وبرزت تدمر إلى الأمام إبان الحروب البارثية في القرن الثالث، وأصبحت سيدة الصحراء لفترة قصيرة، فلقد كان الشرق إذ ذاك يضطرب بالصراع بين الإمبراطوريتين البارثية في ثوبها الجديد الساساني والرومانية، وكان على التدامرة أن يختاروا الانضمام إلى إحدى الدولتين، فآثروا أن ينضموا إلى روما؛ ذلك لأن الإمبراطور الروماني كان - بسبب بعد روما - أقل خطرا عليهم من الإمبراطور الساني القريب منهم.
واغتنم أهل تدمر فرصة هزيمة الرومان، ونجاح شابور الأول ملك فارس، في التوغل في سوريا، والقبض على الإمبراطور فالريان الروماني، فظهر زعيم أذينة «واسمه عند الرومان أوديناتوس» فحارب شابور وتعقبه إلى أسوار عاصمته طيشفون «المدائن» سنة 265م، وبعد موت فالريان منح الإمبراطور جالينوس أذينة لقب الإمبراطور واعترف به سيدا على كل الكتائب الرومانية في الشرق، ولكن حدث - بعد ذلك بعام واحد «سنة 267» - أن قتل أذينة غدرا هو وابنه الأكبر في مدينة حمص، فانتقلت بعد ذلك مصائر تدمر إلى أيدي زوجته زينوبيا «اسمها بالآرامية باث زباي وبالعربية الزباء وأيضا زينب» التي كانت تشارك زوجها في نشاطه وتؤيده في سياسته التي ترمي إلى اغتنام الفرصة وتكوين إمبراطورية عربية، لقد أثبتت زينوبيا أنها خير خلف لزوجها، وتولت الحكم بالنيابة عن ابنها الصغير وهب اللات «أي عطية اللات واسمه باليونانية أثينودورس»، ثم نادت بنفسها ملكة على الشرق، مستخفة - إلى حين - بالإمبراطورية الرومانية، لقد كانت تدمر تضم في أيام بلاد الشام وبلاد العرب، ولكن جنود زينوبيا التي قيل إن عددهم كان 70000 قد تقدمت الآن لاحتلال مصر، كما احتلت أيضا جزءا كبير من آسيا الصغرى، التي دفعت الحاميات الرومانية فيها إلى ما وراء أنقرة سنة 270، بل وحاولت أن تبسط نفوذها عند خلقدونة على ضفاف البسفور قبالة بيزنطة، وقد احتلت جنودها في نفس العام - مدينة الإسكندرية ثاني مدائن الإمبراطورية، ونودي بابنها الأصغر ملكا على مصر، فأصدر عملة أسقط منها رأس أورليان، وأطلق على نفسه لقب الإمبراطور، وكذلك فعلت أمه زينوبيا، وفي سنة 271 ميلادية أقام القائدان التدمريان العظيمان زبدا وزباي تمثالا للملك المقتول أذينة، ولقباه - في نقش على قاعدة التمثال - بملك الملوك، وإلى زباي وزبدا هذين يعزى الفضل - إلى حد كبير - في نجاح زينوبيا في ساحة الوغى.
ولم يكن من الطبيعي أن تصبر روما على هذه الاستهانة بأمرها طويلا، فتشجع أورليان في آخر الأمر وأعد حملة لغزو تدمر مصدر الخطر كله، فجاء عن طريق آسيا الصغرى، وهبط إلى بلاد الشام، فلاقته جيوش تدمر، تحت قيادة زبدا عند مدينة أنطاكية، ولكنها هزمت، وعند مدينة حمص لاقت جيوش تدمر هزيمة أخرى، وأصبح الطريق الآن مفتوحا إلى تدمر، فاستولى عليها أورليان في ربيع سنة 272، وأصدر عفوا عن كل سكانها، ولم يعاقب بالقتل إلا كبار الموظفين والمستشارين، وفرت الملكة المتكبرة - وقد تملكها اليأس - على ظهر هجين سريع إلى الصحراء، ولكنها أسرت هي وولدها في آخر الأمر، وقيدت في سلاسل ذهبية أمام عربة المنتصر الذي أراد أن يفخر بها أثناء دخوله روما مظفرا.
وعرف أورليان ولم يكد يعبر الدردنيل في طريقه إلى روما أن أهل تدمر ثاروا وقتلوا الحامية الرومانية التي أقامها في المدينة، ونادوا بأحد زعمائهم رئيسا عليهم، فعاد أدراجه بمنتهى السرعة، دون أن يتوقع عودته أحد، وفاجأ المدينة فأكمل دمارها وأسلم أهليها إلى السيف، ثم نقل تحف معبد الشمس الرائعة وحلية الغالية، إلى المعبد الذي أقامه في روما لإله الشمس في الشرق، تخليدا لذكرى هذا الانتصار، ولم تنهض المدينة من كبوتها من ذلك اليوم، ولا استردت مجدها وأهميتها، وتركت المدينة أنقاضا هي نفس الأنقاض التي نراها في الوقت الحاضر، وهكذا غربت شمس المجد التدمري، وكانت كشهاب أضاء لحظة ثم انطفأ.
الحضارة التدمرية
كانت الحضارة التدمرية مزيجا لطيفا من عناصر مختلفة، بين يونانية وسورية وإيرانية، ولا جدال في أن أهل تدمر كانوا من الأرومة العربية؛ يدل على ذلك أسماء أعلامهم العربية، وكثرة ترداد الكلمات العربية في نقوشهم الآرامية، وكانت اللغة التي يتكلمونها لهجة من اللهجات الآرامية الغربية، وهي تنتمي إلى الأصل الذي استمدت منه النبطية أو الآرامية المصرية، وهي تضم كثيرا من المصطلحات الحكومية اليونانية التي صبغها أهل تدمر بصبغتهم، كما أن فيها بضع كلمات لاتينية صبغت بالصبغة الآرامية أيضا، وأما الخط الذي كانوا يكتبون به فهو تطور للخط الآرامي القديم، وأسماء الشهور عندهم هي نفس الأسماء البابلية التي كان يستعملها الأنباط والسوريون واليهود المتأخرون، وكانوا يحسبون تواريخهم من العصر السلوقي، الذي يبدأ بأكتوبر سنة 312ق.م.
أما ديانة أهل تدمر فلا تختلف كثيرا في أصولها عن ديانة أهل شمال سوريا والقبائل العربية الضاربة في الصحراء الشرقية، وكان أشهر آلهتهم إله الشمس ويسمى عندهم سمس أو شمش ومعناها شمس، وبقايا معبد الشمس الكبير لا تزال قائمة في أنقاض تدمر الآن، وكانوا يعبدون القمر أيضا، ويسمونه عجلى بل، وكانت أشهر الإلهات الأنثيات الإلهة اللات المشهورة عند العرب القدامى، ومن بين الآلهة بعل شمين «أو سيد السموات» ومن بين الآلهة إله يحمل هذا الاسم العربي الواضح، وهو «شيعا القوم»، وكانوا يصفونه بأنه إله الخير الطيب الذي لا يشرب الخمر، ومعنى شيعا القوم أي حامي أو مرافق القوم، وهو الذي يرعي القوافل في سيرها، هذا وقد كشفت النقوش عن أسماء نحو اثنين وعشرين إله في تدمر.
وبسقوط مملكة تدمر انتقل الطريق التجاري مرة أخرى إلى الجنوب فحلت بصرى وغيرها من المدائن الغسانية محل تدمر وورثتها كما ورثت تدمر بطرة من قبل.
ولكن تدمر انتعشت قليلا في أواخر القرن الثالث الميلادي عندما اتخذها دقلديانوس محطة حربية، وقبيل ذلك الوقت سلكت المسيحية سبيلها إليها، بدليل أننا نجد ذكرا لبعض التدامرة بين الآباء الدينيين الذين حضروا مجمع نيقية سنة 325م، وفي سنة 527م أمدها جاستنيان بقناطر لجلب الماء، وأقام فيها حائطا لا تزال آثاره باقية.
وعند الفتح الإسلامي للشام سلمت تدمر لخالد بن الوليد، ولكن أهلها لم يعتنقوا الإسلام، ثم تحولت المدينة إلى معقل إسلامي يأوي إليه الكثيرون من المستعمرين العرب.
Неизвестная страница