من مسدسات لا هوية لها!
إن ما فعله لوركا مرارا وتكرارا في أعماله الفنية، هو أنه تناول القصص والنوادر التي قصها عليه معارفه في طفولته، ليصيغ منها بعد ذلك حبكات مسرحياته، كما عمد أحيانا إلى إدخال اللغة البديعية التي اعتاد سماعها في القرى التي عاش فيها، بين ثنايا لغته الشعرية.
وقد قال ذات مرة عن طفولته: «لقد عشت طفولتي في جو كامل من الطبيعة، وككل الأطفال، كونت رأيي بشأن شخصية كل شيء، كل موضوع، كل قطعة أثاث، كل شجرة، كل حجر، وكنت أبادل هذه الأشياء الحديث، وأبادلها الحب، كانت تنمو في صحن دارنا أشجار الحور السوداء، وفي أصيل أحد الأيام، خطر لي أن أشجار الحور تشدو بالغناء، ذلك أن الرياح وهي تمر بين أغصانها كانت تصدر مجموعات من الألحان بدت لي كالموسيقى، وقضيت ساعات أصاحب بصوتي أغنية الأشجار، ويوما آخر، دهشت إذ سمعت شجرة حور سوداء عتيقة تهمس باسمي: ف ... دير ... يكو!»
وفي حديث آخر مع أحد الصحفيين، قال لوركا: «كان لذكرياتي الأولى عبير الأرض، لقد فعل الريف بحياتي فعل السحر، إن للأرض وللهوام وللحيوانات وللفلاحين أفكارا لا تصل إلى الجميع، إنني أسيطر عليها الآن بنفس الروح التي كنت أسيطر عليها بها في طفولتي ... لقد كنت طفلا محبا للاستطلاع، وكنت أتابع آنذاك عملية حرث أرض والدي في أعماق الريف، ولقد أحببت مشاهدة النصال الحديدية الهائلة تفتح جراحا في الأرض، جراحا تنبجس منها الجذور بدلا من الدماء، ومرة اصطدم نصل المحراث بشيء أعاق مسيره، ثم اقتلع كسرة من قطعة خزف رومانية عتيقة، وكان عليها سطور لا أذكرها، وإن بقي منها اسما الراعيين «دافنيس» و«كلو» في ذهني، وكان للاسمين أيضا نكهة الأرض التي أعشقها».
وقد عاش لوركا حتى الحادية عشرة من عمره تقريبا في قلب الريف، إذ إن أسرته انتقلت بعد مقام في «فوينتي فاكيروس» إلى قرية أخرى تدعى أسكيروسا - التي كان العرب يسمونها الشكروجة، والتي تدعى الآن بلدي الربي
Valde Rubio ، وهي في نفس إقليم غرناطة أيضا، حيث كان الأب يملك بعض الأرض ... وهكذا انطبعت حياة الريف في كيان الشاعر، وانطبعت في فؤاده مساحات الخضرة التي تحيط به من كل مكان، وجاءت القصيدة الخضراء، حكاية السارية في نومها، تجميعا لكل هذه العوامل التي تأثر بها لوركا في طفولته وصباه، فهي مزيج من الصور الفنية المستمدة من الريف وأساطيره، وحكايات اللصوص والمهربين، في خلق شعري غنائي جميل:
أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
رياح خضر، وأفنان خضراء.
السفينة في البحر،
Неизвестная страница