلٌ (^١)
وأمَّا قوى النُّفوس البشريَّة فأشهرها الإصابة بالعين، وهي مشهورة بين النَّاس، لا تكاد ترى أحدًا إلَّا حكَى لك بعض ما يزعم أنَّه شاهده أو أُخبِر به. وفيها فُسِّر قوله تعالى في سورة الفلق: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (٥)﴾.
وقال تعالى فيما قصَّه عن يعقوب ﵇: ﴿يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٦٧ - ٦٨]. قال أكثر المفسِّرين: «خشي عليهم العين» (^٢).
وفي «الصَّحيحين» وغيرهما (^٣)، عن أمِّ المؤمنين عائشة ﵂ قالت: «أمر النَّبي ﵌ أن يُسترقَى من العين».
وصحَّ نحوه عن أمِّ المؤمنين أمِّ سلمة، وجابر، وأنس، وغيرهم من الصَّحابة ﵃ (^٤).
_________
(^١) وقع سقط من أول الرسالة، لا يُدرى كم مقداره.
(^٢) هو قول ابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك ومجاهد وقتادة. يُنظَر: «الدُّر المنثور» للسيوطي (٨/ ٢٨٦ - ٢٨٧).
(^٣) البخاري (٥٧٣٨)، ومسلم (٢١٩٥)، وابن ماجه (٣٥١٢).
(^٤) حديث أم سلمة عند البخاري (٥٧٣٨) ومسلم (٢١٩٧). وحديث جابر عند مسلم (٢١٩٦). وحديث أنس عند مسلم (٢١٩٦). وأخرجه الترمذي (٢٠٥٩) من حديث أسماء بنت عُميس.
6 / 251
وفي «صحيح مسلم» (^١) عن ابن عباس ﵁ عن النَّبي ﵌ قال: «العَيْن حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابق القَدَر سَبَقَته العَيْن، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلوا».
وفي «مسند أحمد» (^٢) من حديث أبي هريرة ﵁ مرفوعًا: «العين حقٌّ، ويحضر بها (^٣) الشيطان وحَسَد بني آدم».
قالوا: وسببها أن ينظر الإنسان إلى شيءٍ لغيره فيُعجَبُ به، ويحسد صاحبه عليه، فتتولَّد في نفسه قوَّةٌ تتَّصل بذاك الشيء فيُصابُ، والحكايات في ذلك كثيرةٌ، وفيها ما يقضي أنَّ المعيان قد يعين وهو أعمى، وقد يعين ما لا يراه.
وممَّا هو مسلَّمٌ عند فلاسفة العصر ما يسمُّونه بـ «التَّنويم المغناطيسي» (^٤).
_________
(^١) حديث (٢١٨٨).
(^٢) (٢/ ٤٣٩).
(^٣) في الأصل: «يحضرها».
(^٤) يُنظَر في: «قصَّة الحضارة» لوِل ديورانت (١/ ٨٩٦)، و(١٢/ ١٢٤٧٨)، و(١٤/ ١٤٦٣٧) كيف انتقل التنويم المغناطيسي من الهند إلى أوربا، وبدايات استخدامه كعلاجٍ عندهم.
تنبيهٌ: وقد يُفهم من ظاهر كلام المؤلِّف ﵀ في هذا الموضع وموضعٍ تالٍ التسليم بكونه علمًا حقيقيًّا وقوَّة ذاتيَّة لبعض الأشخاص، وهذا ليس بصحيح؛ إذ أشار ﵀ كما سيأتي (ص) أنَّه أشبه بسحر العقول، فإن ثبَت التنويم حقيقةً فهو كفعل المشعوذين والسَّحرة في استعانتهم بالجن والشياطين للتأثير على أجسام الناس وعقولهم.
6 / 252
وحاصله أن يرتاض الإنسان برياضةٍ مخصوصةٍ، بالمواظبة على جمع فِكْرِهِ في نقطةٍ يحدِّق ببصره إليها، فبعد مُدَّةٍ تحصل له قوَّة التنويم، بأن يحدِّق بعينيه إلى إنسان ويتحرَّك حركاتٍ مخصوصةٍ، فلا يلبث المنظور إليه أن يصيبه ذهول وتشنُّجٌ، ثم يسقط مغشيًّا عليه.
وتكون للمنوِّم سلطةٌ على النَّائم بأن يسأله فيجيب وهو لا يشعر، ويحسُّ الأطبّاء نبْضَه ويختبرونه فيعلمون أنَّه لا يزال نائمًا رغمًا عن قيامه وكلامه وفعله.
وقد تزداد القوَّة إلى حدِّ أنَّه يبقى سلطان المنوِّم على ذاك الشَّخص حتى بعد إفاقته ولو بمدَّة.
هذا والمشهور في قوَّة الإصابة بالعين أنَّها تكون طبيعيَّة لبعض النَّاس، ولكن قد تكون مكتسبةً، إمَّا بغير اختيار كما يقول الناس: إنَّ من نشأ يتيمًا محتاجًا يرى الأشياء التي تشهيها نفسه فلا يصل إليها ينشأ معيانًا. وإمَّا باختيار.
ففي «شرح المقاصد» (^١): [«يكون لبعض النفوس خاصية أنها إذا استحسنت شيئا لحقته الآفة فثبوتها يكاد يجري مجرى المشاهدات التي لا تفتقر إلى حجة وقد قال النبي ﷺ: «العين حق»، وقال: «العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر» (^٢).
_________
(^١) (٢/ ٢٧٠).
(^٢) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٦/ ٤٠٧) وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ٩٠) وغيرهما، من طريق معاوية بن هشام القصار عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر مرفوعًا به. وقد حسَّنه الألباني في «الصحيحة» (١٢٤٩).
6 / 253
وذهب كثير من المفسِّرين (^١) إلى أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ الآية [القلم: ٥١] = نزل في ذلك، وقالوا: إنَّه كان العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوَّع ثلاثة أيامٍ فلا يمرُّ به شيءٌ يقول فيه: لم أر كاليوم إلَّا عانَهُ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصِّفة أن يقول في رسول الله ﷺ ذلك فعَصَمَه الله ..»] (^٢).
فأمَّا ما حصل بغير اكتساب اختياريٍّ فظاهرٌ أنَّه لا يوجب ذمَّ صاحبه، إلَّا أنَّ عليه أن يحتاط، فإذا رأى ما يعجبه ذَكَر الله تعالى ودعا بالبَرَكة، وإذا اتُّهِم بالإصابة فاستُغسِل فلْيغتسل، كما في الحديث.
وأمَّا المكتسبة بالاختيار فهي فيما يظهر من السِّحر، واكتسابها داخلٌ في تعلُّم السِّحر.
ومن جملة قوى النُّفوس ما هو حاصلٌ لبعض الناس الذين يرقون من الحيَّة والعقرب ونحوها؛ فإنَّهم قد يرقون بألفاظٍ لا معنى لها.
وفي الآثار النَّبويَّة ما يدلُّ على الإذن بالرقية بالألفاظ التي ليس فيها تعظيمٌ لغير الله ﷿، وإن لم يكن فيها ذكر الله تعالى، ولا دعاء له، وأرى أنَّ الإذن في ذلك إنَّما هو اعتداد بما يصحبه من قراءة [....] (^٣).
ومن قوى النُّفوس ما يكتسب برياضتها، فإنَّه كما أنَّ القوى البدنيَّة يمكن تتميمها بالرِّياضة، كَمَن يواظب على رفع الأثقال؛ فإنَّه بعد مُدَّةٍ يستطيع
_________
(^١) يُنظَر: «الدر المنثور» للسيوطي (١٤/ ٦٥٦ - ٦٥٧).
(^٢) ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلِّف.
(^٣) خرمٌ مقدار سطرين.
6 / 254
ضعف ما كان يستطيعه قبل، وكذلك في الجري على الأقدام، والرَّمي بالأحجار، والمشي على سلك ممدود بين عمودين، وغير ذلك ممَّا هو معروف في الألعاب الرِّياضية.
وكذلك الشَّعبذة التي تعتمد خِفَّة الحركة؛ فإنَّ ذلك القَدْر من سرعة الحركة لا يحصل إلَّا بمعاناة الحركات السَّريعة مدَّةً.
فكذلك قُوَى النُّفوس يمكن تربيتها بالرِّياضة، فقد علِمْتَ ممَّا تقدَّم أنَّ بعض النُّفوس تكون بها بطبيعتها قوَّة التأثير بالإصابة بالعين وبإزالة الألم الحاصل من لدغ العقرب ونحو ذلك، وأنَّ ذلك قد يُكْتَسَب كما يُكْتَسَب قوَّة التَّنويم المغناطيسي ونحوه.
غير أنَّ الرِّياضة هنا تختلف وعمادها أمران: إضعاف القُوى الجسديَّة، والتعوُّد على جمع الهِمَّة، وحصر الفِكر في شيءٍ واحدٍ.
وهذه الرِّياضة معروفةٌ عند قدماء اليونان والهنود وغيرهم، وقد يفعلها المسلمون وعملوا بها، كما نقلوا المنطق والفلسفة وعملوا بها، ولم تَلْقَ هذه من المعارضة كما [تلقَّت] (^١) الفلسفة ذلك؛ لأسباب.
منها: أنَّ في العبادات الإسلاميَّة ما يشبهها في الجملة، كالصِّيام، والقيام، والاقتصاد في الأكل والشرب، واعتزال الناس إذا خشيت من الناس مفسدةً.
ومنها: أنَّ بعض الزُّهَّاد من التَّابعين وغيرهم بالغوا في العبادات الإسلاميَّة، حتى قربوا من هذه الرِّياضة؛ فداوموا على الصيام، وواصلوا فيه،
_________
(^١) في الأصل «تقلت».
6 / 255
وأداموا قيام جميع اللَّيل. وبالغوا في الاقتصاد في المطعم؛ لعزَّة الحلال الصِّرْف في نظرهم. وامتنعوا عن النِّكاح؛ لعجزهم ــ بزعمهم ــ عن القيام بمصالح الأهل والولد من الحلال. وبالغوا في العُزلة والخلوة.
ومنها: أنَّ الذين نقلوا هذه الرِّياضة وعملوا بها تلطَّفوا بإدراج كل منها فيما يشبهه من العبادات الشَّرعيَّة. إلى غير ذلك.
وبالجملة فهذه الرِّياضة كما توجد في كتب الهنود وغيرهم توجد في كتب المتصوِّفة بنصِّها وفصِّها؛ إلَّا أنَّ بعضها قد ألبس صورةً غير صورته، كرياضة التنفُّس عند الهنود وغيرهم، وقد ذكرها المتصوِّفة بلفظ «هو الله»، «الله هو»، وجمع الهِمَّة في شيءٍ صوَّرَهُ المتصوِّفة بجمع الهِمَّة في تصوّر الشيخ.
ومنها ما أبقوه على صورته، كأن لا يأكل من روحٍ، ولا مَن خرج مِن روح، وغير ذلك.
وبالجملة فهذه الرِّياضة لقيت قبولًا تامًّا على اختلاف الأغراض.
فمن الناس من كان غرضه منها إضعاف شهوات جسده؛ ليتمكَّن من كثرة العبادة، والإعراض عن الشهوات.
ومنهم من كان حريصًا على الاطِّلاع، فَغَرَضُه منها ما تثمره من قوَّة الإدراك، المسمَّاة بالكشف ونحوه.
ومنهم من كان له غرَضٌ سياسيٌّ تعاناها ليظهر بمظهر الزاهد في الدنيا المقبل على العبادة، ثم لعلَّه يحصل له شيءٌ من قوَّة الإدراك وقوَّة التأثير، فيدَّعي الوَلاية أو المهدويَّة!
6 / 256
ومنهم من كان غرضه الجاه والثروة، فتعاناها لنعتقد فيه الولاية، فيقبل عليه الناس بما يريد.
ومنهم قومٌ كانت لهم عقائد دينيَّة شاذَّة، يخافون من إظهارها أن يُقتلوا أو يُؤذوا أو يُمقتوا؛ فتعانوا تلك الرِّياضة لتحصل لهم تلك القوَّة؛ فتعتقد فيهم الوَلاية، فيظهروا تلك العقائد، فيُقبِل عليها الناس لحسن الاعتقاد في أصحابها.
ومنهم قومٌ تعانوا الفلسفة؛ فحصلت لهم عقائد منافية لعقائد الإسلام، وخافوا من إظهارها، فحالهم كحال الذين قبلهم.
ومنهم قومٌ يضمرون الكيد للإسلام ويريدون إطفاء نوره؛ فتعانوا تلك الرِّياضة، حتى إذا اعتُقِدت فيهم الوَلاية أظهروا الأقوال والعقائد المنابذة للإسلام، على نحو ما تقدَّم.
ومنهم ــ وهم كثير من المتأخِّرين ــ قومٌ ظنوا أنَّ تلك الرِّياضة هي خلاصة العبادات الشَّرعيَّة الموصلة إلى الوَلاية.
هذا والعارفون بحقيقة تلك الرِّياضة لا يشترطون دينًا خاصًّا، ولا مذهبًا خاصًّا، بل يعلِّمونها كلَّ إنسان مهما كان دينه ومذهبه، ويوصونه بالمواظبة على العبادات التي يعتقدها، فيوصون المسلم بالصيام والقيام، والوثني بالعكوف على الأصنام، وغير ذلك!
يرون أنَّ ذلك ممَّا يساعد على حصول المقصود بتلك الرِّياضة، ولاسيّما جمع الهِمَّة، وحصر الفِكْر، وقوَّة التخيّل.
6 / 257
ويسرع حصولها للمريد إذا كان يرتاض على يد شيخٍ عارف بقوانينها، قد حصَّلت له نفسه قوَّة التأثير، فهو يؤثِّر بها في نفس الطالب، مساعدًا له على استحصالها.
ويبقى النظر في حكم العمل بهذه الرِّياضة.
والمعروف في الشَّريعة هو النَّهي عمَّا يكاد يقرب من الغلو في العبادة، كصيام الدهر، ومواصلة الصوم، والمداومة على قيام جميع الليل، وترك التزوُّج، والامتناع من أكل اللَّحم، ونحوه.
والمعروف فيها أيضًا أنَّ السِّحر كفرٌ أو كبيرةٌ، وأنَّ تعلُّمه كذلك.
والمتصوِّفون يصرِّحون بأنَّ من سلك تلك الطريق تحصل له قوَّة السِّحر، وأنَّ كثيرًا منهم يقف عندها ويستعملها فيكون ساحرًا.
ويصرِّحون بأنَّ الشياطين تولع بمَن سلك تلك الرِّياضة، يخيِّلون له، ويصوِّرون، ويقضون له بعض الأغراض؛ يوهمونه أنَّه قد بلغ درجة الوَلاية، أو ما هو أعظم منها؛ ليضلُّوه ثم يُضلِّوا به.
وأنَّ من ارتاض رغبةً في أن تحصل له قوَّة المكاشفة، وقوَّة التأثير فهو على ضلال، والمعنى أنَّه يرتاض تعلُّمًا للسحر.
وأنَّ من ارتاض طالبًا للحق قد يعرض له من الاغترار بتلك القوَّة وتخييل الشياطين ومساعدتهم ما يوقفه عندها، إمَّا ميلًا إلى الهوى، فيكون ساحرًا حقًّا، وإمَّا ظنًّا أنَّه قد صار من أولياء الله، وهو في الحقيقة من أولياء الشيطان.
ويذكر الغربيُّون عِدَّة وقائع من تأثير النُّفوس، منها أنَّ بعض الأفراد
6 / 258
يوجِّه همَّته إلى بعض أعضائه، فيحدث فيه جرح ظاهر، يسيل منه الدَّم، ثم يوجِّه همَّته إليه فيزول كأن لم يكن، أو يضرب نفسه بسكِّين فيحدث الجرح ثم يوجِّه همَّته إليه فيلتئم ويبرأ في الحال، وغير ذلك.
ومن تأثير النُّفوس سِحر الأبصار، كما قصَّه الله ﷾ عن سحرة فرعون، قال تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ [طه: ٦٦ - ٦٨]، وقال ﷿: ﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ١١٦].
وروى البخاري في «تاريخه» (^١) [في ترجمة جندب بن كعب قاتل الساحر، «وقال الأعمش عن إبراهيم أراه عن عبد الرحمن بن يزيد أنَّ جندبًا قتل السَّاحر زمن الوليد بن عقبة.
حدثنا إسحاق حدثنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي عثمان: كان عند الوليد رجلٌ يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسَهُ، فعَجِبْنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله»] (^٢).
والقصَّة مشهورة، راجع ترجمة جندب في «الإصابة» (^٣).
وفي ترجمة السُّهْرَوردي المقتول وغيره أشياء تشبه ذلك.
_________
(^١) «التاريخ الكبير» (٢/ ٢٢٢).
(^٢) ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلِّف ﵀.
(^٣) «الإصابة في معرفة الصَّحابة» لابن حجر (١/ ٥١١ - ٥١٢)، وذكره الحافظ والقصَّةَ بسياق آخر في مواضع أخر (١/ ٥٠٧، ٥٠٨، ٥٠٩)، و(٢/ ٦٤٧)، و(٣/ ٢٣٥).
6 / 259
[كما قال ابن أبي أصيبعة: «ويُحكَى عن شهاب الدين السُّهْرَوردي أنَّه كان يعرف علم السيمياء (^١)، وله نوادر شوهدت عنه من هذا الفن.
قال: حدَّثني الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به، وشاهد منه ظاهر باب الفرج وهم يتمشّون إلى ناحية الميدان الكبير، ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه وما يعرف منه وهو يسمع، فمشى قليلًا، وقال: ما أحسن دمشق، وهذه المواضع.
قال: فنظرنا وإذا من ناحية الشرق جواسق (^٢) عالية، متدانية بعضها إلى بعض مبيضة، وهي من أحسن ما يكون بناية وزخرفة، وبها طاقات كبار، فيها نساء ما يكون أحسن منهن قط، وأصوات مغان وأشجار متعلِّقة بعضها مع بعض، وأنهر جارية كبار، ولم نكن نعرف ذلك من قبل. فبقينا نتعجَّب من ذلك وتستحسنه الجماعة وانذهلوا لِمَا رأوا.
قال الحكيم: فبقينا كذلك ساعة، ثم غاب عنَّا، وعُدْنا إلى رؤية ما كنَّا نعرفه من طول الزمان. قال لي: إلَّا أنَّ عند رؤية تلك الحالة الأولى العجيبة بقيت أحسُّ في نفسي كأنَّني في سِنَةٍ خفيَّةٍ، ولم يكن إدراكي كالحالة التي أتحقَّقها منِّي.
وحدَّثني بعض فقهاء العجم قال: كُنَّا مع الشيخ شهاب الدِّين عند القابون (^٣)، ونحن مسافرون عن دمشق، فلقينا قطيع غنم مع تركماني فقلنا
_________
(^١) نوع سحرٍ، بإحداث مثالات خياليَّة لا وجود لها في الحسِّ. كما في «المعجم الوسيط».
(^٢) جمع «جوسق»، وهو القصر، كما في «العين» للخليل.
(^٣) هو موضع بينه وبين دمشق ميل واحد، في طريق القاصد إلى العراق. كما في «معجم البلدان» لياقوت.
6 / 260
للشيخ: يا مولانا نريد من هذا الغنم رأسًا نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنمٍ، وكان ثَمَّ تركماني فاشترينا منه رأسًا بها، فمشينا.
فلحِقَنا رفيقٌ له، وقال: ردُّوا الرأس وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم يَسْوَى هذا الرأس البختيَّة الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم، وتقاولنا نحن وإيَّاه. ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدَّمْنا وبقي الشيخ يتحدَّث معه ويمنِّيه، فلمَّا أبعدنا قليلًا تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه.
ولمَّا لم يكلِّمه لحقه بغيظٍ وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح وتخلِّيني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبُهِت التركماني وتحيَّر في أمره، ورمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمني ولحقنا.
وبقي التركماني راجعًا وهو يتلفَّت إلينا حتى غاب، ولمَّا وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير». وذكر قصَّة ثالثة. انتهى (^١)] (^٢).
وهذا الضَّرب يحتمل وجهين:
الأول: أنَّه سحرٌ للأبصار فقط، بحيث يختلُّ إدراكها، فترى ما لا حقيقة له.
والثاني ــ وهو الذي يترجَّح لي ـ: أنَّه سحرٌ للأدمغة، فيصير دماغ المسحور
_________
(^١) «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أُصيبعة (ص ٦٤٢ - ٦٤٣). ويُنظَر أيضًا: «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (٦/ ٢٦٩ - ٢٧٠)، و«سير أعلام النبلاء» للذهبي (٢١/ ٢٠٨ - ٢٠٩)، و«تاريخ الإسلام» له (٤١/ ٢٨٤ - ٢٨٥). وغيرها.
(^٢) ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلِّف ﵀.
6 / 261
ضعيفًا، وقد عُرِف أنَّ الدِّماغ إذا ضعف قد يختلُّ الإدراك، كَمَن يكون بين النوم واليقظة فإنَّه يتخيَّل أشياء كثيرة، مثل أنَّه قام ومشى ورأى أشياء كثيرة، وأشباه ذلك. وهكذا من يتناول بعض الأشياء المُسْكِرة أو المفتِّرة.
وهكذا من يضعف دماغه لمرضٍ أو شدَّة خوفٍ، كما يدخل في الليل مكانًا يعتقد أنَّ فيه جِنًّا يتعرَّضون لمن يدخل.
وبالجملة فهذا الضَّرْب يشبه ما عُرِف الآن بـ «التنويم المغناطيسي»؛ فإنَّ المنوِّم ــ بالكسرـ يستطيع أن يخيِّل للمنوَّم ــ بالفتح ــ أشياء لا وجود لها، كما مرَّ، ولهذا يشعر المسحور بأنَّه في حالٍ غير عاديَّة، كما تقدَّم في القِصَّة.
فإن قيل: إنَّ إمكان مثل هذا يؤدِّي إلى سدِّ باب الثِّقة بالمحسوسات، وإلى عذر من كفر بالأنبياء، وقال: إنَّهم سحرةٌ، وإلى عذر منكري الكرامات.
قلتُ: أمَّا سدُّ باب الثِّقة بالمحسوسات فالحال في هذا كالحال في أعمال الجِنِّ، كما تقدَّم، فلا يأذن الله ﷿ بوقوع مثل هذا إلَّا في حالٍ تكون هناك قرائن وأدلَّة تدلُّ على أنَّه تخييل، أو تشكَّك فيه تشكيكًا قويًّا.
فسحرة فرعون كانوا يعترفون ويُعرَفون بأنَّهم سحرةٌ، ثمَّ بيَّن الله ﷿ حقيقة أمرهم، وهكذا حال السَّاحر الذي قتله جندب، وقريب منه ما تقدَّم عن السُّهْرَوردي.
وأمَّا اشتباه المعجزات والكرامات فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
[......] (^١).
_________
(^١) هنا وقع سقط في الأصل، لا يُدرى كم مقداره.
6 / 262
الذي في «الصَّحيح» (^١) ومن قول عائشة ﵂: «أوَّل ما بُدئ به رسول الله ﵌ من الوَحْي الرُّؤيا الصَّالحة في النَّوم، فكان لا يرى رُؤيا إلَّا جاءت مثل فَلَق الصُّبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حِراء، فيَتَحنَّث فيه ــ وهو التعبُّد ــ اللَّيالي ذوات العَدَد، قبل أن ينزِعَ إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حِراء».
فلم تُعَيِّن اللَّيالي ولا عِدَّتها.
ولكن في «سيرة ابن هشام» (^٢): «.. قال: ابن إسحاق: وحدَّثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعتُ عبد الله بن الزبير وهو يقول لعُبَيد بن عمير بن قتادة اللَّيثي: حدِّثْنا يا عُبَيد كيف كان بُدُوُّ ما ابتدئ به رسول الله ﵌ من النبوَّة حين جاءه جبريل ﵇؟
قال: فقال عُبيد: «.... كان رسول الله ﵌ يجاور في حِراء من كل سنةٍ شهرًا، وكان ذلك ممَّا تحنَّثُ به قريش في الجاهليَّة. والتحنُّث: التبرُّر.
قال ابن إسحاق: فقال أبو طالب:
وثور ومَن أرْسَى ثبيرًا مكانَه ... وراقٍ لِيَرقى في حِراء ونازل
قال عُبيد: فكان رسولُ الله ﵌ يجاور ذلك الشهر من كل سنةٍ، يُطْعِم من جاءه من المساكين ...
_________
(^١) البخاري (٣)، ومسلم (١٦٠).
(^٢) «السيرة النبويَّة» (٢/ ٦٨).
6 / 263
حتى إذا كان الشَّهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السَّنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر رمضان = خرج رسول الله ﵌ إلى حِراء كما كان يخرج لجواره، ومعه أهله ...».
وهذا مرسلٌ؛ لأنَّ عبيدًا تابعيٌّ، إلَّا أنَّ استماع الصَّحابة له، وتركهم الإنكار ممَّا يشدُّه.
وفيه: أنَّ المجاورة كانت ممَّا تعمله قريش في الجاهلية، وقد كان النَّبي ﵌ قبل البعثة يتحرَّى من أعمالهم ما يرى أنَّه مما بقي من شريعة إبراهيم، كالحج ونحوه.
وفيه: أنَّ المجاورة كانت شهرًا، وهذا محمول على جُمْلتها. وقد دلَّ حديث عائشة ﵂ أنَّه كان يرجع في أثناء الشهر مرارًا ليتزوَّد.
وقوله أخيرًا: «وذلك الشَّهر رمضان» صريحٌ في أنَّ الشَّهر الذي جاوره ذلك العام رمضان، ويحتمل أن يكون رمضان هو الشهر الذي يجاور فيه كل سنة، والذي كانت تجاور فيه قريش. والله أعلم.
وعلى كلِّ حالٍ فالذي تقرَّر في الشَّريعة ممَّا يتعلَّق بهذه القضية هو صيام رمضان واعتكاف العشر الأواخر منه في أيِّ مسجدٍ كان.
وأحكام الاعتكاف معروفةٌ في الشَّرع، ولم يُنقَل عن النَّبي ﵌ أنَّه جاور بحراء أو غيره بعد النبوَّة، ولا أمر به أحدًا، ولا فَعَله أحدٌ من السَّلف = فلم يبْقَ في تلك القضيَّة أثرٌ عمليٌّ في الشَّريعة، إلَّا أن يكون صيام رمضان والاعتكاف فيه.
6 / 264
واتَّضح بذلك أنَّه من أحدث غير ذلك ــ كأربعينيَّة المتصوِّفة (^١) ــ فليس له حُجَّة في تلك القضيَّة. والله الموفِّق.
وإن حُكِمَ به عن تجربةٍ، أو رُؤيا، أو إلهامٍ، أو أمَارةٍ خاصَّة بهم، أو ذَوْقٍ، أو كَشْفٍ، أو خبرِ مَن يرونه ملَكًا، أو مَن يرونه الخضر، أو نبيًّا، أو النَّبيَّ ﵌، وأنَّهم شاهدوه يقظةً، أو شاهدوه في اللَّوح المحفوظ، أو سمعوه من الله تعالى، ونحو ذلك ممَّا يدَّعونه لأنفسهم = فسيأتي الكلام على هذه الأمور إن شاء الله تعالى.
ويكفيك هنا أمورٌ:
الأوَّل: أنَّ هذه الأمور منها ما دلَّت الشَّريعة على نفيه، ولو بدليلٍ ظاهر تقوم الحُجَّة به إجماعًا.
ومنها ما لا يُعلَم في الشَّريعة إثباته أو نفيه.
ومنها ما جاء في الشَّريعة إثباته في الجملة.
فالأوَّل ساقط، والثَّاني كذلك؛ لأنَّ الشريعة لم تشهد له، ولو كان حقًّا
_________
(^١) الأربعينيَّة: خلوةٌ صوفيَّةٌ عدَّتها أربعون يومًا، تتخلَّلُها عبادات ورياضات، كالصَّوم ونحوه. وقد استدلَّ من قال بها، كالسَّهروردي في «عوارف المعارف» (ص ٣٧) وغيره بأدلَّة، كلُّها لا تثبت بها الحُجَّة، فاستدلُّوا بفعل موسى ﵊ حين لقي ربَّه، واستدلُّوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، تُنظَر ألفاظ هذه الأحاديث في «تذكرة الموضوعات» للفتني (ص ١٩١ - ١٩٢) باب خرقة الصُّوفية والأربعينيَّات والمجاهدة، ويُنْظَر تفصيل القول في عِلَلها في كتب الموضوعات، ومناقشةٌ مفصَّلةٌ لباقي أدلتهم في: «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (١٠/ ٣٩٣ - ٤٠٦)، وفي (١٨/ ١١).
6 / 265
لشهِدَت له، فهو إمَّا راجعٌ إلى الأوَّل أو الثالث. أمَّا الأول فقد مرَّ.
وأمَّا الثالث [فإنَّ ما] (^١) ثبت في الشَّريعة أنَّه أمارة قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا، فحدُّه أنَّه إذا وافق حُجَّةً مشهودًا لها في الشَّريعة بأنَّها حُجَّة أُخِذ بتلك الحُجَّة، وذُكِر معها استنانًا (^٢)، كما يذكر أهل العلم الحُجَّة الشَّرعيَّة، ثم يذكر بعضهم ما وافقها من رُؤيا ونحوها.
وإن خالف حُجَّةً شرعيَّةً كان ذلك دليلًا على بطلانه.
وإن لم يوافق ولم يخالف أُخِذ به فيما تكفي فيه الأمارة الضَّعيفة، وذلك في نحو صدقة التطوُّع، إذا تردَّدتَ في إعطائها لهذا أو لذاك، ولم يظهر لك ما يرجِّح أحدهما من جهة الشرع ولم يتيسَّر قسمتها، فرأيتَ رؤيا تدلُّ على أحقِّيَّة أحدهما = فإنَّه يجوز لك أن تعطيه؛ وذلك أنَّه يكفي في ذلك الأمارة الضَّعيفة، كأنْ ترى ثوب أحدهما أبْلَى من ثوب الآخر فتقول: يظهر من هذا أنَّ الذي ثوبُه أبلى أشدُّ حاجة.
ولا يدخل في هذا: التردُّد في صيام يومين لم يثبت في الشَّرع لأحدهما مزيَّة عن الآخر إذا دلَّت رؤيا على مزيَّةٍ شرعيَّةٍ لأحدهما.
والفرق: أنَّ المزيَّة الشرعيَّة حكم شرعيٌّ لا يثبت إلَّا بالشَّرع، وأمَّا كون هذا أحْوَج من ذاك فهو موكولٌ إلى نظر المكلَّف، فلا تغفل.
الأمر الثَّاني: أنَّ ما يصحُّ في الجملة ممَّا ادَّعاه المتصوِّفة مُعَرَّضٌ للاشتباه بتضليل الشيطان، والهوى، والتَّخيُّل، والتوهُّم.
_________
(^١) في الأصل: «فإنما».
(^٢) كذا في الأصل، ولعلَّه يقصد: «استئناسًا».
6 / 266
والأَمارات التي يزعمونها محتملةٌ لذلك أيضًا، وللتخلُّف، وغير ذلك.
وأعظم من هذا كلِّه أنَّه قد جاء في الحديث وصف القرآن بأنَّه «من يبتغي الهُدَى في غيره أضلَّه الله» (^١). فمَن ابتغي معرفة الحقِّ من حيث لم يشرعه الله ﷿ بصريح شريعته فهو أهلٌ لأن يضلَّه الله ﷿، ويستدرجه، ويُلَبَّس عليه ما لَبَّس على نفسه، والعياذ بالله.
الأمر الثالث: أنَّ ما أوضح الله ﷿ لعباده بصريح شَرْعِهِ أنَّه طريقٌ يعرف به الحقَّ في دينه = فهو معصومٌ بالجملة، وهو سبحانه يتكفَّل بحفظه.
وما يحتمل فيه من الخطأ فهو إمَّا خطأ صوري، إنَّما وقع لحِكْمَةٍ.
وإمَّا معفوٌّ عنه، بل مأجورٌ فيه أجرًا واحدًا، وإمَّا معفوٌّ عنه فقط. اللَّهمَّ إلَّا أن يكون خطأً عن تقصيرٍ بيِّنٍ من النَّاظر، فالذَّنب في هذا له.
وقد أوضحتُ هذا في موضعٍ آخر.
وأمَّا ما ليس في صريح الشَّرع أنَّه طريقٌ لمعرفة الحقِّ في الدِّين فليس بمعصومٍ، ولم يتكفَّل الله ﷿ بحفظه، فالمصيب فيه مأزورٌ؛ لمخالفته ما شرَعَه الله، فما ظنُّك بالمخطئ!
_________
(^١) أخرجه أحمد (١/ ٩١)، والترمذي (٢٩٠٦)، والدَّارمي (٣٣٧٤)، والبزَّار (٣/ ٧١)، وغيرهم، من طرقٍ عن الحارث الأعور عن عليٍ ﵁ مرفوعًا. ومداره على الحارث، وهو ضعيف؛ وقد ضعَّفه التِّرمذي. ورجَّح الحافظ ابن كثير وقفه، ووهَّم رفعَه.
وفي الباب حديث معاذٍ ﵁، وفيه راوٍ متروك. وفي الباب أيضًا: حديث ابن مسعود ﵁، وفيه راوٍ ليِّن. وصحَّح الحافظ ابن كثير وقفه عليه، ووهَّم رفعَه.
ويُنْظَر: «تفسير ابن كثير» (١/ ٢١ - ٢٢)، و«السِّلسلة الضَّعيفة» للألباني (١٧٧٦).
6 / 267
وباب تلبيس الشيطان ــ وغيره ممَّا مرَّ ــ مفتوحٌ فيه على مِصْرَاعَيْه؛ بل هو مظنَّة إضلال الله ﷿ واستدراجه، كما مرَّ.
حتى لو فُرِضَ أنَّ من تلك الطُرُق التي لم يأت صريح الشَّرع ما هو أقوى في نَظَر النَّاظر من بعض الطُرُق التي ورد بها = فإنَّه لا يغني هذا شيئًا؛ فإنَّ الضَّعيف الذي تكفَّل الله ﷿ بحِفْظِه أقوى من القويِّ الذي لم يتكفَّل ﷾ بحِفْظِه.
فصلٌ
ظاهر قول الشيخ (^١): «فالكَفَرة دمَّرهم الله من عالم البشر، فلا يُستعمل في قتالهم إلَّا ما هو عادة في عالم البشر، لا غير» = أنَّ هذا عام في كلِّ حالٍ. ويلحقُ به من باب أَوْلى المسلمون.
وعلى هذا فكلُّ شخصٍ بتلك القوَّة في إيذاء آخر ــ ولو كافرًا ــ فهو إمَّا ساحرٌ، وإمَّا إن كان وليًّا فعصى. هذا على فرض أنَّ مكتسب تلك القوَّة قد يكون وليًّا، وفي ذلك نظر!
إذ قد يقال له: لم نعرف في الشَّريعة ترغيبًا ما في اكتساب تلك القوَّة؛ بل فيها ما يؤخذ منه النَّهي عن اكتسابها، والرِّياضة الموصلة إليها، كما يأتي.
وقد وَرَد في النَّهي عن تعلُّم السِّحر ما ورد (^٢).
_________
(^١) لم يتبين لي مَن الشيخ المردود عليه.
(^٢) يعني كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢].
وكحديث أبي هريرة ﵁ أنَّ النَّبي ﷺ قال: «اجتنبوا السَّبع الموبقات». قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: «الشِّرك بالله، والسِّحر ..» الحديث. أخرجه البخاري (٢٧٦٦)، ومسلم (٨٩).
6 / 268
وقد تقدَّم عن الشَّيخ أنَّ تلك الرِّياضة محصِّلة لهذه القوَّة التي إن استعملها صاحبُها في هواه فهو ساحرٌ، وإنَّما يبقى النَّظَر فيمن لم يشعر بأنَّ ما وقعَ منه داخلٌ في تعلُّم السِّحر. والله أعلم.
هذا وقد يُقال: إذا كان استعمال تلك القوَّة في إيذاء البشر ــ ولو كفارًا ــ محرَّمًا لأنَّهم من عالَم البشر، وهي خارجةٌ عمَّا هو عادة في عالم البشر = فكذلك ينبغي أن يكون الحال في استعمالها في النَّفع؛ أو المراد على خروجها عن عادة البشر!
فإذا صحَّ هذا فالحكم المتقدِّم على من استعملها في الإيذاء شامل لمن استعملها في غير الإيذاء، بل الأمر أوضح من هذا.
فأمر إيذاء الكفَّار والحربيين نفعٌ للدِّين والمسلمين، ومع ذلك فإنَّما يُتَخَيَّل الفرق بين النَّفع والإيذاء من جهة حُسْن النفع، وقُبْح الإيذاء، فإيذاء الكفَّار والحربيين ليس بقبيحٍ، بل هو حَسَن.
لكن قد يُقال: إنَّ عموم عبارة الشيخ مخصوص بما إذا لم يكن هناك أمرٌ خاصٌّ، فيقول: إنَّه يحرم على الوليِّ استعمالها ما لم يُؤْمَر، فإذا أُمِر كان له ذلك، كما تدلُّ عبارات أخرى له.
وعلى هذا فنقول: الأمر الذي تتلقَّاه ليس هو في الكتاب ولا السُنَّة، وإنَّما يريدون به الأمر بالإلهام ونحوه، وسيأتي الكلام عليها، وقد تقدَّم بعضه، وأنَّه لا يثبت بها حكمٌ ألبتَّة.
6 / 269