وكان يربط الدولة أيام عزها جميعها إمبراطور يعبده جميع السكان ويضعونه في مصاف الآلهة، وكان لهم جميعهم قانون واحد تجري أحكامه عليهم هو القانون الروماني، وكانت الدولة مع ترامي أطرافها تتصل بالدروب الرومانية، فتنتقل أخبارها وجيوشها ومديروها بسرعة فائقة.
أما أيام الضعف والتضعضع فقد طرأ الفساد إلى مكامن القوة ومراكز الاتحاد، وأول ذلك أن استنت سنة في انتخاب الإمبراطور جعلت للجيش سلطانا على الانتخاب، فصار هو الذي يولي ويعزل، وصارت الحروب الأهلية تنشب بين جيوش الدولة؛ لأن بعضها يناصر إمبراطور دون الآخر.
ثم دخلت المسيحية فمحت عبارة الإمبراطور ومحت بذلك وحدة الدولة ووحدة الولاء، وتفشى الترف في القصر أو القصور الإمبراطورية، وكثرت تكاليفها، وأصبحت تكاليف الجيش عبئا كبيرا على المنتجين في الأمة، وهم جمهور المزارعين، فزادت بذلك الضرائب وصارت جبايتها التزاما لا يعرف المزارع كم يجب عليه أن يؤدي، وإنما على الملتزم أن يؤدي للدولة مبلغا معينا من المال من ناحيته، وله لقاء ذلك حق الاستعانة بالجيش في هذه الجباية الظالمة التي كانت تقع بأشدها على المزارعين النشيطين، واستوى بهذه الضرائب المجد والمتراخي؛ لأن الملتزم صار يأخذ كل ما يجده من الغلات، وصار الفلاحون يهجرون القرى إلى المدن حتى اضطر الإمبراطور إلى منعهم من هجرة قراهم.
ومن هذا المنع نجد البذرة الأولى للعهد الإقطاعي، حين أصبح الفلاحون عبيدا لمواليهم، وقد بقيت العبودية في فرنسا إلى سنة 1789 حين هبت الثورة الكبرى، ففي مدة القرون الوسطى نجد أنه كان لا يجوز للعامل في الضيعة أن يتركها إلا بإذن مولاه.
ثم كان تفشي الرق سببا آخر للضعف والسقوط، وامتلأت الدول بالأسرى الذين بيعوا رقيقا، ووجد أصحاب الضياع أن استخدام العبيد خير من استخدام العامل المأجور وأوفر عليهم وأبلغ ربحا، فاستكثروا من العبيد، وعمت الفاقة طائفة العمال الرومانيين.
وساءت الزراعة وقلت الحاصلات، فاضطرت المدن الكبرى إلى أن تتجر وتتبادل سلعها مع الأقطار البعيدة دون الريف الروماني، فانتقلت النقود من رومية إلى هذه الأقطار، وقلت بين الرومانيين، حتى كان الأباطرة ينزلون عيار الذهب في الدينار من وقت لآخر، أي: أن النقد «تضخم» فنقصت قيمته وزادت أثمان السلع، وعمت الفاقة، وتناقص السكان، وكان هذا التناقص مغريا لقبائل الجرمان بالتسرب والانسلال رويدا ثم الغارة الأخيرة.
وقد ذكرنا المسيحية من حيث إنها محت الوحدة الرومانية التي كانت تتجسم في عبادة الإمبراطور، ولكن دخول هذه الديانة الجديدة على ما نرى فيها من سمو المبادئ ونبالة الحياة التي تنشدها، كان سببا كبيرا في هدم الدولة، فقد حدث شقاق بين أبناء الأمة قطع اتحادها، وحسب القارئ أن يعرف أن «قسطنطين» أول الأباطرة الذين آمنوا بالمسيحية ترك رومية، وأسس هذه العاصمة الجديدة في شرق الدولة لكي لا يرى المعابد الوثنية، وهو في ذلك مثل «إخناتون» حين هجر طيبة ورحل إلى تل العمارنة يؤسس عاصمة جديدة لا يرى فيها صنم آمون، وإنما يرى رع.
وظهرت الكنيسة منذ أول ظهورها بمظهرها الذي عرفت به أيام القرون الوسطى، فأحرقت الكتب وهدمت الأصنام والمعابد؛ ولذلك يجب أن نرد «محكمة التفتيش» التي استطار شرها مدة القرون الوسطى إلى هذه البذرة الأولى التي ألقتها الكنيسة أيام تضعضع الدولة الرومانية.
والقارئ لتاريخ الدولة الرومانية لا يسعه إلا أن يقابل بين تضعضعها ثم سقوطها وبين ما جرى للدولة العباسية في بغداد.
فالجرمان وانسلالهم إلى جسم الدولة، ثم غارتهم الأخيرة، يشبهون الأتراك وانسلالهم إلى جسم الدولة العربية في بغداد ثم طغيانهم ثم محو الدولة على أيدى المغول، وجباية الضرائب وانحطاط الزراعة في العراق لا يختلفان كثيرا عما كانت عليه الحال في إيطاليا، حتى المقابلة في الآداب لتجوز هنا أيضا.
Неизвестная страница