ولست أدعي أني قد أحطت بما لم يحط به أحد، أو أنني وفيت الموضوع من جميع نواحيه، بل أشهد أن هذا الحقل من حقول المعرفة التاريخية - بسبب قلة الكشوف والبحوث، ولأسباب أخرى - لا يزال بكرا، لم تقلب أرضه إلا فئوس قليلة، وبحسبي أن أكون أحد العاملين في هذا السبيل.
والله العلي القدير أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه الخير، وأن يهبنا من لدنه العون والقوة.
محمد مبروك نافع
القاهرة في
8 رجب سنة 1367 / 17 مايو سنة 1948
الفصل الأول
دراسات تمهيدية
(1) اضطراب تاريخ العرب قبل الإسلام وغموضه
لا يلقى الباحث في التاريخ القديم عناء وجهدا كاللذين يلقاهما عند تعرضه للبحث في تاريخ العرب قبل الإسلام، ولا يرجع السبب في ذلك إلى إيغال تاريخهم في القدم؛ فإن تاريخ أجدادنا الفراعنة أشد إيغالا في القدم من كل تاريخ في الأرض؛ إذ يرجع تاريخهم الثابت المؤكد إلى القرن الخامس والأربعين قبل الميلاد، هذا عدا تاريخهم الأسطوري الذي يمتد وراء ذلك بعشرات القرون، ولقد كان هذا التاريخ الفرعوني قبل نحو قرن ونصف غامضا مضطربا شأن القديم من تاريخ العرب اليوم، ولكن كشف حجر رشيد سنة 1798 ميلادية وفك طلاسمه بعد ذلك والتمكن من معرفة الكتابة المصرية القديمة وقراءة ما حفر على جدران الهياكل والمقابر والتماثيل وغيرها من الآثار التي تملأ ربوع البلاد، والتي صانها جفاف جو مصر وحفظها من الفناء، وترجمة البرديات التي لا حصر لها والتي وجدت مدفونة وفي حالة حفظ جيدة مع مومياء الفراعنة؛ كل ذلك ألقى ضوءا وهاجا على التاريخ المصري القديم الذي كان غامضا ومكن علماء التاريخ من تصحيح ما ورد عنه في كتب المؤرخين القدامى من خطأ وتخليط حتى ضاقت دائرة التناقض والاختلاف، وأصبحت الاختلافات في تاريخ الفراعنة لا تعدو ما يعترضنا من اختلافات في التاريخ الحديث، بل وفي التاريخ المعاصر.
وشأن تاريخ بابل وأشور والفرس وغيرها من دول الشرق القديم شأن تاريخ مصر إلى حد كبير.
Неизвестная страница