أضاء النور وهو فعلا خائف، ولم يلمح فهمي في الحال، فقد وجد الفراش الذي منحوه إياه ممزقا مكوما، والمطبخ بكل ما فيه مبعثرا ومدلوقا، والمقشات منتزعا قشها وريشها ومنثورا، وعددا لا يحصى من بقع الدماء الصفراء تصبغ الأرض وباب الثلاجة والمناضد البيضاء، والرائحة النتنة الخانقة لا تزال هناك، لكأنه كان ميدانا لمعركة حامية الوطيس دارت بين إنسان أعزل وخصم جبار غير منظور، لكأن الصرخات كانت صرخات رعب الإنسان من عدو خفي يسحقه بالضربات وهو عاجز محاصر متألم مهزوم لا حول له.
ونظرة ثانية ألقاها على المطبخ، بعيني الزوجة هذه المرة، أدرك بعدها فاجعة لم يكن يتوقعها أبدأ قد حلت. وبحث عن فهمي فوجده قد حشر نفسه بين منضدتين من مناضد المطبخ عاريا تماما ليس عليه إلا فانلة مهرأة، رأسه يتحرك في كل اتجاه، عيونه الميتة المطفأة تقدح بشرر أبيض، دائبة الحركة في محجرها تبحث عن منقذ ومخلص، وبكيانه كله كان يتجه إلى أعلى في يأس كامل كمن يدرك تماما أن لا نجاة. إنه ألم سرطان المثانة المروع، حين يزحف مع الليل، حين تبدأ قطرات البول تتجمع بحمضها عبر الورم الخبيث الذي نفذ إلى كل المسالك، ومرور القطرة على الورم المتهتك المجروح، يسحق بالألم الذي يصدره كائنا حيا في فخامة الفيل وبلادة إحساسه، ويجعله يجثو ويحفر الأرض بأظلافه، ويملأ الدنيا بهتاف مروع صارخ .. إنه الألم الذي يسمونه فوق احتمال البشر، فهو لم يخلق لبشر، ولم يخلق البشر وتزود أعصابهم بتلك القدرة الهائلة الدقيقة على الإحساس، كي يسحقها ويكويها ألم كهذا الألم.
أخرج فهمي من مكانه، ولا يزال رأسه وعيناه وكل كيانه في حالة تلفت مسعور وبحث عن مفر، مشغول عنه وعن المكان والزمان والدنيا كلها بما هو حادث فيه وبداخله، فيقف ويجثو، ويتمدد على بطنه ويركع، ويقوم هالعا واقفا، ويفتح فمه استعدادا للصرخة، وحتى يكتمها ويحتملها يحشو فمه بذراعه أو بالمخدة أو المقشة ويغرز أسنانه فيها ويسيل الدم من الذراع ومن الفم، ومع نقاط البول الكاوي.
وشعر بضغط خانق يكتم أنفاسه، وبرغبة مجنونة أن ينطلق هادرا لاعنا نفسه وبلده وأناسها، واليوم الأسود الذي كتب عليه فيه أن يولد منها، ويصبح عليه أن يحيا عمره كله يحمل عن أناسها همهم وفقرهم وعجزهم ومرضهم وأخيرا آلامهم وبولهم، ولكن ما الفائدة ومن يتلقى لعناته واحتجاجاته. إنه لا يستطيع حتى أن يطلب من فهمي أن يكف عن الصراخ، أو يرغمه على البقاء في ركن بعينه من المطبخ، إلا إذا كان باستطاعته أن يأمر الألم الذي في داخله أن يكف، والشيطان الذي يمزق أحشاءه أن يهجع .
وسمع خطوات مترددة في الصالة. ومخافة أن ترى الفاجعة الحادثة. أطفأ النور وأسرع عائدا إلى حجرة النوم ليجد عفت في منتصف المسافة. - هيه .. عملت إيه؟ - قلت له يسكت! - وإن ما سكتش؟! - حا يسكت!
آي ياي ياي ياي ياي ياي ياي
وأسرع خلفها إلى حجرة النوم التي فرت إليها مذعورة. وما كادت الصرخة تنتهي حتى وقفت تواجهه وتهيئ نفسها للعاصفة المقبلة الهوجاء. ولكنه أسرع، واستطاع رغم دفعاتها وتملصها أن يحتويها بين ذراعيه، ويقاوم إحساسه بالرغبة الملحة في الانهيار ويعترف لها بصدق واضح وملموس أنه أخطأ وأنه ما كان يجب، وأنه يطلب الصفح، وأن يكون صفحها على هيئة مساعدته في تدبير الحل للموقف، فهما في قلب الأزمة معا، ولا سبيل أمامها إلا الاحتمال. وما تنزلوش ينام تحت عند البواب ليه؟ فضيحة والساعة اتنين. أروح أنا عند ماما. دلوقتي؟! أنا ما اقدرش استحمل. عشان خاطري. ما اقدرش .. أرجوكي .. غلطة وباعتذر عنها وبارجوكي إنك تساعديني وتستحملي. أستحمل ازاي يارب؟! استحمل ازاي؟ •••
آي آي آي يي يي يا يا ياي ... - آه يا مامي! ما اقدرش على كدة ما اقدرش!
و و و و و و و ه يييييييه ... - إيه ده. ده مش بني آدم، دول عفاريت، دول جن. الحقيني يا ماما أنا ح اجنن!
وشيئا فشيئا بدأ الحديدي يحس أن ارتباطه بحجرة النوم وبالزوجة التي يحتضنها ويسكنها، بالبيت والحاضر كله يضعف وبتوتراته يتراخي وبوجدانه يستحيل إلى بحيرة هائلة ملساء على استعداد لاستقبال أدق الرذاذ الصادر عن فهمي.
Неизвестная страница