То, что видят глаза: Египетские повести
ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
Жанры
ما تراه العيون
في القطار
عطفة «ال ...» منزل رقم 22
بيت الكرم
حفلة طرب
صفارة العيد
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
كان طفلا فصار شابا
العاشق المفتون بالرتب والنياشين
الشباب الضائع
Неизвестная страница
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
ما تراه العيون
في القطار
Неизвестная страница
عطفة «ال ...» منزل رقم 22
بيت الكرم
حفلة طرب
صفارة العيد
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
كان طفلا فصار شابا
العاشق المفتون بالرتب والنياشين
الشباب الضائع
الفصل الأول
الفصل الثاني
Неизвестная страница
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
ما تراه العيون
ما تراه العيون
قطع قصصية مصرية
تأليف
Неизвестная страница
محمد تيمور
ما تراه العيون
في القطار
صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد للشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة، ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء.
تناولت ديوان موسيه وحاولت القراءة فلم أفلح، فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد، واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.
مكثت حينا أفكر، ثم نهضت واقفا وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكرا، ثم اهتديت للسفر ترويحا للنفس، وابتعت تذكرة - درجة ثانية - وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله.
جلست في إحدى غرف عربات القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي، وما لبثت في مكاني قليلا حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني: «وادي النيل، الأهرام، المقطم»، فابتعت إحداها وهممت بالقراءة، وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثا ماسحا شفتيه بمنديل أحمر يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير. ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة، وجعل يردد اسم الله والنبي والصحابة والأولياء والصالحين. فحولت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شابا لا أدري من أين دخل علينا، ولعل اشتغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله.
نظرت إلى الفتى وتبادر لذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه. نظر إلي الشاب كما نظرت إليه، ثم أخرج من محفظته رواية من روايات مسامرات الشعب، وهم بالقراءة بعد أن حول نظره عني وعن الأستاذ، ونظرت للساعة راجيا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة حسن الهندام دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته، ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس. جلس الأفندي وهو يبتسم واضعا رجلا على رجل بعد أن قرأنا السلام فرددناه رد الغريب على الغريب.
وساد السكون في الغرفة؛ والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود، والأفندي ينظر لملابسه طورا وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظرا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر خامس.
مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكا مظلة أكل الدهر عليها وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون، وإلى أين هم ذاهبون. ثم سمعنا صفير القطارة تنبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل يقل من فيه إلى حيث هم قاصدون.
Неизвестная страница
سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا، فإذا بالشركسي يحملق في، ثم قال موجها كلامه إلي: هل من أخبار جديدة يا أفندي؟
فقلت له وأنا ممسك الجريدة بيدي: ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر، اللهم إلا خبر اهتمام وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.
ولم يمهلني الرجل أن أتم كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني، وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل؛ لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا، وصعد منها لغرفتنا أحد عمد القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة كبير الشارب أفطس الأنف، له وجه به آثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي، ثم سار القطار قاصدا قليوب.
مكث الشركسي قليلا يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحرق الأرم وقال: يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.
فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت: وأي جناية؟ - إنك ما زلت شابا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح. - وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟
فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب: هناك علاج آخر. - وما هو؟
فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال: السوط؛ إن السوط لا يكلف الحكومة شيئا، أما التعليم فيتطلب أموالا طائلة، ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب؛ لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.
وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة - حفظه الله - كفاني مئونة الرد، فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: صدقت يا بيه صدقت، ولو كنت تسكن الضياع مثلنا لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني مع الفلاح ما نعاني؛ لنكبح جماحه، ونمنعه عن ارتكاب الجرائم.
فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال: حضرتكم تسكنون الأرياف؟ - أنا مولود بها يا بيه. - ما شاء الله.
جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت تظهر على وجهه سيما الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مرارا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتا على ما فاه به الشركسي، فقلت له: إن الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام أن لا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.
Неизвестная страница
فالتفت إلي العمدة كأني وجهت إليه الكلام، وقال: أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شئون الفلاح أجبك. إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال (وأشار بيده إلى الشركسي).
فقال الشركسي وهو يبتسم ابتسامة الساخر: ولا ينبئك مثل خبير.
فاستشاط التلميذ غضبا، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف: الفلاح يا حضرة العمدة ...
فقاطعه العمدة قائلا: قل «يا سعادة البك»؛ لأني حزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.
فقال التلميذ: الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الإضرار بكم تخلصا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحا وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين!
فهز العمدة رأسه ونظر للشركسي وقال: هذه هي نتائج التعليم.
فقال الشركسي: نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.
أما الأفندي ذو الهندام الحسن، فإنه قهقه ضاحكا وصفق بيديه، وقال للتلميذ: برافو يا أفندي، برافو برافو.
فنظر إليه الشركسي، وقد انتفخت أوداجه، وتعسر عليه التنفس، وقال: ومن تكون أنت؟ - ابن الحظ والأنس يا أنس.
وضحك عدة ضحكات متواليات.
Неизвестная страница
فلم يبق في قوس الشركسي منزع، فصاح وهو يبصق على الأرض طورا، وعلى جبة الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة: أدبسيس، بس فلاح.
ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة للأستاذ، وقال: أنت خير الحاكمين يا سيدنا، فاحكم لنا في هذه القضية.
فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض، وقال: وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله - جل وعلا؟
هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟
فقال الأستاذ: بسم الله الرحمن الرحيم
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، قال النبي - عليه الصلاة والسلام: «لا تعلموا أولاد السفلة العلم.»
وعاد الأستاذ إلى خموله، وأطبق أجفانه مستسلما للذهول. فضحك التلميذ وهو يقول: حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.
فأفاق الأستاذ من غشيته، وقال: واحسرتاه! إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغى واستكبر وأنكر وجود الخالق.
فصاح الشركسي والعمدة: «لك الله يا أستاذ.» وقال الشركسي: كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه واليوم يشتمه ويهم بصفعه.
وقال العمدة: كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه.
Неизвестная страница
ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام وغادرتهم، وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوي القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء؛ لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.
7 يونيو سنة 1917
عطفة «ال ...» منزل رقم 22
دخلت غرفة عملي بوزارة «ال ...» وجلست أمام مكتبي، وأمسكت بجريدة وادي النيل أقرأ شيئا عن السياسة وعن الأخبار، وما لبثت في مكاني دقيقتين إلا وحانت مني التفاتة للباب فرأيت زميلي أمين علي يبتدرني السلام بقوله: صباح الخير يا أبو علي.
فألقيت الجريدة على المكتب ورددت السلام بأحسن منه، ثم تثاءب زميلي فتثاءبت وقلت: جازاك الله يا أمين بالموت على ما بدر منك أمس؛ لقد سقتني إلى بؤرة كدت أن أموت فيها. - أينا المخطئ؟ - الله أعلم. - دعنا من العتاب. تلك ليلة لا يسمح الزمان بمثلها إلا في السنة مرة، ولولا تهافتك على الخمر وإكثارك من معاقرتها؛ لما سألت الله أن يجازيني بالموت على هذا الجميل الذي أسديته إليك. - ولكني ما زالت أشكو ألما في الرأس، وتثاقلا في الجسد، ويا حبذا لو كان اليوم يوم الجمعة! - وماذا كنت تفعل؟ - كنت أتناول مسهلا، وألزم سريري طول يومي. - تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
ثم جلس أمين أمامي، وأسند رأسه بيديه، ونام أو استسلم للنوم، فنظرت إليه، وظهرت لي على وجهه صورة شنيعة؛ صورة المدمن الذي لا يفارق الحانات والمواخير وبيوت الفسق والدعارة إلا عند الفجر، فقلت في نفسي إن هذه الصورة المرتسمة على وجهه ما زالت مرتسمة على وجهي أيضا؛ إنه يحب الخمر وأنا لا أبغضها، هو زير نساء وأنا أبحث عن المرأة في كل مكان؛ فلا فرق بيني وبينه إلا أنه متزوج وأنا أعزب، ولكن الفرق ليس بالكبير؛ لأنه لا يرى امرأته إلا ست ساعات في كل يوم يقضيها وهو مستلق على ظهره بجوارها يغط في نومه، فامرأته في نظره كالوسادة في نظري. فنحن إذن في مستوى واحد.
وظفت في وزارة «ال ...» منذ ستة أشهر، عرفت أمين في اليوم الأول من الشهر الأول منها، وائتنست بعشرته، وربطتني به رابطة الاتفاق في المشرب لا رابطة الود والوفاء، ولكني استشعرت بعد أن قضيت معه شهرين على صفاء ووئام برابطة الصداقة تربطني به وتربطه بي، وما لبثنا أن أصبحنا صديقين لا نفترق إلا بعد منتصف الليل. كنت أشتغل معه في الوزارة، وكنت أقضي معه عصر كل يوم في سبلنددبار، وإذا دنا وقت العشاء أكلنا سويا في مطعم أوبليسك أو مطعم أركل وكاسات الجعة تحف بخواننا، ثم نقضي الليل في دار من دور التمثيل أو في بيت من البيوت المفتوحة أبوابها للناس أجمعين، ثم نرجع كل لمنزله، فكنت أسير معه إلى باب بيته في عطفة «ال ...» رقم 22، وأسير في طريقي لمنزلي وأنا لا ألوي على أحد.
كان هذا شأني معه، وكنت مسرورا من عشرته مغتبطا بوفائه ومحبته، وظننت أني سأبقى مستودع أسراره إلى الأبد، ولم يحدث بيننا - والحمد لله - في الستة الأشهر التي مضت ما يدعو للهجر أو القطيعة.
ثم أفاق أمين من نومه، وأعطاني سيكارة، أشعلتها بعد أن أشعل أختها لنفسه، ومكثنا هنيهة نفكر، ثم التفت إلي وقال: آه من النساء! - إنك ترتئي فيهن رأيا تخالف فيه سواد الناس. - أنا لا أحب إلا من يرتدين الإزار البلدي.
1 - وأنا لا أكره إلا هؤلاء. - يا للعجب! أتكره هذا الصنف من النساء، وبينهن من يستهوين الأفئدة، ويمتلكن النفوس؟! - إني لا أرى في ذات الإزار البلدي إلا امرأة قذرة مبتذلة، يأنف منها كل ذي ذوق سليم. - أشكرك.
Неизвестная страница
ثم ضحكنا والتفت إلي أمين وقال: إن بينهن نساء ذوات حسب ونسب، يخشين الفضيحة فيتسترن بهذا الإزار حتى لا يعرفهن أحد من أزواجهن. - أتظن ذلك؟ - بل أعتقده، وإن شئت سردت لك حوادث وقعت لي مع أمثالهن.
وابتدأ في سرد قصص كثيرة اندهشت لسماعها، وظننت أن ليس في مصر من الإسكندرية إلى أسوان امرأة عفيفة، فقلت له: لا ثقة لي بامرأة بعد اليوم. - كل النساء خائنات وعبثا الثقة بهن.
فسكت ولم أنطق ببنت شفة، وماذا يريد القارئ أن أقول، وصديقي متزوج له امرأة يغار عليها، وكأنه فطن لما كنت أحدث نفسي به؟ فقال وهو يبتسم: ما الذي أسكتك؟ أيدهشك أني أرمي النساء بالخيانة وبينهن زوجتي؟ ولكن امرأتي يا صاح في مأمن من كل ذلك؛ لأنها تعيش مع أمي، وأمي من النساء اللواتي لا تفلح معهن شدة ولا رجاء.
ثم انقطع حديثنا، وقام أمين لمكتبه، وابتدأت أن أشتغل قليلا بعد أن سألت الخادم أن يأتيني بفنجان قهوة.
غادرت الديوان، وذهبت لأتناول الغذاء في المنزل، ثم خرجت عصر اليوم للقاء أمين في اسبلنددبار، وانتظرته هناك نصف ساعة ثم مللت الانتظار، فقمت لأتمشى في شارع بولاق، فإذا به يموج بالناس من مصريين وإفرنج، ومنهم من يتتبع النساء، ومن النساء من يدخلن حانوت شكوريل أو شملا لشراء حاجياتهن أو بحجة شراء ما تتوق إليه أنفسهن، ثم وقفت أنظر لامرأة مرتدية إزارا بلديا، وتذكرت حديث أمين في الصباح، وقلت في نفسي: ما ضرني لو تبعتها؟! وقد أعجبني قوامها النحيل ولحظها الفاتك، ووطدت العزم على ذلك، وما لبثت أن نفذت ما عزمت عليه.
سرت وراءها طويلا إلى أن وصلنا إلى تلك الحديقة الصغيرة التي يعرفها كل من اعتاد التنزه في شارع بولاق، وهناك اقتربت منها وقلت لها: لقد حق لك ولي أن نستريح، فعلام الإسراع؟
فنظرت إلي ولم تجب، ثم سارت في طريقها، فقلت لها وقد شجعتني نظرتها: إلى أين؟ خففي من سرعتك أيها الملاك الجميل.
فالتفتت إلي مرة ثانية وابتسمت، ثم سارت على مهل، فسرت معها جنبا إلى جنب وقرأتها السلام، فقالت: علام تقتفي أثري؟ - لأحظى منك بكلمة واحدة. - لقد سمعت مني عدة كلمات، فدعني وسر في طريقك. - إن طريقنا واحد.
فابتسمت وقالت: يا لك من أبله!
وتحادثنا طويلا، ثم سألتها أن نذهب لمصر الجديدة، فقبلت ببشاشة وسرور، ورجعنا أدراجنا إلى محطة المترو. وصلنا مصر الجديدة بعد عشرين دقيقة، ودخلنا لونا بارك، وصعدنا على الجبل الروسي راكبين القطار الصغير، فكانت تمسك بملابسي كلما صعد بنا القطار أو هبط، وغادرنا لونا بارك فأظهرت لي عند بابه الميل للعودة للقاهرة، فقلت لها وأنا أستعطفها: علام هذا الإسراع والساعة لم تدق السابعة بعد؟ أينتظرك أحد في المنزل؟ - كلا إن زوجي لا يتعشى في المنزل. - فلنقض معا إذن ساعة أخرى.
Неизвестная страница
وقد قضينا تلك الساعة في مكان يظهر أنها لم تكن تجهله ولم يكن يجهلها.
ورجعنا بعد ذلك وركبنا عربة كانت تنتظر بجوار قهوة البسفور، ولما وصلنا لميدان عابدين سألتني أن أغادرها هناك، فأجبتها لسؤالها عن طيبة خاطر، وأعطيت الحوذي عشرة قروش، وودعتها بعد أن تواعدنا على اللقاء بعد يومين.
ثم تركتني وسارت في طريقها بعد أن استحلفتني أن لا أتبعها، ولما كادت أن تغيب عن عيني قام بنفسي أن أعرف أين تسكن؛ حتى إذا ما أخلفت موعدها معي انتظرتها كل يوم أمام باب بيتها. ولما اقتربت منها سألت الله أن لا تلتفت فتراني، فإذا بي أراها بعد قليل تسير في عطفة «ال ...»، فدق قلبي دقات متوالية، ثم وصلت للمنزل رقم (22)، والتفتت لترى إن كان هناك أحد يتبعها، ولكنها لم تتبيني في الظلام؛ لأن الشارع لم يكن من الشوارع المضاءة، ودخلت المنزل فوقفت كالصنم لا أتحرك، ثم عدت وأنا كاسف البال.
يا للعار! لقد ارتكبت إثما هائلا، ولكني لم أتعمد ارتكابه. لقد أصبحت حليلة صاحبي خليلة لي، ولكنها كانت خليلة سواي من قبل. •••
في الغد ذهبت للديوان، وجلست بجوار أمين، وتحادثنا كالعادة، وذهبنا عصرا لسبلنددبار، وتناولنا العشاء في أبليسك، وقضينا ليلتنا معا في ماخور من مواخير العاصمة، كأن لم يكن شيء حدث بالأمس.
18 يونيو سنة 1917
بيت الكرم
أسرة مجدي مشهورة في مصر بالثروة والجاه، يؤمها المستغيث ويقصدها كل ذي حاجة. توفي ربها المرحوم عبد الله بك مجدي عن ستين عاما قضاها - كما قالت الجرائد - في عمل الخير والبر والإحسان، تاركا ولدين يبلغ أكبرهما الثلاثين والآخر لا يتجاوز العاشرة، وثلاث بنات أبكار لم تسعد أكبرهن بعد بالزواج.
ورث المرحوم عن أبيه ثروة طائلة تزيد عن ألفي فدان، أضاع معظمها حبا في الخمر وسعيا وراء النساء، فلم يترك لأولاده بعد موته إلا ثلاثمائة من الأفدنة وعشرة من الرفاق، كان ينفق عليهم من حر ماله، وكانوا يقضون معه الليل والنهار ليأتنس بحديثهم ويقتل الوقت معهم، وأصبح الولد الأكبر - محمد بك مجدي - بعد وفاة أبيه رئيس أسرة مجدي، وناهيك عن قيمة هذا اللقب في أعين الرفاق العشرة بعد أن وجدوا في الولد خير خلف لأبيه، فلقبوه بابن العز والإمارة ورب البيت الذي لم يغلق بابه في وجه سائل. ولم يكن محمد بك تلقى من العلم والتربية ما يلهمه أن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، وأوحى إليه الجو الذي نشأ فيه أن لا يحيد عن الخطة التي اختطها أبوه لنفسه من قبل؛ فرحب بالرفاق وجلس بينهم كما كان يجلس أبوه في صدر المكان وهم حواليه يكاد يدفعهم الخشوع والامتثال إلى الركوع والسجود. •••
نزل محمد بك من الحريم إلى السلملك وهو مرتد جلابية بيضاء وعباءة من الحرير الأبيض، وكان عاري الرأس منتفخ العينين، وقد نسج السهر لكل واحدة منهما إطارا أحمر، لو رآه طفل صغير في رابعة النهار لولى الأدبار خائفا أن ينقض عليه ذلك البعبع فيهشم عظامه أو يسيل دماءه.
Неизвестная страница
مشى محمد بك مشية الزهو والتيه، يميل به الإعجاب بنفسه ويرنح عطفه احتقاره للناس، ومن مثل محمد بك على وجه البسيطة وهو الغني العظيم ابن الكرم والسيادة، وبيته مأوى البؤساء وملجأ الفقراء؟! وكان في ذلك اليوم مقطب الوجه عابسا ساهما، وذلك لزيارة وسيط وافاه في الصباح يطلب يد أخته الكبرى لابن أحد البيكاوات، وهل يسمح محمد بك بذلك ولأخته حصة فيما تبقى من تراث أبيه يصرف ريعها على الحفلات اليومية التي يقيمها كل ليلة في بيته هو ورفاقه الكرام، أستغفر الله، بل عبيده المخلصون؟! وصل محمد بك للسلملك وكان الوقت مساء؛ لأن البك لا يفيق من نومه إلا في الساعة السادسة، وكان من عادته النوم بعد الغذاء، ولما دخل غرفة الاستقبال وجد الجماعة في انتظاره وقد تهيئوا للقائه، فجلس بينهم وهو تائه النظر، وقد تعمد ذلك حتى لا يقال إنه يتنازل لرؤية أحدهم، ثم نادى الخادم وأمره أن يجيء بزجاجات الوسكي، وقام الخادم بما أمر به حق قيام، وتناول كل واحد قدحه وشربوا نخب البك.
وقام أحدهم واقفا، وهو شيخ سكير يناهز الستين، كان كاتبا بوزارة «ال ...» وأحيل على المعاش، ولم يساعده معاشه على اقتناء الخمر والقيام بأود أسرته، فالتجأ لمحمد بك، وليس شيء أحب لنفس محمد بك من أن يلتجئ إليه من يظهر التفاني في محبته والخضوع لآرائه والحاجة العظمى لماله وطعامه. وكان ذلك الشيخ من أصحاب النكات الظريفة المستملحة، يترقب الفرص حتى إذا حانت أرسل النكتة من فيه فتقع في قلب مناظره كما يقع السهم الصائب في ثنايا الصدر. ولم يكن في تلك الحاشية التي جمعتها يد المنكر والفساد رجل يحب الآخر؛ فكلهم متنافرو المشارب مختلفو الأميال، ولم يتحدوا إلا على كسب أموال البك، حلالا كان ذلك الكسب أم حراما. قام ذلك الشيخ وقال للبك: سيدي وولي نعمتي، هل ليدك الشريفة أن تتناول الكمنجة ...؟
ولم يمهله البك أن يتم قوله فنهره قائلا: كفى مجونا وهزرا.
اندهش الرفاق لما فاه به البك لاعتقادهم أن البك يحب من يتغنى بشهرته الواسعة في الكمنجة. اندهش الجميع وسكتوا، ولكن شيخنا السكير لم يندهش ولم يسكت، بل ابتسم ابتسام الفائز، وقال وفي صوته رنة الرجاء والاستعطاف: الناس لا تشك في هزري ومجوني، وهم أيضا لا يشكون في نبوغك وعبقريتك، فهل لسيدي أن يتنازل ويشنف آذان عبيده؟
ونظر البك للسماء مادا يده لوجهة الشيخ.
ففطن صاحبنا لما يدور في خلد البك، فمشى على أطراف أصابعه إلى أن وصل لتلك اليد الشريفة، وتناولها في يده، وقبلها مرارا وهو يرجو ويستعطف.
فقبل البك رجاءه وشنف آذان رفاقه، ولم يكن - حفظه الله - حانقا على عبده، ولكنه كان ممن إذا رجاهم أحد ودوا لو كرر الرجاء مرات عديدة. وبينما كان البك يشنف آذان رفاقه دخل عليهم رفيق آخر هللوا لقدومه وصفقوا، ولكن البك عبس في وجهه وصافحه مصافحة جفاء وغضب؛ فانقلب تهليل الجماعة إلى نفور وازدراء، واستمر البك يضرب الكمنجة ورءوس الرفاق تميل طربا إلى أن انتهى فألقى بها على الخوان، ونظر للقادم نظرة تجسم فيها البغض وقال: ما هذا الجفاء يا سعادة الباشا.
فابتسم الحضور لتقريع البك، وسكت الرجل، فقال البك: علام السكوت؟ أين كنت؟ وعلام تأخرت؟ - كانت امرأتي تلد. - لقد وضعت بإذن الشيطان كلبا.
فقهقه الحضور وتمايلوا بأجسامهم، وكانوا يضحكون إرضاء للبك، وليس شيء أقبح من وجه من يتضاحك، ولكن البك كان يتغافل عن كل ذلك تغفيلا لنفسه، وأقسم الرجل ثلاثا على صحة دعواه، فقال البك: إنك تكذب. أنت تنكر النعمة التي أسبغناها عليك. - حاشا لله أن أكون ذلك الرجل. - صه. إياك والكلام. إني أعرف أين كنت أمس.
وسكت الرجل وهو بريء لم يرتكب إثما، وهل في ذهابه لبيت ابن عم البك مرة في الشهر إثم كبير؟ ولكن البك كان من الأغنياء الذين تشبه أخلاقهم أخلاق النساء؛ فتراهم يغيرون إذا ما التجأ أحد حاشيتهم مرة في حياته إلى أحد سواهم.
Неизвестная страница
وقام الرجل المسكين وقبل أقدام سيده ومولاه، فصفح عنه بعد أن فرض عليه جزية تقبلها الرجل شاكرا؛ وهي أن يقوم هذا البائس ويقبل أيادي الرفاق أجمعين ثلاثا بعد أن يصفعه كل واحد منهم مرة، وكيف لا يقبل ذلك الرجل الفقير ذلك وقد وضعت امرأته بالأمس طفلها السادس؟!
ودارت الكئوس مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ثم قاموا جميعا وتناولوا العشاء، وعادوا للراحة في غرفة الاستقبال، ولبثوا سكوتا ومنهم من أسند رأسه على كتف صاحبه مستسلما للكرى، ومنهم من انتهز الفرصة وتناول كأسا من الوسكي دون أن يراه أحد، ومنهم من جلس يفكر في حيلة يضحك بها البك لينال رضاءه، أما البك - حفظه الله - فكان كالميت لا يعي شيئا، وهذا حال كل رجل بدين الجسد إذا أكل ولم يحاذر في أكله.
ثم أفاق البك ونادى أحد الرفاق، وكان فتى في مقتبل العمر، جميل الصورة أهيف القد، إذا مشى تثنى كما يتثنى الغصن وقد لعب به النسيم، وكان البك يميل لمحادثته على انفراد؛ لعذوبة ألفاظه، ورقة حديثه فكان لا يصبر على فراقه دقيقة واحدة، ولهذا أسكنه البك في غرفة من السلملك، حتى إذا احتاج لرؤيته لا يلبث أن يراه.
ناداه البك قائلا: أين عودك يا صديقي؟ أمسك به وشنف آذاننا جميعا.
فتناول الفتى العود، وابتدأ في الضرب، وغنى لحنا تناول البك عند سماعه الكمنجة واشترك في الضرب والغناء معه، وقام الرفاق يرقصون حتى إذا أعياهم الرقص جلسوا وهم يصفقون ويميلون طربا كأنهم يسمعون عبده أو عثمان. وعند انتهاء الغناء دخل على الجماعة رجل يبلغ الخامسة والأربعين، يلبس منظارا أسود يحجب عن الناس ما في عينيه من شر وحسد وحقد، وسلم على الجميع بعد أن قبل يد البك، وقام البك واقفا لرؤيته وعانقه والرفاق في دهشة! وكيف لا يدهشون والقادم صعلوك ممن حكم عليهم قديما بالحبس للتزوير والاختلاس؟! وجلس الرجل بجوار البك، وأسر إليه كلمات ابتسم لها البك، وتهللت أسارير وجهه، ولما رآه الرفاق يسر للبك شيئا ابتعدوا قليلا فقال الرجل لسيده: قد انتهى كل شيء. - كم في المائة؟ - ثلاثون. - بورك فيك.
وعاد البك للغناء والضرب على الكمنجة، والرفاق للرقص والتصفيق. •••
لم يكن هذا الزائر الجديد إلا رسول البك للمرابين لرهن مائة فدان هي البقية الباقية من تراث آبائه، وهل يتسنى لمن كان يمتلك ثلاثمائة فدان أن يعتاد هذا البذخ وهذا الإسراف على جماعة يستأجرهم لتقبيل يده والتغني بكرمه وجوده دون أن يرهن ما عنده ليفقده صفقة خاسرة؟!
وهب بعد قليل نسيم عليل ارتاحت له نفس البك، فقال وهو يبتسم: لو من الله علي بألفي جنيه لكنت أشتري بها منزلا في رمل الإسكندرية لأقضي فيه فصل الصيف من كل عام.
وتنهد البك آسفا على ذلك المنزل الجميل، فقال أحد الرفاق: لا تيأس يا سعادة البك من رحمة الله، سوف يمن الله عليك بما تريد.
ولم تقع هذه الجملة موقعا حسنا عند البك، فغلى الدم في عروقه وقطب وجهه استياء ثم صاح: يا لك من غر أحمق! يمن الله علي؟ أتظن أني فقير أيها المجنون؟!
Неизвестная страница
وحق للبك أن يغضب هذا الغضب الكبير وهو الذي يغيث الفقراء ويحمي الضعفاء، فقام إليه الزائر الجديد ذو المنظار الأسود وحاول أن يزيل غضبه، ولكن البك لم يقتنع بشيء، وكاد أن يهم بضرب من اتهمه بالفقر والاحتياج لمعونة الله، وعزز الرفاق سيدهم وسقط الرجل في يده وخرج من الغرفة وهو يتعثر في أثواب خيبته، وجلس البك وهو يرغي ويزبد، ثم تناقص غضبه شيئا فشيئا إلى أن زال، وعاد الجمع للعزف والغناء والرقص، ودارت الكئوس ولعبت الخمر بالرءوس، فكنت تسمع في الغرفة النكات تتلو النكات والشتائم تتبع الشتائم، إلى أن تملك التعب على القوم نفوسهم فاستسلموا إليه، وسقط بعضهم على الأرض لا حراك به، واستأذن من تبقى له شيء من قوته تحمله إلى بيته إلى أن خلا المكان إلا من النائمين، وكان البك ملقى على مقعد وبجواره الزائر ذو المنظار الأسود يفتش في جيوبه، ولما انتهى من عمله نادى إدريس البربري؛ ليحمل سيده إلى الحريم ...
فرغ صديقي من قصته فالتفت إلي وهو يقول: ماذا تقول في هذه القصة؟
فتنهدت وقلت: صدق من قال إن شبان مصر الأغنياء لا يعرفون للضجر معنى، فأكرم بهم وأنعم! - هذا طريق واحد من عدة طرق يسلكها هؤلاء الأغنياء لقتل وقتهم وضياع ثروتهم. - وهل هناك طرق أخرى؟ - هيا بنا نخرج لاستنشاق الهواء في الجزيرة، وهناك أقص عليك قصة أخرى.
فخرجت معه وكلي آذان مصغية لحديثه.
2 أغسطس سنة 1917
حفلة طرب
كنت شغوفا بالكنسير أيام كنت في باريس، لا تفوتني من لياليه ليلة تجمع بين الأناشيد الشجية والألحان الفكاهية، والوجوه الوضاحة والقدود المائسة والعيون الضعيفة القاتلة. هناك كنت أمتع عيني بالجمال الذي صاغته يد الخالق في وجوه الحسان، وأملأ قلبي لذة يمازجها الطهر، وأذني ألحانا جميلة ينفسح لها الصدر. •••
أيام مضت كما يمر الحلم العذب برأس النائم، والآن أنا بمصر محروم من تلك الجباه المشرقة والوجوه اللامعة والغرر المتألقة والألحان الشجية الجميلة، وما أحوجني إلى رؤية شيء منها، إن لم يماثلها جمالا وحسنا فلا أقل من أن يكون باعثا من بواعث الذكرى تهيج في قلبي نارا كاد أن يطفئ أوارها النسيان!
جلست أمس في مجلس جمع من الإخوان من كانت تتوق النفس للقائه، ويتأجج الصدر عطشا لرؤيته، وكان بينهم صديق لم تره عيني منذ سنين، فكنت أجاذبه أطراف الحديث وكلي آذان مصغية له، ولبثنا نتحادث إلى أن أخرج ساعة من جيبه ونظر فيها مليا، ثم قال: هيا بنا، لقد دنا الميعاد.
فقلت: وأي ميعاد؟ - أنا على موعد مع أحد الأصدقاء لسماع مغنية جديدة، فهل لك في مرافقتي؟
Неизвестная страница
فأجبته لمطلوبه واستأذنا الجماعة ومشيت معه جنبا لجنب.
وصلنا إلى القهوة، ووجدنا على بابها شابا ينتظر، قدمه إلي صديقي، فابتدرنا بقوله: لنرجع أدراجنا إلى منازلنا.
فقال صديقي: وعلام؟ - أن السيدة «...» لا تغني هذه الليلة.
وحانت مني التفاتة إلى القهوة فقلت: ولكني أرى سيدة جالسة على «التخت».
فقال الشاب: يا للعجب لقد تأخرت إذن عن ميعادها ربع ساعة.
فقلت لنفسي وأنا أبتسم: «يا للعجب أول القصيدة كفر.» وابتعنا تذاكرنا، ودخلنا القهوة ونحن نتسابق لسماع المغنية، وأخذنا مجالسنا بين الجمهور، وجلسنا وكأن على رءوسنا الطير.
القهوة فسيحة الأرجاء، جمعت من شتات الناس المطربش والمعمم ولابس الجلابية الزرقاء؛ جماعة مختلفي المشارب خارج القهوة متحدي الأميال فيها، تعوزهم ريشة المصور؛ لترسم للناس الصور المضحكة المبكية التي تبدو على وجوههم. ثم نظرت لجماعة المغنيين وضحكت حتى كدت أن ألفت أنظار الناس لولا اندفاعهم لرؤية وجه المغنية الفاتنة التي كانت تبتسم للجميع وتحييهم أجمل تحية.
المغني الأول:
شاب أسود البشرة يظهر لي أنه من أم زنجية وأب مصري، أو أنه نوبي من أهل أسوان، أو عامل من عمال العنابر في مصر له أنف طويل يكاد يلتطم مع شفته اليسرى، وعينان سوداوان بهما جمال عبثت به يد السهر والخمر، وشارب قصير كريش فرشة تنظيف الأسنان، وكان مرتديا بدلة بيضاء وبها بقع سوداء، فما أقرب شكله لشكل الفرس الأبلق!
والثاني:
Неизвестная страница
رجل مغلق الأجفان يجتهد في فتحهما كلما دعته الحالة فتعييه الحيلة، له فم إذا فغره خلته بئرا، وأذنان كبيرتان، وذقن طويلة تهتز مع رأسه كلما أنشد كأنها تسأل الناس المعونة والأجر، فما أشبهه بحلاق من جهة سيدنا الحسين أصيب بالعمى فجاء ليرتزق في قهوة عمومية!
أما الثالث:
فكان رجلا مرتديا جلابية بيضاء وحزاما من المناديل الحمراء الكبيرة وجبة زرقاء وطربوشا من غير «خوصة»، لم يحلق لحيته منذ أيام فظهرت شعورها في وجهه كما يظهر النجيل في الأرض القحلاء، وكان إذا أنشد أخذ فمه شكلا هندسيا يشبه المعين، إذا نظرت إليه ظننت أنه منجد ملك عنانه حب الغناء فأتى إلى القهوة ليشنف آذانه، ودفعه ذلك الميل الغريزي لامتطاء الدكة المعدة للمغنين، فجلس عليها يساعد الجماعة على إخراج الأغاني صحيحة خالية من العيوب.
أما الرابع:
فهو شاب نحيف الجسد أسمر اللون لا تفارق عيناه أديم الأرض، ولعله من المصابين بداء الحياء الشديد، ولهذا لم يتيسر لي أن أتفرس في ملامح وجهه لأصفها للقراء. فهو رجل كما تقول العامة في «حاله»، ولهذا ندعه في حاله.
أما الخامس:
فهو شيخ أحنت الأيام ظهره، فأصبح كالقوس يداعب المغنية من وقت لآخر، ولا أدري لماذا. له طربوش تظهر منه شعور كتلك الشعور التي أبقتها يد التحنيط على رءوس الجثث المحنطة في دار الآثار المصرية، مرتديا بدلة يحار فكر الناظر أمامها؛ فمن قائل إنها بدلة عادية، ومن قائل إنها ردنجوت قصيرة، ومن قائل إنها من نوع جديد سوف يحذو على منواله كل حائك في مصر، فلا تلبث أن تصبح الموضة المصرية الجديدة بعد أن انقطعت عنا في أيام الحرب موضة باريس ، وهو أشبه الناس بكتاب الدوائر الكبيرة.
وأما حامل العود:
فهو رجل بدين الجسد له وجه منتفخ تغار فيه عيناه البراقتان، تظهر عليه بعض مخايل الوجاهة، ولا أدري لماذا؛ ولعل ذلك لأنه حامل العود والعود سلطان الآلات الغنائية.
وأما حامل القانون:
Неизвестная страница
فهو شاب جميل الصورة أسمر اللون حسن الهندام، يظهر عليه أنه كان غنيا ثم أناخ عليه الدهر بكلكله، إذا لمست يده أوتار القانون اهتز جسده بأجمعه مع اهتزاز النغمات، وتقلصت شفتاه وتقطب وجهه، فكأنه يبكي أيامه الماضية وثروته الضائعة.
وأما حامل الكمنجة:
فهو شاب في ريعان الشباب، أصفر الوجه له شارب طويل يرتفع طرفه الأيمن إلى أعلى وينخفض طرفه الأيسر إلى أسفل، له وجه ليس فيه شيء من التناسب بين طوله وعرضه، وجبهة خليقة بأن تكتب عليها بالثلث عناوين الأدوار، فما أشبهه بمحرري بعض الجرائد في مصر!
أما الأخير:
فهو يافع لا أدري لماذا أتوا به، يذكرني بيافع آخر كان يمر على قهاوي العاصمة ليبيع السجاير «الفنتزية»، التي إذا أشعلتها طار منها شعاع يخيف الأطفال الصغار.
أما المغنية:
فهي امرأة ذات جمال إغريقي في نحو الثانية والثلاثين من عمرها، قصيرة القامة نحيلة الخصر وضاحة الطلعة سافرة الوجه، مرتدية ملاءة سوداء تصل أطرافها إلى ركبتيها فتزيدها رقة وحسنا، لها فم جميل لا تفارقه الابتسامة، فكأنما تتساقط منه زهور النرجس والورد، ولها شفتان تتعدد أشكالهما كلما غنت؛ فتارة تظهر عليهما صورة الاستعطاف، وطورا صورة الإعراض، وآنا صورة الحنو والامتثال، وآونة صورة التيه والإعجاب. تغني ثم تضحك، وتضحك ثم تغني، وتبتسم وتخجل، ولا أدري لماذا تخجل ولماذا تبتسم ولماذا تضحك، وإن كنت أعرف لماذا تغني!
ويخيل لي أنها إذا خلعت إزارها الأسود وجلست لتحادثك خارج القهوة وهي جادة في قولها، يذهب عن وجهها ذلك الجمال الساحر والدلال القاتل. يشفع ابتسامها الجميل في ضعف صوتها.
انتهى الغناء، وخرجت مع صاحبي، فسمعت عند باب القهوة رجلا يقول: هذا غناء يتخلله ضحك وابتسام.
فقلت في نفسي: لقد أخطأت يا صاح، هذا ضحك وابتسام يتخللهما غناء.
Неизвестная страница
أغسطس سنة 1917
صفارة العيد
العطفة التي نتكلم عنها طويلة ضيقة خالية من الأرصفة، تبتدئ بحائط سميك وتنتهي عند الشارع الكبير؛ حيث ترى على يمينها قصرا فخما يخاله الناظر سجنا أعد للمجرمين، وعلى شمالها قبرا لشيخ وهمي تقف أمامه الرجال والنساء يقرءون الفاتحة وهم ينظرون للسماء نظرة رجاء وابتهال، ثم يمسحون وجوههم بأيديهم ليتم الله نعمته عليهم. وإذا سرت فيها فبلغت منتصفها وجدت «أم مليم»، بائعة الطعمية والسلطة والكرات، جالسة القرفصاء أمام حانوتها المكون من قفص تعرض عليه ما تبيعه لسائق عربة الكارو ولابن السبيل والفاعل. وإذا اقتربت من بدايتها؛ أي من الحائط السميك الذي يقف في وجه المارة ليمنعهم من المسير، وجدت شجرة كبيرة يتفيأ ظلالها كل من تعب وتملكه الإنضاء. أما إذا أسرعت في سيرك خشيت أن تعثر في هاوية صغيرة أو تل لا يزيد ارتفاعه عن عشرة سنتيمترات، أو في القاذورات التي تلقي بها أيدي المارة بلا خوف ولا حذر. أما القصر فهو لأحد البشوات الذين أبوا أن يهجروا الحي الذي نشأ فيه أجدادهم، وهو قصر - كما قلنا - عظيم، يجلس على بابه الخصي واضعا رجلا على رجل وممسكا بمسبحة يستعين بها على قتل الوقت؛ حتى لا يشعر بسأم ولا ملل، وهو شيخ في الخامسة والخمسين من عمره، له شفاه تشبه قطع «البفتيك» التي تقدم لك في مطاعم العاصمة، وعينان يزداد احمرارهما كلما «أخذته الجلالة» فنطق باسم الله العظيم، وأنف أفطس كأنه ضفدعة وجدت في وجه الخصي منبتا حسنا، وكان طويل القامة ضخم الجثة، إذا مشى اهتز كما يهتز الفيل. •••
نحن في اليوم الأول من أيام العيد، والناس في هرج ومرج، والأطفال يلعبون في الشارع وقد أمسكوا بألاعيبهم وارتدوا ملابسهم الجديدة وتسامروا وهم يضحكون ويقفزون، والآباء انشرحت صدورهم ومشوا في الشارع وهم يقولون بعضهم لبعض: «كل عام وأنتم بخير.» وكان بين الأطفال طفل نحيل الجسم أصفر الوجه، ينظر لرفقائه نظرة تعبر عن غبطة لهم وعن رثائه لنفسه لحرمانه من سرورهم وسعادتهم، وكان خجولا من لباسه القذر وأقدامه الحافية. يقف بجوارهم ثم يضع يديه خلف ظهره ويبتسم، كأنه يسألهم السماح له بمشاركته إياهم سرور العيد، وليس في ذلك بأس عليهم وهو طفل مثلهم، يبكي إذا ألم به ضر ويضحك إن نال ما تصبو إليه نفسه، وأنى له أن ينال بغيته وهو يتيم توفيت أمه بعد ولادته بخمس سنوات، ومات أبوه بعد وفاتها بعامين! فعاله عمه، وأين حنو زوجة العم من حنو الأم! مشى الأطفال الهوينا ثم غادروا العطفة، وتواعدوا على العدو في الشارع الكبير، وجروا فيه أشواطا عديدة، فسقط أحدهم على الأرض فأسرع إليه رفقاؤه وهم يضحكون كما تغرد العصافير وعاونوه على النهوض من سقطته، فقام وهو كالح الوجه كاسف البال، وقد جال الدمع في عينيه، ولكنه لم ينس أن اليوم عيد وأن البكاء محرم فيه وأن السرور فرض، فما لبث أن نسي سقطته وتناسى آلامه وجرى خلفهم إلى حيث كانوا يقصدون. أما اليتيم فلم ينس آلام نفسه؛ تلك الآلام القاتلة التي كانت تدب في جسمه فتطفئ نوره وتذهب بجماله وروائه.
ثم غادر الأطفال الشارع الكبير، ومشوا في العطفة وهم يضحكون وينشدون الأناشيد الصبيانية، إلى أن وصلوا للشجرة الكبيرة، وهناك صاح أحدهم: لقد ابتعدنا عن الشارع الكبير، وهناك تمر الباعة، فهيا بنا نعود من حيث أتينا.
وتسابقوا وقد علا صياحهم في الفضاء. •••
ومرت في الشارع الكبير في تلك الساعة عربة كارو وقد ركب عليها سائقها، وهو شاب يشبه جسمه المكعب، له رأس له أربعة أركان يشبه مسطحها المربع. ألهب السائق جواده وهو يغني أنشودة بلدية جميلة: «أسمر سمرمر صغير السن لوعني»، ولما اقترب من الخصي قرأه السلام بصوت جهوري، فرد عليه الخصي السلام من أطراف شفتيه وهز رأسه كأنه يأسف على تدهور أخلاق السوقة. وعادت الأطفال في تلك الساعة من الشارع الكبير إلى العطفة، وهي ملجؤهم الوحيد، وفي يد كل واحد منهم صفارة اشتراها من بائع يجول في الطرق، وابتدءوا ينفخون في صفافيرهم ويغنون، وتلك لعمري موسيقى تبعث السرور في القلوب، وإن كانت غير شجية لتنافر نغماتها. وقف اليتيم معهم وقد أشجته تلك الموسيقى، واقترب من رفقائه وهم يرقصون ثم رقص معهم؛ إذ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك. فنظر إليه أكبرهم سنا وقال له بملء فيه: أين رداؤك الجديد يا علي؟
فلم يجب اليتيم وضحك الآخرون.
وقال ثان: أين صفارتك أيها الصديق؟
وقال ثالث: كفاكم رقصا ولنصفر جميعنا. ليرقص من ليست معه صفارة.
Неизвестная страница
ولكن اليتيم لم يكف عن الرقص، وقد عز عليه أن لا يترنح معهم، وضرب صفحا عما سمعه كأن لم يعرض به أحد.
وفي تلك الساعة مر أستاذ قصير القامة طويل اللحية، يسير الهوينا في طريقه وهو يداعب لحيته بيده اليسرى ومسبحته بيده اليمنى. فهرعت الأبناء للقائه وهم الخصي واقفا ثم مشى وقبل يده، بينما كان الآخرون يقبلون أطراف جبته. أما الشيخ فهو رئيس الطريقة النقشبندية؛ وهي طريقة تحتم على أشياعها أن يذكر كل واحد منهم لفظ الجلالة مرة في كل عشرة دقائق، توفي شيخها القديم منذ خمسمائة سنة بعد أن نقشت التقوى على صدره اسم الجلالة، ولهذا سميت طريقته باسم النقشبندية.
ثم مر بائع الحلوى فهرعت إليه الأطفال، وجرى معهم اليتيم ولكنه كان في مؤخرتهم، فمد إليه أحدهم قطعة من الحلوى قائلا: خذ.
فأشار علي برأسه رافضا، واستكبر الآخر منه ذلك فألقى بقطعة الحلوى على الأرض، فالتقطها اليتيم وأعطاها لكلب جائع كان يبصبص له بذنبه، وغادر اليتيم رفيقه وقد ارتسمت على وجهه صورة البؤس ممزوجة بصورة عزة النفس، ولحق برفقائه وهو وحيد القلب وإن كان كثير الرفقاء، أما رفيقه الذي أعطاه الحلوى فقد مشى وهو يهز كتفيه ويصعر خده أنفة واستكبارا.
ثم حانت التفاتة من الأطفال إلى الشارع الكبير فوجدوا محمودا «الفتوة» قادما عليهم، فصاحوا جميعا: «محمود السبع حضر. محمود السبع حضر.» وصفقوا بأيديهم، فابتسم لهم محمود وكان «فتوة» عطفتهم، وسار في طريقه على مهل ساحبا أذيال الخيلاء وملوحا بعصاه في الهواء كما يلوح الفارس بسيفه، وكان ضخم الجثة قوي العضلات له في المشاجرات القسط الأوفر والفوز الأكبر، مشهور بين فتوات العطفات الأخرى؛ ولذا لقب ب «محمود السبع».
نظر إليه الخصي نظرة امتهان وامتعاض، فقهقه محمود ضاحكا حتى استلفت أنظار المارة، وبصق الخصي على الأرض وكان هذا أكبر مجهود يقدر على فعله لإهانة محمود، ثم صاح أحد الأطفال: المصارعة المصارعة خير مما نفعل، ومن يتفوق على نظيره يأخذ صفارته مكافأة له على قوته وشجاعته.
فقال آخر: وليكن محمود السبع حكما بيننا.
فقال محمود: بلا شك.
وقال رابع: ولكن عليا «اليتيم» لا يملك صفارة.
فصاح الطفل الذي رمى لعلي بقطعة الحلوى: سأصارعه، فإن تفوق علي أعطيته صفارتي، وإن تفوقت عليه صفعته على وجهه أمام الجميع.
Неизвестная страница
فصفق الأطفال استحسانا وقطب علي وجهه وشمر عن ساعده، فكنت ترى عند التحام جسمه بجسم رفيقه صورة غريبة على وجه كل واحد منهما؛ الأول: يدافع عن صفارته، والثاني: يدافع عن شرفه. والفرق بين الصفارة والشرف كبير، وتغلب علي على رفيقه وألقى به على الأرض وهو ممسك بتلابيبه، وفرق بينهما الرفاق فقام علي وهو رافع الرأس وقال: أين الصفارة؟
فقال محمود السبع للمغلوب: أعطه الصفارة.
ثم أدار وجهه عن الأطفال وذهب للقاء صاحب له. فأخرج المغلوب صفارته من جيبه بعد تردد ومد يده بها إلى عدوه، فأخذها علي ووضعها في فمه كما يضع الظمآن حافة الكأس المثلجة بين شفتيه وكأنه امتلك العالم بأجمعه، وما لبث قليلا حتى ضحك الحاضرون ضحكة استهزاء وسخرية، وكيف لا يهزءون به ولا يسخرون منه وهو ينفخ في صفارة لم يشترها بماله، فألقى علي بالصفارة في وجهوهم وسار على مهل وهم يصفقون خلفه. وابتعد عنهم فلم يشاءوا أن يتتبعوه خشية أن يفارقوا نهاية العطفة؛ حيث يكثر الباعة، فسار اليتيم الهوينا إلى أن وصل للشجرة الكبيرة، وهناك وقف هنيهة كأنه يفكر ثم جلس في ظل الشجرة وقد أسند ظهره إلى ساقها ونظر جهة اليمين وجهة الشمال، فوجد العطفة قفرة كقلبه، فوضع رأسه بين يديه وبكى وهو يقول: «أماه. أماه. أبتاه.» بينما كانت الأطفال تغني في الشارع الكبير. •••
ثم أفاق بعد هنيهة فوجد الكلب الذي ألقى بقطعة الحلوى إليه جالسا عند رأسه يلحس دموعه بلسانه الظامئ.
أغسطس سنة 1917
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
(هذه القصة لموبسان الكاتب الفرنسي الشهير، بدل المعرب أشخاصها وزمانها ومكانها وموضوعها، ممصرا كل شيء فيها، فلم يبق من الأصل إلا روح الكاتب، واتبع المعرب في ذلك خطة تولستوي في قصصه التي نقلها عن موبسان. •••
محمد بك عبد القادر رجل في الخامسة والخمسين من عمره، أقنى الأنف أسود العينين مقرون الحاجبين، يقص شاربه ويعفو عن لحيته. إن مشى يسير الهوينا، وإن جلس يتربع على كرسيه بعد أن يخلع خفيه، يرتدي الردنجوت ولا يحب سواها من الملابس الإفرنجية؛ لأنها أقربها شكلا لمظاهر الصلاح والتقوى. مسلم في كل أقواله وأفعاله، يذب عن الدين كلما تعرض له ملحد لا يتقي الله في دينه ولا دنياه، ويدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يتناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين على العوائد والتقاليد القديمة. وإن رأى شابا جالسا في حان يتعاطى كأسا من الخمر، وقف في مكانه كالمصعوق، ثم بصق على الأرض ومشى في سبيله وهو يرتل آيات القرآن. له في بنك الكريدي ليونيه عشرون ألفا من الأصفر الرنان، لا يتعاطى عنها فائدة متبعا قوله تعالى:
وأحل الله البيع وحرم الربا .
يسكن محمد بك في قصر جميل على ضفاف النيل، تحوطه حديقة غناء تتمايل أشجارها كلما داعبها النسيم، وتسمع فيها موسيقى الطيور ممزوجة بألحان أمواج النيل. تلك موسيقى جميلة هادئة كأنها صوت الحب في آذان العاشق اليائس. وإذا ظهر الشفق خلف النخيل وارتدت السماء ثوبها الأحمر قبيل الغروب، خيل للناظر أن هذا الاحمرار هو دموع الليل يودع النهار. وإذا بزغ القمر في القبة الزرقاء في ليلة من ليالي الصيف، ود صاحب البيت أن لا يفارق الحديقة حتى مطلع الفجر. هذا هناء كبير جاد به الله على هذا الشيخ الصالح مكافأة له على عبادته وصلاحه؛ فهو به قرير العين مثلوج الفؤاد، تلوح عليه أريحية السرور كلما ذكر الله، ويلمع في غرته نور البشر كلما صلى على نبيه.
Неизвестная страница