رسالة في ماهية العشق
رسالة في ماهية العشق
تأليف
ابن سينا
بسم الله الرحمن الرحيم
سألت - أسعدك الله - يا أبا عبد الله الفقيه المعصومي أن أجمع لك رسالة تتضمن إيضاح القول في العشق على سبيل الإيجاز، فأطلبتك - لا زلت طالبا للخيرات - توخيا لمرضاتك وقضاء للوازمك، وجعلت رسالتي إليك مضمنة فصولا سبعة:
أحدها:
في ذكر سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات.
والثاني:
في ذكر وجود العشق في الجواهر البسيطة الغير الحية.
الثالث:
في ذكر وجود العشق في الموجودات ذوات قوى مغذية من جهة قواها المغذية.
والرابع:
في ذكر وجود العشق في الجواهر الحيوانية من حيث لها القوة الحيوانية.
والخامس:
في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان.
والسادس:
في ذكر عشق النفوس الإلهية.
السابع:
في خاتمة الفصول.
الفصل الأول
في ذكر سريان العشق في كل واحد من الهويات
كل واحد من الهويات المدبرة لما كان بطبيعته نازعا إلى كماله الذي هو خيرية هويته المنالة عن هوية الخير المحض، نافرا عن النقص الخاص به، الذي هو الشرية الهيولانية والعدمية، إذ كل شر فمن علائق الهيولي والعدم، فبين أن لكل واحد من الموجودات المدبرة توقانا طبيعيا وعشقا غريزيا، ويلزم ضرورة أن يكون العشق في هذه الأشياء سببا للوجود لها؛ لأن كل واحد مما يعبر عنه مترتب تحت أمور ثلاثة، إما أن يكون فائزا بخاص الكمال، أو ممترا بغاية النقص أو مترددا بين الحالتين حاصل الذات على مرتبة التوسط بين الأمرين، ثم إن البالغ في النقص غايته هو المنتهي إلى مطلق العدم، والمستوفي لجميع علائقه، فبالحري أن يطلق عليه معنى العدم المطلق، ثم الحقيق بإطلاق العدمية عليه، وإن استحق أن يعد في عداد الموجودات عند تقسيم أو توهم، فلن يعد وجوده وجودا ذاتيا، بل لن يستجاز عليه إطلاق الوجود إلا بالمجاز، ولن يتعرض لاعتداده من جملة الموجودات إلا بالعرض، فإذن الموجودات الحقيقية إما أن تكون موجودات مستسعدة بنهاية الكمال، أو موصوفة بالتردد بين نقص عارض من جهة ما وكمال موجود في الطبع.
فإذن جملة الموجودات لا تعرى عن ملابسة كمال ما، وملابستها له بعشق ونزاع في طبيعتها به ما يوجد متأحدة بكمالها ملازمة له، مما يوضح ذلك من جهة العلة واللمئية هو أن كل واحد من الهويات المدبرة لما كان لا يخلو عن كمال خاص به، ولم يكن مكتفيا بذاته لوجود كماله، إذ كمال الهويات المدبرة مستفاد من فيض الكامل بالذات، ولم يجز أن يتوهم أن هذا المبدأ المفيد للكمال يقصد بالإفادة واحدا واحدا من جزئيات الهويات على ما أوضحته الفلاسفة، فمن الواجب من حكمته وحسن تدبيره أن يغرز فيه عشقا كليا حتى يصير بذلك مستحفظا لما نال من فيض الكمالات الكلية، ونازعا إلى الاتحاد بها عند فقدانها؛ ليجري به أمر السياسة على النظام الكلي، فواجب إذن وجود هذا العشق في جميع الموجودات المدبرة وجودا غير مفارق البتة، وإلا لاحتاجت إلى عشق آخر يستحفظ به هذا العشق الكلي عند وجوده إشفاقا عن عدمه ويسترده عند فوته قلقا لبعده، وصار أحد العشقين معطلا لا طائل له، ووجود المعطل في الطبيعة أعني الوضع الإلهي باطل على أنه لا عشق خارجا عن العشق المطلق الكلي، وإذن وجود كل واحد من المدبرات بعشق غريزي فيه.
ولنجعل لهممنا في هذا المرام مرقى أعلى مما قدمناه، ولنفحص عن الموجود العالي عن التصرف تحت تدبير مدبر لعظم شأنه، فنقول: إن الخير بذاته معشوق، ولولا ذلك لما نصب كل واحد مما يشتهي أو يتوق أو يعمل عملا غرضا أمامه يتصوره خيرية، فلولا أن الخيرية بذاتها معشوقة وإلا لما اقتصرت الهمم على إيثار الخير في جميع المتصرفات، وكذلك الخير عاشق للخير؛ لأن العشق ليس في حقيقته إلا استحسان الحسن والملائم جدا، وهو مبدأ النزاع إليه عند بينونته إن كان مما يباين والاتحاد به عند وجوده، ثم كل واحد من الموجودات يستحسن ما لاءمه وينزع إليه مفقودا، والخير الخاص النيل للشيء في الحقيقة أو الحسبان فيما أظن هو الملائم بالحقيقة أو الحسبان، ثم الاستحسان والنزاع، فالاستقباح والنفرة في الموجود من علائق خيريته؛ لأنها لا تطلق على الموجود على وجه الاستصواب بالذات إلا من جهة خيريته؛ لأن الصواب إذا وجد عن الشيء بالذات فهو لسداده وخيريته، فبين أن الخير يعشق ما هو خير، إما الخاص به وإما المشترك، وعلة العشق هو ما نيل أو سينال منه أي من المعشوق، وكلما زادت الخيرية زاد استحقاق المعشوقية وزادت العاشقية للخير.
فإذا قد تقرر هذا فنقول إن الموجود المقدس عن الوقوع تحت التدبير، إذ هو الغاية في الخيرية، فهو الغاية في المعشوقية والغاية في العاشقية، الغاية في المعشوقية أعني بذلك ذاته تعالى، إذ الخير يعشق الخير بما يتوصل به إليه من نيله لإدراكه، والخير الأول مدرك لذاته بالفعل أبد الدهر في الدهر، فإذن عشقه له أكمل عشق وأوفاه، وإذن الصفات الإلهيات لا تمايز بينها بالذات في الذات، فإذن العشق هو صريح الذات والوجود أعني في الخير المحض، فإذن الموجودات إما أن يكون وجودها بسبب عشق فيها، وإما أن يكون وجودها والعشق هو هو نفسه، فتبين أن الهويات لا تخلوا عن العشق وذلك ما أردنا أن نبين.
الفصل الثاني
في ذكر وجود العشق في البسائط الغير الحية
البسائط الغير الحية على أقسام ثلاثة؛ أحدها: الهيولي الحقيقية، والثاني: الصورة التي لا يمكن لها القوام بانفراد ذاتها، والثالث: الأعراض. والفرق بين الأعراض وبين هذه الصورة أن هذه الصورة مقومة للجواهر؛ ولذلك استحقها الأوائل من الإلاهيين لأن يجعلوها من أقسام الجواهر؛ لكونها جزءا للجواهر القائمة بذواتها، ولم يحرموها سمة الجوهرية لأجل امتناع وجودها بمفرد الذات، إذ الجوهر الهيولاني هذا حاله، ومع هذا لا يستنكر اعتداده من جملة الجواهر لكونه في ذاته جزءا للجواهر القائمة بذواتها، بل ولأن يخصوها - أعني الصورة - بمزية في الجوهرية على الهيولي، إذ هذه الصورة الجوهرية بها يقوم الجوهر بالفعل جوهرا ومهما وجد أوجب وجود جوهر بالفعل، ولأجل ذلك قيل: إن الصورة جوهر بنوع فعل، وأما الهيولي فهي معدودة فيما يقبل الجوهرية بالقوة، إذ لا يلزم بوجود كل هيولي جوهر ما وجوده بالفعل، ولأجل ذلك قيل: إنه جوهر بنوع قوة، فقد تقرر من هذا القول حقيقة الصورة، ولا يحمل إطلاق هذه الحقيقة على العرض، إذ ليس هو بمقوم للجوهر ولا معدود بوجه من الوجوه جوهرا.
فإذا تقرر هذا فنقول: إن كل واحد من هذه الهويات البسيطة الغير الحية قرين عشق غريزي لا يتخلى عنه البتة، وهو سبب له في وجوده، فأما الهيولي فلديمومة نزاعها إلى الصورة مفقودة وولوعها بها موجودة؛ ولذلك تلقاها متى عريت عن صورة، بادرت إلى الاستبدال عنها بصورة أخرى إشفاقا عن ملابسة العدم المطلق، إذ من الحق أن كل واحد من الهويات نافر بطبعه عن العدم المطلق، فالهيولي مقر للعدم، فمهما كانت ذات صورة لم يقم فيها سوى العدم الإضافي، ولولا هذا للابسها العدم المطلق، ولا حاجة بنا ها هنا إلى الخوض في إيضاح لمئية ذلك، فإذن الهيولي كالمرأة الدميمة المشفقة عن استعلان دمامتها، فمهما انكشف قناعها غطت دمامتها بالكم، فقد تقرر أن في الهيولي عشقا غريزيا.
وأما هذه الصورة فالعشق الغريزي فيها ظاهر لوجهين؛ أحدهما: بالجد في ملازمتها موضوعها ومنافاتها انسلاخها عنه، والثاني: بالجد في ملازمتها كمالاتها ومواضعها الطبيعية متى حصلت فيها، وحركتها الشوقية إليها متى باينتها كصور الأجسام البسيطة الخمسة والمركبات عن الأربعة، ولا صورة ملازمة غير هذه الأقسام الستة.
وأما الأعراض فعشقها ظاهر بالجد في ملازمة الموضوع أيضا، وذلك بين عند ملابستها الأضداد في الاستبدال بالموضوع.
فإذن ليس يعرى شيء من هذه البسائط عن عشق غريزي في طباعه.
الفصل الثالث
في وجود العشق في الصورة النباتية (أعني النفوس النباتية)
فلنختصر القول ها هنا، فنقول كما أن النفوس النباتية تنقسم إلى أقسام ثلاثة؛ أحدها: قوة التغذية، والثاني: قوة التنمية، والثالث: قوة التوليد، كذلك العشق الخاص بالقوة النباتية على أقسام ثلاثة؛ أحدها: يختص بالقوة المغذية، وهو مبدأ قوة شوقها إلى حضور الغذاء عند حاجة المادة إليها، وبقائها في المغتذى بعد استحالته إلى طبيعته، والثاني: يختص بالقوة المنمية، وهو مبدأ شوقها إلى تحصيل الزيادة الطبيعية المناسبة في أقطار المغتذى، والثالث: يختص بالقوة المولدة، وهو مبدأ شوقها إلى تهيئة مبدأ الكائن مثل الذي هو فيه، ومن البين أن هذه القوى مهما وجدت لزمتها هذه الطبائع العشقية، وإذن هي في طبائعها عاشقة أيضا.
الفصل الرابع
في ذكر عشق النفس الحيوانية
لا شك أن كل واحد من قوى النفس الحيوانية يختص بتصرف يحثها عليه عشق غريزي، وإلا لما كان وجودها في البدن الحيواني إلا معدودا في جملة المعطلات، إن لم يكن لها نفور طبيعي مبدؤه بغضة غريزية، وتوقان غريزي مبدؤه عشق غريزي، وذلك ظاهر في كل واحد من أقسامها، أما في الجزء الحاس منها خارجا فلإلفها بعض المحسوسات دون بعض، واستكراهه بعضها دون بعض، ولولا ذلك لتساوت العوارض الحسية على الحيوانات، ولما تصونت عن مباشرة المضرات لها، ولتعطلت القوة الحسية في حقيقتها، وأما الجزء الحاس باطنا فلاطمئنانه إلى الراحة إلى التخيلات المروحة وما ضاهاها إذا وجدت، وتشوقه إليها إذا فقدت، وأما في الجزء الغضبي فلنزاعه إلى الانتقام والتغلب والفرار من الذل والاستكانة وما ضارع ذلك.
وأما في الجزء الشهواني فلتقدم أمامه مقدمة ينتفع بها بذاتها، وفيما يبنى عليه القول في الفصول، وهو أن العشق ينشعب قسمين؛ أحدهما: طبيعي وحامله لا ينتهي بذاته دون غرضه بحال من الأحوال، ما لم يصادمه دونه قاسر خارجي كالحجر، فإنه لا يمكن أبدا أن يقصر عن تحصيل غايته وهو الاتصال بموضعه الطبيعي والسكون فيه من ذاته، اللهم إلا من جهة عارض قهري، وكالقوة المغذية وسائر القوى النباتية، فإنها لا تزال مزاولة لجلب الغذاء ولتلحيمه بالبدن ما لم يصدها عنه مانع غريب، والثاني: عشق اختياري وحامله قد يعرض بذاته عن معشوق لتخيل استضرار بعارض أمامه يربي قدر ضرره على نفع المعشوق، مثل الحمار، فإنه إذا لاح له شخص ذئب متوجها نحوه أقصر عن قضم الشعير وأمعن في الهرب لتخيله أن ما يتصل به من ضرر العارض أرجح من منفعة المعرض عنه، ثم قد يكون المعشوق الواحد لعاشقين أحدهما طبيعي العشق والثاني اختياري، مثل الغرض بالتوليد إذا تدبر إضافة إلى القوة المولدة النباتية وإلى القوة الشهوانية الحيوانية.
فإذا تحقق هذا فنقول: إن القوة الشهوانية من الحيوان أظهر الموجودات عند الجمهور لاستطباع العشق، فلا حاجة بنا إلى إظهار ذلك، وليس معشوقه في عامة الحيوان غير الناطق إلا معشوق القوى النباتية بعينها، إلا إن العشق للقوة النباتية لا تصدر عنه الأفاعيل، إلا بنوع طبيعي وبنوع أدنى وأدون، وعشق القوة الحيوانية إنما يصدر عنه بالاختيار وبنوع أعلى وأفضل وبأخذ ألطف وأحسن، حتى إن بعض الحيوان قد يستعين في ذلك بالقوة الحسية ما يوهم العامة أن ذلك العشق خاص بها، وهو عند التحقيق خاص بالشهوانية، فإن وجد للحسية فيها شركة تتوسط، وقد توافق القوة البهيمية الشهوانية النباتية في الغرض بأن يكون حصوله لا بقصد اختياري يأتيه، وإن وجد في صدور الفعل بينهما اختلاف في الاختيار، وسبيله مثل توليد المثل، فإن الحيوان الغير الناطق وإن تحرك بطبعه العشقي المتغرز فيه من العناية الإلهية تحركا اختياريا يتأدى به إلى توليد المثل، فلن يكون الغاية منها مقصودة لذاتها؛ لأن هذا الضرب من العشق غايته نفع نوعي، أعني بهذا أن العناية الإلهية لما اقتضت استبقاء الحرث والنسل وامتنع المراد من مدة البقاء في الشخص الكائن؛ لضرورة تعقب الفساد في موضع الكائن وحيا، أوجبت الحكمة صرف الغاية إلى استبقائها إلى الأنواع والأجناس، وطبع في كل واحد من أشخاص المعني به شوقا إلى تأثير ملازمة توليد المثل، وهيأ لذلك فيه آلات موافقة، ثم الحيوان الغير الناطق لانحطاطه عن مرتبة الفوز بالقوة النطقية التي بها يوقف على حقيقة الكليات، يسعد بإدراك الغرض الخاص بالأمور الكلية، فلذلك صارت فيها قوتها الشهوانية تشاكل القوة النباتية في التزامه إلى هذا الغرض.
وتقرير هذا الفصل والفصل الذي تقدم نافع في كثير مما سنأتي على إثباته في هذه الرسالة.
الفصل الخامس
في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان
يجب أن نقدم أمام غرضنا في هذا الفصل مقدمات أربعا:
إحداها:
أن كل واحدة من القوى النفسانية مهما انضم إليها قوة أعلى منها في الشرف احتازت بانضمامها إليها وسريان بهائها فيها زيادة صقولة وزينة حتى تصير بذلك أفاعيلها البارزة عنها زائدة على ما يكون لها بانفرادها، إما بالعدد وإما بحسن الإتقان ولطف المأخذ والوخي في الانتهاء إلى الغرض، إذ كل واحدة من عالاها لها قوة على تأييد الآخر وتقويته وذب الضرر عنه تأييدا وذبا يؤتيها من جهة قبولها له زيادة بهاء وكمالا، وكذلك تصريفاتها إياها في وجوه الاستعانات فيما يفيدها الحسن والسناء والتلذذ، كتقوية الشهوانية من الحيوان النباتية، وذب الغضبية عنها من أن ينقص مادته دون منتهاها الغريزي في الذبول أو الإضرار بها، وكتوفيق النطقية للحيوانية في مقاصدها، وكإفادتها لها اللطافة والبهاء في الاستعانة بها في أغراضها؛ ولهذا ما توجد القوة الحسية والشوقية في الإنسان قد يتعدى طورها في أفعالها، حتى إنها قد يتعاطى في أفاعيلها مقاصد لن يقوم بالوفاء بها إلا صريح القوة النطقية، ومثال ذلك في القوة الوهمية أن القوة النطقية قد يستعين بها في بعض وجوه درك مطلوبها بوجه استعانة يستفيد من انعطاف النطقية عليها قوة وجسور، حتى إنها تفرج بنيل المطلوب دونها، بل تستعصي عليها، وتتحلى بسمتها وتدعي دعواها، وتوهم من فوزها بتصور المعقولات ما تسكن إليه النفس ويطمئن إليه الذهن، كعبد السوء يوعز إليه مولاه بإعانته في سانحة له مهمة عظيمة الفائدة عند النيل، فيرى أنه ظفر بالمطلوب دون مولاه، وأن مولاه قاصر عن ذلك، بل هو المولى في الحقيقة من غير أن يكون ظفر البتة بالمرام الذي يكلفه مولاه تحصيله ولا شعر به، وكذلك الحال في القوة الشوقية من الإنس، وهذا أحد علل الفساد، إلا إنه ضروري الوجود في الوضع المطلوب في الخير، وليس من الحكمة ترك خير كثير لأجل عادية شر يسير بالإضافة إليه.
والثانية:
أن الإنسان قد يصدر من مفرد نفسه الحيوانية أمور، وينفعل بمفردها انفعالات كالإحساس والتخيل والجماع والمواثبة والمحاربة، إلا إن نفسه الحيوانية لما اكتسبت من البهاء بمجاورة الناطقة تفعل هذه الأفاعيل بنوع أشرف وألطف فيستأثر من المحسوسات ما كان على أحسن مزاج وأقوم تركيب، ويتنبه لما لا تتنبه له الحيوانات الأخر، فضلا عن أشياء يستأثرها، وكذلك يتصرف بقوته المتخيلة في أمور لطيفة بديعة، حتى يكاد يضاهي بذلك صريح الصفاء للعقل، ويتخيل لموافقة أهل الكمال في الاعتدال، ويحتال في الأفاعيل الغضبية حيلا متنوعة؛ ليسهل له بها إحراز التغلب والظفر، وقد يظهر عن ذاته آثارا وأفاعيل بحسب اشتراك بين النطقية والحيوانية، كتصريف قوته النطقية قوته الحسية لينزع من الجزئيات بطريقة الاستقراء أمورا كلية، وكاستعانته بالقوة المتخيلة في تفكره، حتى يتوصل بذلك إلى إدراك غرضه في الأمور العقلية، وكتكليفه القوة الشهوانية المباضعة من غير قصد ذاتي إلى مفرد اللذة؛ للتشبه بالعلة الأولى في استبقاء الأنواع، وخصوصا أفضلها أعني النوع الإنساني، وكتكليفه إياها الطعم والشرب لا كيف اتفق بل على الوجه الأصوب، من غير قصد إلى مجرد اللذة، لكن لإعانة الطبيعة المسخرة على استبقاء شخص أفضل الأنواع أعني الشخص الإنساني، وكتكليفه القوة الغضبية مبارزة الأبطال واعتناق القتال لأجل الذب عن مدينة فاضلة وأمة صالحة، وقد تظهر منه أفاعيل عن صميم قوته النطقية مثل حب المعقولات والنزاع إلى الممات، وحب الدار الآخرة، وجوار الرحمن.
والثالثة:
أن في كل واحد من الأوضاع الإلهية خيرية، وكل واحدة من الخيرات مأثورة، لكن من الأمور الخيرية ما ربما يضر إيثاره لما يعلوه من الشرية، مثال في الأمور المتعارفة أن الاستلذاذ بالتوسعة في الإنفاق وإن كان مأثورا فإنه يجتنب لإضراره بمأثور فوقه، وهو خصب ذات اليد ووفور المال، ومثال آخر من مصالح الأبدان شرب أوقية من الأفيون، وإن كان مأثورا وخيرا لتسكين الرعاف، فإنه مطرح لأجل إضراره بمأثور فوقه وهو الصحة المطلقة والحياة، وكذلك الأمور الخاصة بالنفس الحيوانية إذا اعتبرت في الحيوان الغير الناطق بنوع الإفراط، وإن لم يعد من جملة الشر، بل عد ذلك فضلة في قواها، فلإضراره بالقوة النطقية كما أشرنا إليه في رسالتنا الموسمة «التحفة» معدودة من جملة المثالب في الإنسان ويستحق الاجتناب والهجران.
والرابعة:
أن النفس النطقية والحيوانية أيضا لجوار النطقية أبدا تعشقان كل شيء حسن النظم والتأليف والاعتدال، مثل المسموعات الموزونة وزنا متناسبا والمذوقات المركبة من أطعمة مختلفة بحسب التناسب وما شابه ذلك، أما النفس الحيوانية فبنوع تقليدي طبيعي، وأما النفس الناطقة فإنها إذا سعدت بتصور المعاني العالية على الطبيعة، وعرفت أن كل ما قرب من المعشوق الأول فهو أقوم قواما ونظاما وأحسن اعتدالا وبالعكس، إذ ما يليه أفوز بالوحدة وتوابعها كالاعتدال والاتفاق وما بعد عنه أقرب إلى الكثرة وتوابعها، كالتفاوت والاختلاف على ما أوضحه الإلهيون، فمهما ظفرت بشيء حسن التركيب لاحظته بعين المقة.
فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: إن من شأن العاقل الولوع بالمنظر الحسن من الناس، وقد يعد ذلك منه في بعض الأحايين تظرفا وفتوة، وهذا الشأن إما أن يختص بالقوة الحيوانية، وإما أن يختص بالقوة النطقية، وإما أن يكون بحسب التركيب، لكنه لو كان مختصا بالقوة الحيوانية لما عده العقلاء تظرفا وفتوة، إذ من الحق أن الشهوات الحيوانية إذا تناولها الإنسان تناولا حيوانيا فهو متعرض للنقيصة ومضر بالنفس الناطقة، ولا هو مما يختص بالقوة النطقية، إذ موضوعات شغلها هي الكليات العقلية الأبدية لا الجزئيات الحسية الفاسدة، وإذن ذلك بحسب الشركة.
وبيان ذلك بوجه آخر أن الإنسان إذا أحب الصور المستحسنة لأجل لذة حيوانية، فهو مستحق اللوم والإيلام، مثل الفرقة الزانية والمتلوطة، وبالجملة الأمة الفاسقة، ومهما أحب الصورة المليحة باعتبار عقلي على ما أوضحناه عد ذلك وسيلة إلى الرفعة والتناهي في الخيرية لولوعه بما هو أقرب في التأثير من المؤثر الأول والمعشوق المحض، وأشبه بالأمور العالية الشريفة، وذلك مما يؤهله لأن يكون ظريفا وفتى لطيفا؛ ولذلك لا يكاد أهل الفطنة من الظرفاء والحكماء ممن لا يسلك طريقة المتعشقين والأنحاح يوجد خاليا عن شغل قلب بصورة حسنة إنسانية، وذلك أن الإنسان مع ما فيه من زيادة فضيلة الإنسانية إذا وجد فائزا بفضيلة اعتدال الصورة التي هي مستفادة من تقويم الطبيعة واعتدالها، وظهور أثر إلهي فيها جدا استحق لأن ينتحل من ثمرة الفؤاد مخزونها، ومن صفي صفاء الوداد أطيبه؛ ولذلك قال عليه السلام: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه»، تيقنا منه أن حسن الصورة لن يوجد إلا عند جودة التركيب الطبيعي، وأن جودة الاعتدال والتركيب مما يفيد طيبا في الشمائل وعذوبة في السجايا.
وقد يوجد أيضا واحد من الناس قبيح الصورة حسن الشمائل، وذلك لا يخلو من عذرين، إما أن يكون قبح الصورة لم يحصل بحصول قبح الاعتدال في أول الأمر داخلا، بل لفساد عارض خارجا، وإما أن يكون حسن الشمائل لا بحسب الطباع، بل بحسب الاعتياد، كذلك قد يوجد حسن الصورة قبيح الشمائل، وذلك أيضا لا يخلو من عذرين، إما أن يكون قبح الشمائل عارضا لعوارض في الطباع بعد استحكام التركيب، أو يكون ذلك لاعتياد قوي.
وعشق الصورة الحسنة من الإنسان قد تتبعه أمور ثلاثة؛ أحدها: حب معانقته، والثاني: حب تقبيله، والثالث: حب مباضعته، فأما حب المباضعة فمما يتيقن عنده أن هذا العشق ليس خاصا إلا بالنفس الحيوانية، وأن حصتها فيه زائدة، وأنها فيه على مقام الشريك، بل المستخدم لأعلى مقام الآلة، وذلك قبيح جدا، بل لن يخلص العشق النطقي ما لم تنقمع القوة الحيوانية غاية الانقماع؛ ولذلك بالحري أن يتهم العاشق إذا راود معشوقه بهذه الحاجة، اللهم إلا أن تكون هذه الحاجة منه بضرب نطقي به يعلم إن قصد به توليد المثل، وذلك في الذكر من الناس محال، وفي الأنثى المحرمة في الشرع قبيح، بل لا ينساغ هذا القصد ولا يستحسن إلا للرجل في امرأته أو مملوكته.
وأما المعانقة والتقبيل فإذا كان الغرض فيهما هو التقارب أو الاتحاد؛ وذلك لأن النفس تود أن تنال معشوقها بحسها اللمسي نيلها بحسها البصري، فتشتاق إلى معانقته وتنزع إلى أن يختلط نسيم مبدأ أفاعيله النفسانية وهو القلب بنسيم مثله من المعشوق، فتشتاق إلى تقبيله، فليسا بمنكرين في ذاتيهما، لكن استتباعهما بالعرض أعني أمورا شهوانية فاحشة توجب التوقي عنهما، إلا إذا تيقن من متوليهما خمود الشهوة والبراءة من التهمة؛ ولذلك لم يستنكر تقبيل الأولاد، وإن كان مبدؤه مزعجا لتلك، إذ كان الغرض فيه التداني والاتحاد لا الهمة بالفحش والفساد.
فمن عشق هذا الضرب من العشق فهو فتى ظريف، وهذا العشق هو المنسوب إلى الفتيان والظرفاء.
الفصل السادس
في ذكر عشق النفوس الإلهية
كل واحد من الأشياء الحقيقية الوجود إذا أدرك أو نال خيرا من الخيرات؛ فإنه يعشقه بطباعه عشق النفوس الحيوانية الصور الجميلة، وأيضا كل واحد من الأشياء الحقيقية الوجود إذا أدرك إدراكا حسيا أو عقليا أو اهتدى اهتداء طبيعيا إلى شيء مما يفيده منفعة في وجوده؛ فإنه يعشقه في طباعه، لا سيما إذا كان ذلك الشيء مفيدا له خاصي الوجود، مثل عشق الحيوان الغذاء والوالدين، وأيضا كل شيء تحقق أن شيئا من الموجودات يفيده التشبه به والتقرب إليه والاختصاص به زيادة فضيلة ومزية؛ فإنه يعشقه بطباعه عشق العبد لمولاه، ثم النفوس الإلهية من البشر والملائكة لا يستحق إطلاق التأله عليها ما لم تكن فائزة بمعرفة الخير المطلق، إذ من البين أن هذه النفوس لن توصف بالكمال إلا بعد الإحاطة بالمعقولات ولا طريق إلى تصور المعقولات المعلولة ما لم تقدم عليها معرفة العلل بالحقيقة، وخاصة العلة الأولى على ما أوضحناه في تفسيرنا المقالة الأولى من «كتاب السماع الطبيعي»، كما لا سبيل إلى وجود المعلولات ما لم يقدم عليها وجود ذوات العلل وخاصة العلة الأولى.
والعلة الأولى هي الخير المحض المطلق بذاته؛ وذلك لأنه لما كان يطلق عليه الوجود الحقيقي، وكل واحد مما له وجود فإن حقيقته لا تعرى عن خيرية، ثم الخيرية إما أن تكون مطلقة ذاتية أو مستفادة، فالعلة الأولى خير وخيريته إما أن تكون ذاتية مطلقة أو مستفادة، لكنها إن كانت مستفادة لم تخل من قسمين، إما أن يكون وجودها ضروريا في قوامه، فيكون مفيدها علة لقوام العلة الأولى والعلة الأولى علة لها هذا خلف، وإما أن يكون غير ضروري في قوامه، وهذا محال أيضا على ما نوضحه آنفا، لكنا وإن أعرضنا عن إبطال هذا القسم فإن المطلوب قائم، وذلك أنا إذا رفعنا هذه الخيرية عن ذاته؛ فمن الواضح أن ذاته تبقى موجودة وموصوفة بالخيرية، وتلك الخيرية إما أن تكون ذاتية أو مستفادة، فإن كانت مستفادة فقد تمادى الأمر إلى ما لا يتناهى وذلك محال، وإن كانت ذاتية فهو المطلوب.
وأقول أيضا: إن من المحال أن تستفيد العلة الأولى خيرية غير ذاتية فيه، ولا ضرورية في قوامه؛ وذلك لأن العلة الأولى يجب أن يكون فائزا في ذاته بكمال الخيرية، من أجل أن العلة الأولى إن لم يكن ذاته مستوفيا لجميع الخيرات التي هي بالإضافة إليه حقيقة بإطلاق سمة الخيرية عليها، ولها إمكان وجود فهو مستفيدها من غيرها ولا غير له إلا معلولاته، فإذن مفيده معلوله، ومعلوله لا خير له وفيه ومنه، إلا مستفادا منه، فإذن معلوله إن أفاده خيرية فإنما يفيده خيرية مستفادة منه، لكن الخيرية المستفادة من العلة الأولى، إنما هي من المستفيد، فإذن هذه الخيرية ليست في العلة الأولى، بل في المستفيد، وقيل إنها في الأولى، وذلك خلف.
والعلة الأولى لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ وذلك لأن الكمال الذي بإزاء ذلك النقص إما أن يكون وجوده غير ممكن، فلا يكون إذن بإزائه نقص، إذ النقص هو عدم الكمال الممكن الوجود، وإما أن يكون وجوده ممكنا، ثم الشيء الذي ليس في شيء ما إذا تصور إمكانه تصور معه علة تحصيله في الشيء الذي هو ممكن فيه، وقد قلنا: إنه لا علة للعلة الأولى في كمالها ولا بوجه من الوجوه، فإذن هذا الكمال ليس بممكن فيه، فإذن ليس بإزائه نقص، فإذن العلة الأولى مستوفية لجميع ما هي خيرات بالإضافة إليها، وإن الخيرات العالية التي هي خيرات من جميع الوجوه لا بالإضافة، وهي الخيرات التي هي بالإضافة إليه خيرات مستوفاة له، وقد اتضح أن العلة الأولى مستوفية لجميع الخيرية التي هي بالإضافة إليها خيرية، ولها إمكان وجود، فقد اتضح أن العلة الأولى خير في ذاتها، وبالإضافة إلى سائر الموجودات أيضا، إذ هو السبب الأول لقوامها وبقائها على أخص وجوداتها وانسياقها إلى كمالاتها، فإذن العلة الأولى خير مطلق من جميع الوجوه، وقد كان اتضح أن من أدرك خيرا فإنه بطباعه يعشقه، فقد اتضح أن العلة الأولى معشوقة للنفوس المتألهة، وأيضا فإن النفوس البشرية والملكية لما كانت كمالاتها بأن تتصور المعقولات على ما هي عليها بحسب طاقتها تشبها بذات الخير المطلق، وأن تصدر عنها أفاعيل هي عندها، وبالإضافة إليها عادلة كالفضائل البشرية، وكتحريك النفوس الملكية للجواهر العلوية، موجبة لاستبقاء الكون والفساد تشبها بذات الخير المطلق، وإنما تتولى هذه التحريكات لتجوز بها القربى من الخير المطلق، وتستفيد بالتقرب الفضيلة والكمال، وإن ذلك بتوفيقها وهي متصورة لذلك منه، وقد قلنا: إن مثل هذا عاشق للمتقرب منه، فواجب على ما أوضحناه سالفا أن يكون الخير المطلق معشوقا لها، أعني لجملة النفوس المتألهة، وأيضا فإن الخير المطلق لا شك أنه سبب لوجود ذوات هذه الجواهر الشريفة، ولكمالها فيها، إذ كمالها إنما هو بأن يكون صورا عقلية قائمة بذواتها، وإنها لن تكون كذلك إلا بمعرفة، وهي مصورة لهذه المعاني منه، وقد قلنا إن مثل هذا عاشق لمثل هذا السبب، فيتبين على ما أوضحناه سالفا أن الخير المطلق معشوق لها، أعني لجملة النفوس المتألهة، وهذا العشق فيها غير مزائل البتة؛ وذلك لأنها لا تخلو عن حالتي الكمال والاستعداد ضرورة، وقد أوضحنا ضرورة وجود هذا العشق فيها حالة كمالها، وأما حالة استعدادها فلن توجد إلا في النفوس البشرية دون الملكية؛ لفوز الملكية بكمال ما وجدت وقد وجدت، وهي - أعني النفوس البشرية - بحالة الاستعداد لها شوق غريزي إلى معرفة المعقولات التي هي كمالها وخاصة ما هو أقود للكمال عند تصوره، وأهدى إلى تصور ما سواه، وهذه صفة المعقول الأول الذي هو علة لكون كل شيء معقول سواه معقولا في النفوس وموجودا في الأعيان، فلا محالة أن لها عشقا غريزيا في ذاتها للحق المطلق أولا، ولسائر المعقولات ثانيا، وإلا فوجودها على استعدادها لخاص كمالها معطل، فإذن المعشوق الحق للنفوس البشرية والملكية هو الخير المحض.
الفصل السابع
في خاتمة الفصول
نريد أن نورد في هذا الفصل أن كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقا غريزيا، وأن الخير المطلق متجل لها لذاته، إلا إن قبولها لتجليه واتصالها به على التفاوت، وأن غاية القربى منه هو قبول تجليه على الحقيقة، أعني على آكد ما في الإمكان، وهو المعنى الذي تسميه الصوفية «الاتحاد»، وأنه لجوده عاشق أن ينال تجليه، وأن وجود الأشياء تجليه.
فنقول لما كان في كل واحد من الموجودات عشق غريزي لكماله؛ وإنما ذلك لأن كماله معنى به تحصل له خيريته، فبين أن المعنى الذي به تحصل للشيء خيريته حيث ما توجد وكيف ما توجد أوجب أن يكون ذلك الشيء معشوقا لمستفيد الخيرية، ثم لا يوجد شيء أولى بذلك من العلة الأولى في جميع الأشياء، فهو إذن معشوق لجميع الأشياء، وكون أكثر الأشياء غير عارف به لا ينفي وجود عشقه الغريزي فيها - كما لا يوجب ذلك بقاء العشق الغريزي - في هذه الأشياء لكمالاتها، والخير الأول بذاته ظاهر متجل لجميع الموجودات، ولو كان ذاته محتجبا عن جميع الموجودات بذاته غير متجل لها لما عرف، ولا نيل منه، ولو كان ذلك في ذاته بتأثير الغير؛ لوجب أن يكون في ذاته المتعالية عن قبول تأثير الغير وذلك خلف، بل ذاته بذاته متجل، ولأجل قصور بعض الذوات عن قبول تجليها يحتجب، فبالحقيقة لا حجاب إلا في المحجوبين، والحجاب هو القصور والضعف والنقص.
وليس تجليه إلا حقيقة ذاته، إذ لا متجلي بذاته في ذاته إلا هو، وإنه كما أوضحه الإلهيون فذاته كريم متجل؛ ولذلك ربما سماه الفلاسفة صورة للعقل، فأول قابل لتجليه هو الملك الإلهي الموسوم بالعقل الكلي فإنه بجوهره ينال تجليه كجوهر الصورة الواقعة في المرآة لمتجلى الشخص الذي هي مثاله، وقريب من هذا المعنى ما قيل إن العقل فعال مثاله، فاحترز أن تقول مثله، وذلك هو الواجب الحق، فإن كل منفعل عن سبب غريب فإنما ينفعل بتوسط مثال واقع من العلل فيه وبالعكس، وكل منفعل إنما ينفعل في قابل الانفعال عنه بتوسط مثال يقع منه فيه، وذلك بين بالاستقراء، فإن الحرارة النارية إنما تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثاله وهو السخونة، وكذلك سائر القوى من الكيفيات، والنفس الناطقة إنما تفعل في نفس ناطقة مثلها بأن تضع فيها مثالها، وهو الصورة المعقولة، والسيف إنما يقطع بأن يضع في المنفعل عنه مثاله وهو شكله، والمسن إنما يحدد السكين بأن يضع في جوانب حده مثال ما ماسه وهو استواء الأجزاء وملاستها.
ولقائل أن يقول: إن الشمس تسخن وتسود من غير أن تكون السخونة والسواد مثالها، لكنا نجيب عن ذلك بأن نقول: إنا لم نقل إن كل أثر حصل في متأثر من مؤثر، أن ذلك الأثر موجود في المؤثر، فإنه مثال من المؤثر في المتأثر، لكنا نقول: إن تأثير المؤثر القريب إلى المتأثر في المتأثر يكون بتوسط مثال ما يقع منه فيه، وكذلك الحال في الشمس، فإنها تفعل في منفعلها القريب بوضع مثالها فيه وهو الضوء، ويحدث من حصول الضوء فيها السخونة، فيسخن المنفعل عنها منفعلا آخر عنه، بأن يضع فيه مثاله أيضا وهو السخونة أيضا، فيسخن بحصول السخونة ويسود، هذا من جهة الاستقراء، فأما من جهة البرهان الكلي فليس هذا موضعه.
ونرجع فنقول: إن العقل الفعال يقبل التجلي بغير وسط، وهو بإدراكه لذاته ولسائر المعقولات فيه عن ذاته بالفعل والثبات، وذلك أن الأشياء التي تتصور المعقولات بلا روية واستعانة بحس أو تخيل إنما تعقل الأمور المتأخرة بالمتقدمة والمعلولات بالعلل والردية بالشريفة، ثم تناله النفوس الإلهية بلا توسط أيضا عند النيل، وإن كان بتوسط إعانة العقل الفعال عند الإخراج من القوة إلى الفعل وإعطائه القوة على التصور، وإمساك المتصور والطمأنينة إليه، ثم تنالها القوة الحيوانية ثم النباتية ثم الطبيعية، وكل واحد مما يناله يسوقه ما ناله منه إلى التشبه به بطاقته، فإن الأجرام الطبيعية إنما تتحرك حركاتها الطبيعية تشبها به في أفعاله على بعض الأحوال - أعني عند حصولها في المواضع غير الطبيعية - وإن لم يكن يتشبه به في مبادئ هذه الغاية وهي الحركة، وكذلك الجواهر الحيوانية والنباتية إنما تفعل أفاعيلها الخاصة بها تشبها به في غاياتها، فهو إبقاء نوع أو شخص وإظهار قوة ومقدرة وفائدة، وما ضاهاها، وإن لم تتشبه به في مبدأ هذه الغايات كالجماع وكالتغذي، وكذلك النفوس البشرية إنما تفعل أفاعيلها العقلية وأعمالها الخيرية تشبها به في غاياتها هي كونها عاقلة عادلة، وإن لم يكن يتشبه به في مبادئ هذه الغايات كالعلم وما شاكله، والنفوس الإلهية الملكية إنما تتحرك تحريكاتها وتفعل أفاعيلها تشبها به أيضا في استبقاء الكون والفساد والحرث والنسل.
والعلة في كون القوى الحيوانية والنباتية والطبيعية والبشرية متشبهة بها في غايات أفاعيلها دون مباديها؛ لأن مباديها إنما هي أحوال استعدادية قوية، والخير المطلق متنزه عن مخالطة الأحوال الاستعدادية القوية، وغاياتها كمالات فعلية، والعلة الأولى هي الموصوف بالكمال الفعلي المطلق، فجاز أن تتشبه به في الكمالات الغائية، وامتنع أن تتشبه بها في الاستعدادات، وأما النفوس الملكية فإنها فائزة في الصور ذاتها بالتشبه به فوزا أبديا عريا عن القوة، إذ هي عاقلة له بها، وعاشقة له بما تعقله منه أبدا، ومتشبهة بما تعشقه منه أبدا، وولوعها بإدراكه وتصوره الذين هما أفضل إدراك وتصور يكاد يشغلها عن إدراك ذواتها، وتصور ما سواه من المعقولات، إلا إن معرفته بالحقيقة تعود بمعرفة سائر الموجودات، فكأنها تتصوره بالقصد الأول، وتتصور سواه تبعا، وإذ كان لولا تجلي الخير المطلق لما نيل منه، ولو لم ينل منه لم يكن وجود، فلولا تجليه لم يكن وجود، فتجليه علة كل وجود، وإذن هو بوجوده عاشق لوجود معلولاته، فهو عاشق لنيل تجليه، وإذ معشوق الأفضل لفضله هو الأفضل فإذن معشوقه الحقيقي في أن ينال تجليه هو حقيقة نيل نيله النفوس المتألهة له؛ ولذلك قد يجوز أن يقال إنها معشوقاته، وإليه يرجع ما روي في الأخبار أن الله تعالى يقول: «إن العبد إذا كان كذا كذا عشقني وعشقته»، وإذ الحكمة لا تجوز إهمال ما هو فاضل في وجوده بوجه ما، وإن لم يكن في غاية العقلية، فإذن الخير المطلق قد يعشق بحكمته أن ينال منه نيلا، وإن لم يبلغ كمال الدرجة منه، فإذن الملك الأعظم رضاه لمن يتشبه به، والملوك الفانية سخطها على من يتشبه بها؛ لأن ما يرام التشبه من الملك الأعظم لا يؤتى على غايته، وما يرام من التشبه من الملوك الفانية قد يؤتى على مبلغه.
وإذا بلغنا هذا المبلغ فلنختم الرسالة، والحمد لله واهب القوة على حمده حمدا كما هو أهله، وصلواته على نبينا وعلى سائر أنبيائه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (تمت)
Неизвестная страница