هم أحرار في ظاهر الأمر يذهبون ويجيئون، ويستيقظون وينامون، ولكنهم رقيق في حقيقة الأمر؛ لأنهم لا يذهبون إلا إلى حيث يعملون، ولا يجيئون إلا إلى حيث ينامون، ولأنهم يطعمون ما أريد لهم أن يطعموا لا ما يريدون هم أن يطعموا. ولعلهم لا يريدون أن يطعموا إلا ما يسر لهم؛ لأنهم لا يعرفون غير ما يسر لهم، ولا يستطيعون أن يطمعوا فيما لا علم لهم به. ولأنهم بعد ذلك لا يستطيعون أن يتصرفوا في شيء لأنهم لا يجدون شيئا، ولا يطمعون في أن يجدوا شيئا يمكن أن يتصرفوا فيه. هم أحرار كالعبيد، وعبيد كالأحرار. ليسوا راضين ولا ساخطين؛ لأنهم لا يعرفون الرضا ولا السخط، وإنما يعيشون كما تعيش النمل تدفعهم الغريزة وتدبر أمرهم إرادة سادتهم في القصر. ويجب أن نعترف بأن هؤلاء السادة قساة القلوب غلاظ الأكباد، يؤثرون أنفسهم بكل شيء، ولا ينزلون لغيرهم عن شيء؛ ولأجل هذا قلنا إنهم لا يمكن أن يكونوا من المصريين.
وقد آن للحوادث أن تحدث، وللقصة أن تأخذ طريقها إلى الوجود إن لم تكن قد أخذته من قبل.
وأول ما نشهده من حوادث القصة منظر هذا الشاعر الذي نيف على الستين، ولكنه احتفظ بقوة توشك أن تكون قوة الشباب، وهو على ذلك يتكلف الشيخوخة ويتصنع الضعف حين يراه سادة القصر، وهو لا يمشي إلا متوكئا على عصا يسرف في الانحناء عليها إذا رآه الناس، فإذا خلا إلى نفسه اعتدلت قامته واستقام قده، ونظر إلى ما حوله معجبا تياها. وقد تعود صاحب القصر الذي سنعرفه بعد قليل أن يراه منحنيا يمشي على ثلاث، كما كان يقول أبو الهول في سؤاله لأوديب، فكان كلما رآه أنشد متضاحكا ساخرا قول جرير:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
ونحن نرى هذا الشاعر الشاب الشيخ وقد خرج من الجناح الذي يقيم فيه عن يمين القصر، وسعى منحدرا في بطء وتمهل يريد أن يبلغ المجلس الذي تعود أن يلقى فيه صاحب القصر في جوسق جميل على شاطئ النهر، ولكنه يلقى في طريقه شيخا لا حظ له من قوة ولا من شباب وهو البستاني عثمان الذي يقول له في صوته المتهالك المحطم: «في المكتب يا سيدي! في المكتب، إنه لم يخرج اليوم من مكتبه ولم يهبط إلى الحديقة ولم يقف عند أزهاره التي تعود أن يطيل الوقوف عندها.» قال الشاعر الشيخ الشاب: «عم صباحا يا عثمان، في المكتب! ماذا سيصنع سيدك في المكتب؟ أيمكن أن يعيش الناس تحت السقوف وبين الجدران حين تصفو السماء وتتألق الشمس وتزين الأرض ويتهادى النهر على هذا النحو! دعه في المكتب يا عثمان، ولا تؤذنه بمكاني إلا أن يسألك، ولكن أرسل إلي القهوة، قدحين لا قدحا واحدا، وقف على إبراهيم حتى يتقنها، فأنت تعرف القهوة التي أحب.» قال عثمان: «طاعة يا سيدي! ولكني رأيت مولاي عابسا هذا الصباح كما لم أره قط.» قال الشاعر: «عابسا! عابسا! لقد أدركه بعض الخبل، إنه يعبس والدنيا باسمة، ويحبس نفسه وكل شيء يدعوه إلى أن ينعم بهذا الجمال، دعه محبوسا عبوسا، وأرسل إلي قهوتي ولا تنبئه بمحضري إلا أن يسألك .»
ثم مضى أمامه منحنيا على عصاه مستأنيا متمهلا، حتى بلغ الجوسق، فجلس إلى المائدة ونشر أمامه أوراقا، وأخذ بيده قلما وجعل يطيل النظر إلى النهر كأنما كان يستمليه، ثم يكتب متباطئا على ما بين يديه من الأوراق.
4
وكان النهر يملي عليه حديثا عجبا؛ لأنه نهر عجيب بين الأنهار، لا يعرف الناس له منبعا ولا مصبا، وإنما يرونه يسعى من الشرق إلى الغرب دون أن يستطيع أحد أن يقول: من أين يأتي؟ ولا إلى أين يجري؟ وقد حاول المستكشفون أن يعرفوا من أمره ما عرفوا من أمر الأنهار الأخرى في الأرض فلم يبلغوا من ذلك شيئا، سايروا شاطئه من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فوجدوا مدنا وقرى، وصحاري ليس فيها مدن ولا قرى، ولكنهم انتهوا دائما إلى غابات كثاف يضيع النهر بينها، ولا سبيل إلى النفوذ منها ولا إلى تتبعه فيها. وكأنما خلقت هذه الغابات في الشرق والغرب لتحجب النهر عن المستكشفين وتعمي آثاره على المتتبعين. وهي تتكاثف وتتكاثف، ويدنو بعض أشجارها من بعض، ويلتف بعض أشجارها ببعض، ويكاد بعض أشجارها يركب بعضا، حتى كأن النهر إنما ينبع من بيئة مظلمة أشد الإظلام، ليصب في بيئة أخرى ليست أقل منها إظلاما ولا حلوكا.
ولم يكن هذا هو الشيء الوحيد العجيب من أمر النهر، وإنما كانت له خصلة أخرى ليست أقل من هذه الخصلة عجبا؛ فقد عرف الناس أحد شاطئيه، وهو هذا الذي تقوم عليه الربوة، وتنبسط فيه السهول الخصبة المأهولة والصحاري الجدبة المقفرة، من الشمال. فأما شاطئه الآخر، مما يلي الجنوب، فقد جهله الناس كما جهلوا منبع النهر ومصبه، ولم يعرفوا منه إلا شيئين اثنين: أحدهما أن من وراء النهر، وعلى أمد منه غير بعيد، جبالا شاهقة ترتفع في السماء، وتبعد في الارتفاع حتى لا يكاد البصر يبلغ قممها إلا في كثير من الجهد والمشقة. والثاني أن العبور إلى هذا الشاطئ مخوف يملأ القلوب هولا ورعبا؛ فقد تعارف الناس وتوارثوا منذ أقدم العصور، أن الذين يعبرون إليه لا يعودون ، وهم من أجل ذلك لا يفكرون في العبور إليه، بل لا يتحدثون في العبور إليه إلا في كثير جدا من الحذر والتحفظ والاحتياط.
Неизвестная страница