وكانت نتيجة هذه النهضة، التي يمكن أن توصف بأنها الحركة البشرية الثانية في أوروبا، أن ثارت الثورة الكبرى في فرنسا، وهي ثورة تجد فيها أثر «فولتير» في الدعوة إلى الذهن والمنطق، وأثر روسو في الحملة على التقاليد والظلم.
وقد عاشت أوروبا في القرن التاسع عشر وهي تستظل بهذه النهضة الفرنسية في ثقافتها أو نزعتها الثقافية، فإن روسو هو الذي حرك الأذهان إلى درس «الرجل الفطري» حين قال بأن الطبيعة حسنة والاجتماع سيئ، فكان بذلك سببا لدرس الأتنولوجية، والأنتروبولوجية، والسيكلوجية، والطبيعة، ولا شك في أن البحث العلمي قد نقض آراءه في أن الرجل الفطري خير من الرجل المدني، ولكن هذا لا يعني أنه ليس الأساس لهذا البحث نفسه، ثم لا ننسى هذه الثورة التي بعثها في الآراء التعليمية وهي ثورة لم تنته بعد إلى نتيجتها.
ومع أن فولتير قد بالغ في حملته على الأديان، فإن هذه الحملة نفسها كانت من الأسباب التي بعثت رجال الذهن على درس الأديان القديمة والحديثة والاهتداء إلى كشف كثير من الأسرار والعقائد التي انعقدت وتراكبت في النفس الإنسانية، وما يسمى الأديان «المقارنة» انما هو درس خصب يعزى إليه الفضل فيه.
ولولا هذه الحركة البشرية الثانية لبقي الاستبداد السياسي مسلطا على أوروبا، وكان يكون منه هذا الوليد الذي تراه مرافقا له في كل مكان وزمان وهو الاستبداد الذهني في الأدب والعلم، فإن الجامعة الحرة التي تدرس العلوم وتمارس الكشف العلمي لا يمكنها أن تعيش في ظل الاستبداد، وهذه النهضة الفرنسية عندما حطمت الاستبداد تناولته من جميع وجوهه، وأطلقت الذهن من جميع قيوده وأوغلت في هذا الانطلاق وارتطمت بعقبات أوقعتها في جرائم، ولكنها بعد كل ذلك استقرت على الاعتراف بحرية الذهن في التفكير، فجعلت الأدب والفلسفة موضوعا منفصلا عن اللاهوت كما جعلت العلم ممكنا بل مندوبا إليه من كل إنسان.
ولا نكاد نستطيع التمييز بين النهضة الإيطالية «القرن الخامس عشر» والنهضة الفرنسية «القرن الثامن عشر» فإنهما تنزعان نزعة بشرية واضحة، ولكن النهضة الإيطالية تسير في تردد وتعثر ومراقبة، أما النهضة الفرنسية فتجرؤ وتصادم وتتحدى، وبأي شيء تتحدى؟
بالذهن البشري الذي ليس فوقه سلطان سوى سلطان القلب أو سلطان الإنسانية.
الحركة البشرية الثالثة
في تحليل النهضة الأوروبية الحاضرة، بل في تحليل أزمات أوروبا الحاضرة، نستطيع الاهتداء إلى البذور أو الجذور الأولى، ونستطيع أن نتبين الاتجاهات التي تتجه إليها فروع هذه الشجرة في الوقت الحاضر.
فقد عرفنا كيف نشأت النهضة في إيطاليا بدرس القدماء والتنقيب عن مؤلفاتهم، وهؤلاء القدماء كانوا وثنيين قاطعتهم أوروبا لما عمها الظلام قبل سنة 1000 للميلاد، وكان الكشف عنهم تحريرا للذهن البشري وتوسعة له في الآفاق، وكان لوثر المصلح الديني إحدى ثمرات هذه النهضة التي زادت على تحرير الذهن تحرير الضمير.
ثم ظهرت النهضة الثانية في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية، وكانت كفاحا صريحا للاستبداد بألوانه المختلفة، ويمكن أن يقال: إنها كانت نهضة أدبية واجتماعية وسياسية ودينية.
Неизвестная страница