فارق كبير بين ابنه ياسر الأصغر الذي تخرج في كلية التجارة وابنه البكر وجدان الذي تخرج في كلية الحقوق. وقد حصل الابنان على الثانوية العامة من كلية فيكتوريا، فكلاهما يتقن الإنجليزية كل الإتقان. وقد جعل هو من نفسه مدرسا لهما في اللغة العربية فأتقناها هي أيضا إتقانا لا يتوفر لكثير من زملائهما حتى أولئك الذين تلقوا تعليمهم بالمدارس المصرية.
وقد كان وجدان هاويا للدراسة لا يؤديها مكرها، وإنما كان شغوفا بها، فلم يكن عجيبا أن يكون متفوقا دائما. ولم يكن عجيبا أيضا أن يحصل على تقدير جيد جدا حين تخرج. وكان من الطبيعي أن يلتحق بالنيابة ويسير في الطريق الذي سار فيه أبوه. ولكن وجدان رغب إلى أبيه أن يكون محاميا، وكان عزام حريصا دائما أن يترك لولديه حق الاختيار المطلق، ولكنه كان أيضا يقدم رأيه وكأنه صديق ثم يترك لمن يناقشه منهما الحرية الكاملة في اتخاذ القرار.
ويوم جلس إليه وجدان ليعلنه أنه اختار المحاماة: لماذا؟ - أنا أملك لغتي العربية وأتقن الإنجليزية ودرست الفرنسية. وأنا أحب القانون، فلماذا لا أنتفع بكل هذا في ميدان المحاماة؟ - لك ما شئت، ولكن ما مصير القضاء في مصر إذا قال كل متفوق ما تقوله؟ - أنت تعرف يا بابا أن القضاء الواقف يخدم العدالة مثل القضاء الجالس. - على أن يكون القضاء الواقف أمينا. - وما رأيك في ابنك؟ - أرى العهد الذي نبدؤه اليوم مليئا بالمغريات المادية. - ألا تراني أهلا أن أقاومها؟ ثم أليس لكل عهد مغرياته، ولكل مهنة أيضا؟ - أنا قاض وعسير علي أن أحكم قبل أن أرى ظروف الدعوى. - ما ظنك بي؟ - إن معرفتي بك تزيدني خوفا عليك. - هل أمانتي هشة؟ - يا ليتها كانت كذلك. - أكاد أفهمك. - ستدخل في صراع عنيف أخاف عليك منه. - وأنت يا بابا حين كنت تجلس على كرسي القضاء وتحكم على إنسان ما بالقتل أو بالحرمان من الحرية، ألم تكن تتعرض لصراع؟ - في أول عهدي بالقضاء نعم، أما فيما بعد ... - بل قد كنت أشهدك وأنت عائد بعد الجلسة ذاهلا تبتلع لقيمات وتسارع إلى غرفتك متظاهرا أنك تريد أن تنام، وكنت أكاد أراك تتقلب في فراشك، وكنت أوشك أن أسمع نبضات قلبك تصيح أنك ربما ظلمت أو تشددت أو قسوت أو تهاونت. - هل كنت تحس هذا جميعا؟ - كنت أحسه أنا وياسر وماما، وينظر بعضنا إلى بعض ولا نتكلم. فقد كنا تعودنا، ولكن التعود لم يستطع أن يجعلنا ننجو من الإشفاق عليك والقلق على صحتك. - لكل مهنة متاعبها، ولكن أخشى أن يغريك المال فتنسى ضميرك. وأنا أعلم أنك تحب ضميرك حبا يكاد يكون قاتلا. - سأجرب نفسي. - الميدان الذي تدخله مليء بالأنياب والأظافر الشرسة القاتلة ويندر أن يجد صاحب الضمير طريقا فيه. - لعلي أشق هذا الطريق. - فشأنك إذن. ولكن ليكن قرارك النهائي بعد أن تؤدي الخدمة العسكرية. - وهو كذلك.
ويذكر عزام هذا الحوار جميعه وينفطر قلبه على ولده وجدان، فها قد مرت سنة وبعض السنة وهو في مكتب إسماعيل العدوي المحامي، وقلما يحدثه عن شأن من شئون قضاياه.
إن وجدان يذكره بنفسه وهو في غضارة الصبا ونضارة الشباب ومطالع الفتوة.
كان أبوه عبد المجيد أبو الفضل عمدة الديدمونة علمه بعض القرآن في القرية، ثم استأجر هو وعمه بيتا أقامت فيه أمه نفيسة وأقام هو معها. فكان الأب يزور أسرته كلما سمح له عمله وكان يصحبه إلى القرية في كل الإجازات. وكان احترام الناس له منذ هو طفل يجعله دائما يشعر بأنه ينبغي عليه ألا يرتكب ما يجلب له الاحتقار. وقد كان هذا في الطفولة والصبا أمرا هينا، ولكنه حين شب عن الطوق وخطت به السنون إلى الشباب كان الأمر عسيرا.
شاب في مقتبل العمر ليس مضيقا عليه في الرزق، يقيم مع أمه في القاهرة، والشباب فتوة وقوة وعرق ينبض، والرغبة سعير، والإغراء لهيب، وما يهفو إليه قريب قريب لو مد يده لناله. وهو بعد فتي السمات جذاب الملامح، فيه أصالة المصري تضيئها براءة السنوات الخضر، ومشاعل الشباب التي تجعل الحياة كلها نورا. وحوله الصحاب، وما أكثر ما يروي الصحاب! منهم الصادق ومنهم المبالغ ومنهم المختلق. ولكن كل ما يرويه الصحاب يثير في نفسه ما يحاول أن يكتمه من رغبات.
إنه يريد. بكل ذرة من ذرات جسمه يريد. وبكل قطرة من قطرات دمه يريد، ولكن شيئا ما يمنعه.
لا ينسى يوم صحبه عثمان صديقه إلى الماخور ودفع الأجر وجلس ينتظر دوره. ولكن ما هي إلا دقائق معدودات حتى وجد نفسه يفتح الباب الخارجي ويجري هاربا ومن ورائه عثمان يناديه وهو لا يلوي عليه ولا يجيب. كان في هذه اللحظة لا يريد شيئا إلا أن يهرب، وهرب.
وفي يوم آخر قال له فريد: أتكون خائبا يا ولد يا عزام؟
Неизвестная страница