آدم في الجنة
أراد الله سبحانه لآدم وذريته الابتلاء على وجه الأرض، فاستخلفه فيها بعد أن كان في الجنة هو وزوجته يأكلان منها حيث شاءا، وحذره من إبليس وخططه في إغوائه له ولذريته، وجعل الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة باجتناب خطوات إبليس.
1 / 1
قضاء الله في إخراج آدم من الجنة وذكر ما ترتب على خطيئته
الحمد لله رب العالمين، ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة:٧ - ٩] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر:٣].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحباب! حديثنا يحمل عنوان: آدم في الجنة.
يعتقد البعض أن الله صلب ولده ليكفر عن خطيئته، وهذا اعتقاد باطل ينافي عقيدة المؤمن؛ لأن الله ﷿ في سورة النساء فضح اليهود وبيّن قولهم في مريم، وكفرهم بالمسيح ﵇، قالوا في مريم: أنها حملت من الزنى وهي المبرأة التقية الورعة، ونسبوا إلى أنفسهم أنهم صلبوا ولدها عيسى، وصور هذا لبعض المسلمين اليوم، واأسفاه! أقلام مسلمة تصدق هذا، وتدندن حول هذا المعنى، وتقول: هم قتلة الأنبياء، نعم لا بأس بهذا، لكن في قضية قتل المسيح وصلبه قال الله ﷿: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [النساء:١٥٧]، استهزاءً، يقول الله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء:١٥٧]، ثم عادت الآيات تؤكد هذا المعنى، يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء:١٥٧ - ١٥٨]، هذا الكلام مهم جدًا في هذا الزمن؛ لأن البعض شاهد فيلمًا بعنوان: آلام المسيح؛ لأن اليهود صلبوه وفعلوا به كذا وكذا، يا عبد الله! مع إيماننا الجازم أنهم قتلة الأنبياء، وأنهم قتلوا يحيى ﵇، وحاولوا قتل زكريا ﵇، ووضعوا السم لسيد البشر محمد ﷺ، وحاولوا قتل المسيح ﵇ وصلبه، لكن الله ﷿ برأه منهم ونجاه من أيديهم.
1 / 2
أسباب عدم سجود إبليس لآدم
توقفنا عند قول ربنا ﷿: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:٣٤]، وفي سورة الأعراف قال: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف:١١]، والسؤال هنا: ما الذي دفع إبليس لعدم السجود لآدم، فالأمر من الله ﷿ أمر صريح لا يحتاج إلى إعمال القياس والعقل والفكر، فلا قياس في وجود النص: «اسْجُدُوا لِآدَمَ»، أمر صريح؟ بين القرآن أسباب ذلك: السبب الأول: الكبر، وهذه صفة في الإنسان أن يتكبر، إما بأصله وإما بحسبه وإمام بنسبه وإما بماله وإما بعلمه، فالتكبر أنواع، فكلما ازداد العالم علمًا ازداد تواضعًا، فالمتكبر ينتهي، وانظروا إلى ماذا صنع الكبر بإبليس.
قال الأحنف بن قيس: عجبًا لابن آدم! يتكبر على الأرض وقد خرج من مجرى البول مرتين! أي: من مجرى بول أبيه، ومن مجرى بول أمه! والآيات في ذم الكبر كثيرة: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف:١٤٦]، وقال رسول الله ﷺ: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
السبب الثاني: أنه اعتز بأصله وبأصل خلقته، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف:١٢].
يا إبليس! حتى لو سلمنا جدلًا أنك خير من آدم، فإن الأمر من الله ﷿ لا يحتاج إلى مناقشة، ولا إلى مجادلة، ولا إلى أن ترد الأمر على خالقك، فإبليس عند معصيته رد الأمر على الله، واتهم الله ﷿ بالظلم وعدم العلم؛ لأنه قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ»، وكأنه يقول: لم تأمرني بذلك؟ ليس من العدل أن أسجد له، لكن العبد حينما يعصي الله يقر بمعصيته ويندم ويعترف، فهل إبليس اعترف بخطيئته؟ هل إبليس أقر بذنبه؟ من كتابنا من يكتب: إن الله قد ظلم إبليس! إنا لله وإنا إليه راجعون، في زمن فيه حرية الكفر فتحت الأبواب لمن هب ودب، كل يكتب على حسب هواه حتى وإن ناقض أصل الدين، وأصول المعتقدات عند المسلمين.
السبب الثالث: بسبب قياسه الفاسد، والقياس مع النص لا أصل له، إلا أن القياس لا ننكره كأصل من أصول التشريع، لكن القياس نلجأ إليه في حالة عدم وجود النص مع اتفاق العلة، فما أحدثه الناس اليوم من المخدرات حرام قياسًا على الخمر؛ لأن العلة هي السكر.
قال ﷺ: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)، قاس العلماء الإيجار، أي: لا يستأجر أحدكم على إيجار أخيه؛ لأن العلة واحدة.
وهنا النبي ﷺ يقرب المعنى إلى الأذهان بالقياس، وذلك حينما جاءه رجل من أصحابه يتهم زوجته بالزنى؛ لأنها ولدت ولدًا أسود، فالأب أبيض والزوجة بيضاء والناتج زنجي أسود، هذا عطاء الله سبحانه، فاعترض الرجل، فذهب إلى النبي ﷺ يقول: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت ولدًا ليس من لوني.
والألوان ليس لها قيمة عند الله، قال سبحانه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:١٣]، لكن الرجل أراد أن يلاعن زوجته من طرف خفي، فقال له النبي ﷺ: (أعندك إبل؟ قال: نعم.
قال: ما لونها؟ قال: حمر.
قال: أفيها أورق؟ -هل فيها واحد مخالف للمجموعة؟ - قال: فيها أورق، قال: ما تقول فيه؟، قال: لعله نزعه عرق، قال: كذلك ولدك لعله نزعه عرق)، يقرب المعنى إلى الأفهام بالقياس، وقال: (وفي بضع أحدكم صدقة، فقال الصحابة: يا رسول الله! أيضع أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيت إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟، قالوا: نعم، قال: كذلك إن وضعها في حلال فله أجر)، هذا أيضًا قياس، والقياس عند الأصوليين معتبر، لكن قياس إبليس قياس فاسد؛ لأنه قاس مع وجود النص.
ونحن لا نسلم لإبليس بما قال، قال ابن كثير: الطين أفضل من النار، فالطين من طبيعته: الرزانة والعطاء والأناة، وإن شئت فانظر إلى الطين وهو يعطي الثمرة، والنار من طبيعتها: الدمار والحرق، فلا نسلم له أصلًا بهذا القول، لكن هذا أمر الله ﷾.
1 / 3
خطط إبليس في إغوائه بني آدم بعد لعن الله له وإمهاله
لما امتنع إبليس من السجود بصده وإعراضه واستكباره وعدم إقراره بذنبه ورده لأمر خالقه كانت النتيجة: الجزاء من جنس العمل: ﴿اخْرُجْ مِنْهَا﴾ [الأعراف:١٨]، أي: من الجنة، وانظر إلى قول ربنا: ﴿إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف:١٣]، والصغار أقصى مراتب الذل، استكبر فأذله الله، فالجزاء من جنس عمله: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾ [الأعراف:١٨]، فخرج إبليس من الجنة، وطرده الله سبحانه ومسخ صورته ولعنه، وكتب عليه الذل والصغار.
وبعد خروجه من الجنة، واستعلائه عن أمر ربه أمر الله ﷿ آدم بالسجود، لكن إبليس سأل الله مسألة وهي: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر:٣٦]، فإبليس يقر لله أنه رب، أي: يقر بتوحيد الربوبية أي: خالقي، لكنه كفر بمقام توحيد العبودية والألوهية، قال: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر:٣٦]، أي: إلى يوم القيامة أمهلني وأجلني، ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر:٣٧ - ٣٨]، هذا قدر الله سبحانه، أمهله الله ﷿، والآية واضحة كوضوح الشمس.
هناك من أهل الجهل والسفه -ويصدقها الكثير- يوزعون ورقة عن معاذ بن جبل -كما يدعون-: (أن النبي ﷺ كان يجلس مع أصحابه، فطرق الباب طارق، فقال: أتدرون من بالباب؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: ذلك الشيطان الرجيم إبليس، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه).
فمن أول الحديث عرفنا أنه كذب؛ لأن عمر لا يجهل أن إبليس منظر، وهذا فيه اتهام للصحابة بالجهل بالقرآن الكريم.
كذلك مما يروجونه وصية الشيخ أحمد إلى المسلمين في بقاع الأرض: بينما أنا نائم في حضرة النبي ﵊، إذ جاء النبي في منامي وأنا نائم بجوار قبره، فقال لي: يا أحمد! إن المسلمين قد تركوا أمر الله وو إلى آخره، وفي آخرها: لا بد أن تصورها وأن توزعها، وأقل عدد عشرين صورة، ولم يصورها فلان ففصل من عمله، ولم تصورها فلانة فلم تتزوج إلى الآن، وصورها فلان وفلان فقضى الله عنه الديون.
الورقة تسدد الديون! وتفرج الكروب! وتحصل بها على وظيفة! ومع تيه المسلمين تقع في أيديهم ويصورونها مئات الصور إلى اليوم! فهذا شرك من أوسع الأبواب إن اعتقد صحة ما فيها، أقول: مزقها أو أحرقها، وإني على يقين أنك لن تصاب بأذى، فالذي يملك جلب النفع ودفع الضر هو الله ﷾.
فكل من شاء الآن يكتب، عندنا إباحية في مسألة الكتابة، فنحن الآن نسمع العجب، ولا بد من الضابط الشرعي في القبول عند السماع.
أيها الإخوة الكرام! لما أمهل الله إبليس، بيّن إبليس خططه، وبيّن ما يصبو إليه في إفساد البشرية، قال لربه سبحانه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف:١٧]، حصار من الجهات الأربع، وقال: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء:١١٩]، هذا من مخطط الشيطان في الإفساد في الأرض.
ثم أيضًا قال الله سبحانه: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء:٦٤]، وصوت الشيطان: هو الغناء، استخفهم إبليس بالغناء، أين تذهب هذا المساء؟ قال: في حفلة غنائية راقصة، هذه الليلة سأرقص إلى الفجر، والأمة تزحف بالآلاف المؤلفة إلى العته والجنون، ومقدساتها تدك، وأطفالها تداس، وبطون نسائها تحمل من الزنى قهرًا واغتصابًا، أي كرامة للأمة هذه؟ أمة عابثة.
في يوم الإثنين الماضي تدك الفلوجة بأيدي إخوان القردة والخنازير، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله إنه للعار وإنه للدمار والشنار، لكن: لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي.
أسأل الله أن ينصر الإسلام، وأن يمكن لدينه في الأرض، جسد مات! أسأل الله أن يعطيه الحياة.
فإبليس بيّن عن مقصوده وبيّن عن خططه في إفساد الخلق وإفساد البشرية، قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ [الإسراء:٦٤]، أي: اركب واستخدم كل الوسائل، فالخيل إشارة إلى ركوب الخيل، والرجل إشارة إلى الترجل، استخدم كل الوسائل التي تستطيع يا إبليس! ﴿بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ﴾ [الإسراء:٦٤]، بالربا والرشوة، وأكل المال بالباطل، والأولاد بتسميتهم، ينسبوهم إلى غير الله، أو أن يعبدوهم لغير الله سبحانه كعبد العزى وغير ذلك، قال تعالى: ﴿وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
1 / 4
إقامة آدم وزوجته في الجنة بعد خروج إبليس منها
وبعد أن بيّن مقصوده قال: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف:١٦]، أخبر أنه سيأتي أحدكم في جهاده وفي إنفاقه وفي صلاته، وفي كل وقت ليزين له المعصية، يقول ربنا سبحانه: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [الأعراف:١٩]، طرد إبليس من الجنة، ثم سكن فيها آدم وزوجته، لكن هل هي جنة الخلد؟ هذا رأي الجمهور، أم هي جنة أرضية للاختبار والابتلاء والامتحان؟ هذا رأي آخر، وابن القيم في مفتاح دار السعادة ما استطاع أن يحسم النزاع؛ لأن كل فريق له أدلته: فالذين قالوا: إنها جنة أرضية قالوا: إن آدم قد تعرى فيها، وجنة الخلد ليس فيها تعرية، وإن آدم قد كلف فيها بعدم الأكل من الشجرة، وجنة الخلد ليس فيها تكليف، وإن آدم قد أصابه فيها الحزن، وجنة الخلد ليس فيها حزن.
ورد الفريق الآخر بسبعين دليلًا عدها ابن القيم منها: إن آدم يذهب إليه الخلائق يوم القيامة فيقولون: اشفع لنا عند ربك أن يصرفنا إلى الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا أنا؟ وهل أخرجكم من هذه الجنة إلا أنا؟ فالجنة هنا هي جنة المأوى.
عمومًا اختلف العلماء في الجنة، لكن آدم سكن هو وزوجته حواء، وفي هذا إشارة إلى تبعية المرأة والرجل، وسترى أن الخطاب في الآيات أحيانًا لآدم بمفرده، وأحيانًا لآدم وحواء، فإن كان لآدم بمفرده تدخل فيه حواء بالتبعية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى﴾ [طه:١١٨]، لا يجوع هو وحواء؛ لأنها تدخل بالتبعية، فالمرأة تبع لزوجها، فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله، هذا معناه: أن المرأة تتبع الرجل الذي يقوم على ولايتها، وله القوامة عليها.
قال تعالى: ﴿وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ [البقرة:٣٥]، أي: كلا من الجنة ما شئتما إلا شجرة أحذرك يا آدم! أن تقترب منها، قال: ﴿وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:٣٥]، والحرمة بعدم القرب أبلغ من ألا تأكلا، وعندنا من يقول: الإسلام لم يحرم الخمر؛ لأن الله قال: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:٩٠]، وكلمة: «فَاجْتَنِبُوهُ» لا تعني: التحريم، يا له من فيلسوف! ولم يحرم الزنا تحريمًا مباشرًا؛ لأن الله قال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ [الإسراء:٣٢]، هذه عقول لا أدري بأي حق تتحدث أو تكتب، وإن لم تستح فاكتب ما شئت، أو فاصنع ما شئت، أو فقل ما شئت، فإن التحريم بعدم القرب أبلغ.
1 / 5
أسباب وقوع آدم وزوجته في الخطيئة وخروجهما من الجنة
حذر الله آدم من إبليس فقال له: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ [طه:١١٧]، أي: إبليس: ﴿عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه:١١٧]، انتبه يا آدم! أحذرك من إبليس؛ لن يتركك دون وسوسة ودون محاولة للإغراء، فإنه قال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف:١٦]، يقسم لربه سبحانه أنه بسبب إغوائه سيحاول أن يضل البشرية.
وسكن آدم الجنة، لكن الآيات لم توضح نوع الملابس التي كان يلبسها، وإنما بينت أنه كان يلبس، فلا بد أن نؤمن إيمانًا جازمًا أن العورة كانت مستورة، وهذا من الفطرة، فالفطرة أن تستر العورة، لكن في زماننا الآن خرجنا عن الفطرة، فالعورات قد ظهرت باسم المدنية والتحضر.
وآدم لم يهبط إلى الأرض إلا وهو يعلم أن عدم إظهار العورة من الفطرة، لكن من استقامة الطبع عندنا الآن أن من تسير في طريق عام تظهر العورة وتتبجح، وعندنا من الرجال من يظهر العورة ويبتسم، هذا معناه: أن الحياء قد نزع من قلوبهم، وحدث عنه ولا حرج.
جاء إبليس عن طريق الوسوسة؛ لأن القرآن قال: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف:٢٠]، لا نقول: دخل إليهما عن طريق الحية كما في التوراة المحرفة؛ فالنص واضح عن طريق الوسوسة، آدم في الجنة وإبليس خارج الجنة، وسوس لهما فقال: ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ [طه:١٢٠]، أتى بوسائل الإغراء: هل تحب أن تكون خالدًا في الجنة؟ كل هذه الشجرة يا آدم! هل تكره أن تكون ملكًا؟ يا آدم! أقسم لك بالله إني لك لناصح؟ وظل خلفه يوسوس له ويزين له، وهذا دأب الشيطان مع أوليائه، يزين لهم المعاصي ويحببهم فيها، ويقربهم منها حتى إذا وقعوا: ﴿قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر:١٦]، فالشيطان عداوتنا معه واضحة.
اقترب آدم من الشجرة قليلًا ومعه زوجته حواء، وإذ به يقطف من ثمارها ويذوق هو وزوجته، فلما ملآ بطنيهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، لا تنس أن آدم خرج من الجنة بمعصية صغيرة، فيا ليت الذين يتجرءون على المعاصي الصغيرة ويقولون: إنها صغائر ينظرون إلى هذا المشهد، أكل آدم من الشجرة، ذاقها وبمجرد التذوق بدت لهما سوءاتهما، ونزلت الملابس من على جسديهما، لكن ليس من الفطرة أن ينظر إلى العورة كما قلت، ولم يتوقع آدم هذا المشهد، فطفقا إلى أوراق الجنة يخصفان منها، أي: يأخذان من شجرها ويواريان العورة، ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف:٢٢]، ألم أحذرك يا آدم! قبل أن تسكن الجنة وبعد أن سكنت فيها من إبليس؟ قوله: ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف:٢٢]، أي: واضح العداوة، ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:٢٣]، إقرار بالخطأ واعتراف بالذنب وعدم كبر، طلب العفو والمغفرة، فرق كبير بين معصيته ومعصية إبليس، فإن آدم لما ارتكب الخطيئة تاب فتاب الله عليه، ونص القرآن على ذلك، وكان توبة الله عليهما قبل أن يهبطا إلى الأرض.
1 / 6
الرد على من زعم أن عيسى صلب تكفيرًا لذنب أبيه آدم
يخرج علينا الآن من لا عقول عندهم، يقولون: إن الله ﷿ أراد أن يكفر عن ذنب بني آدم؛ لأن أباهم قد ارتكب ذنبًا، فصلب ولده! يا له من عجب! ما ذنب الابن إذا ارتكب الأب معصية؟ أنا الذي ارتكبت الذنب، إذًا: أنا الذي أتوب، أما أن يحاسب غيري لأجل ذنبي فهذا ليس من المعقول ولا من المنقول، والله يقول: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:١٦٤]، فهل للابن ذنب؟ وحاشا لله سبحانه أن يتخذ ولدًا: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف:٥]، ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ [مريم:٨٩]، يعني: عظيمًا، ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم:٩٠ - ٩٥].
أيها الإخوة الكرام الأحباب! بعد أن أكل آدم من الشجرة هو وزوجته، وظهرت السوءة والعورة طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وجاءت التوبة في الحال بعد الندم والإقلاع والعزم وعدم الإصرار عليها: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:٣٧]، فقبل أن يهبط آدم إلى الأرض تاب الله عليه، فلا حاجة لما قالوه ولا لما نسجوه من وحي الخيال: أن عيسى صلب تكفيرًا لذنب أبيه آدم، والله ﷿ قال: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران:٥٥]، رافعك بالروح والجسد لا كما يقول البعض: رفع روحًا بغير جسد، فهذه أكذوبة واختلاق.
قال العلماء والمفسرون: دل عليه أحد حوارييه ليقتلوه ويصلبوه، فألقى الله شبهه عليه، فشبه لهم أن هذا الحواري هو عيسى، فأخذوه وصلبوه، وهكذا رفع عيسى آمنًا عند ربه سبحانه، وسينزل قبل قيام الساعة؛ ليعرف كل الناس أن عيسى قد رفع إلى ربه ﷿ ولم يصلب، فالله يقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ [النساء:١٥٧].
إن البعض الآن وللأسف يدندن بقلمه وهو مسلم: أن عيسى صلب، وكما قتل الشيخ أحمد ياسين فإنهم قد صلبوا عيسى وقتلوه.
أقول: يمكن أن نقول: إنهم قتلوا يحيى وأرادوا قتل زكريا، أما أن تكتب عقيدة مخالفة لنص قرآني فهذا من الجهل ومن التعاطف في قضية لا ينبغي أن تتعاطف فيها؛ لأن المسلم عقيدته من كتاب ربه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء:١٢٢]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:٨٧].
اللهم إنا نسألك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همنا وغمنا ونور أبصارنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة.
اللهم تب علينا من الذنوب والمعاصي، اللهم طهرنا من الخطايا يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا، خطأنا وعمدنا، هزلنا وجدنا، وكل ذلك عندنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا.
اللهم انصر أطفال فلسطين المغتصبة، اللهم عليك باليهود ومن والاهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم آية فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين يا رب العالمين! اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، وأمّنا في أوطاننا، بدلنا من بعد خوفنا أمنًا، ومن بعد ضيقنا فرجًا، ومن بعد عسرنا يسرًا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الاحتضار شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك! يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك! اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، ومن الذل بعد العز، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اجبرنا يا رب العالمين! اجبر كسرنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اهدنا واهد بنا، اللهم إنا نسألك العفاف والتقى والهدى والغنى، إنك على كل شيء قدير، اللهم أعنا على ذكرك، وأعنا على شكرك، وأعنا على حسن عبادتك، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم اغفر لأبوينا، إنك نعم المولى ونعم النصير.
آمين آمين آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 7
بقرة بني إسرائيل
قص الله علينا في كتابه العزيز قصة بقرة بني إسرائيل، هذه القصة التي كشفت لنا حقيقتهم وما اتصفوا به من صفات سيئة وقبيحة، من الكبر والعناد وقسوة القلب واستهزائهم بآيات الله وأنبيائه والقتل وإلصاق التهمة بالآخرين؛ وذلك حتى نعرف أعداءنا وصفاتهم، فلا نسلك مسلكهم، فنضل ونشقى في الدنيا والآخرة.
2 / 1
صفات بني إسرائيل في القرآن
الحمد لله رب العالمين ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة:٧ - ٩].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر:٣].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ند له: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا مع القصص القرآني بأنواعه الثلاثة، واليوم لقاؤنا مع قصة وردت في سورة البقرة، وهي الثانية في الترتيب بعد قصة آدم، ألا وهي: قصة بقرة بني إسرائيل، وبنو إسرائيل قد جلاهم لنا القرآن الكريم، وبين لنا صفاتهم التي لا ينبغي لنا أن نغفل عنها طرفة عين، فهم يلحدون في العقائد، يعني: نستطيع أن نقول: مقومات الشخصية اليهودية في كتاب رب البرية، الكتاب الذي: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:٤٢].
إذًا كيف نتعرف على أعدائنا؟ من كتاب ربنا ﷿: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ [النساء:٤٥]، فمن هم بنو إسرائيل؟ لقد كشف الله ﷿ سرهم وجهرهم في كتابه، فهم يلحدون في العقائد، وهي أول صفة من صفاتهم، والإلحاد يعني: الانحراف، ففي عقيدتهم إلحاد بربهم، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ [المائدة:٦٤]، وقال الله على لسانهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران:١٨١]، وقالوا: إن الله خلق السماوات والأرض ثم مسه التعب واللغوب، فأراد أن يستريح فاستراح في يوم السبت: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف:٥].
وكذلك إلحادهم في أنبيائهم، وفي الملائكة، وفي الجنة، وفي النار، وأيضًا علاقتهم بالمؤمنين ينبغي أن لا نغفل عنها.
أيضًا من صفاتهم: الكبر والعناد وقسوة القلب، ثم القتل وإلصاق التهمة بالآخرين، وفي قصة البقرة هذا المعنى، والمادية؛ لأنه كان يمكن أن يبعث الله القتيل بدون بقرة، فلماذا جاءت قصة البقرة؟ لأن بني إسرائيل لا يؤمنون إلا بالمادي، ولذلك قالوا: يا موسى ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء:١٥٣]، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ [الذاريات:٤٤].
2 / 2
القاسم المشترك في قصص بني إسرائيل
نسق القصص في بني إسرائيل له قاسم مشترك، فكل قصة من قصص بني إسرائيل في القرآن قاسمها هو: أن الله يذكرهم بنعمه عليهم، فأول أمر: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:١٢٢]، هذا التفضيل تفضيل زماني في وقتهم، أو هو تفضيل مشروط له شروط، وهي أن يمتثلوا أمر ربهم، وأن يستجيبوا لأمر خالقهم، وأن يؤمنوا بالنبي محمد ﷺ، فهل وفوا بهذه الشروط؟ لا، إذًا فقدوا الأفضلية، ولذا فأول ملمح من قصص بني إسرائيل تذكير بالنعمة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة:٤٩]، وقوله: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة:٥٠]، وكلها تذكير بنعم الله عليهم، لكن هؤلاء الناس قابلوا النعمة بالكفر والجحود، فأنزل الله بهم العقوبات تلو العقوبات، ثم التوبة منهم، ثم رحمة الله ﷿ بهم، فعلى هذا الترتيب في قصص بني إسرائيل نجد هذا المعنى: نعمة، ثم كفران، ثم عقوبة، ثم رحمة، وهذه القصة قد جاءت على غير المألوف، إذ إن النعمة كانت في آخرها، فقد قتلوا قتيلًا، والقتل عند بني إسرائيل هين، وانظروا إلى ما يفعلونه في فلسطين، من قتل للأطفال، وهدم للبيوت والديار، واغتصاب للنساء، وهذا هو شأنهم أبدًا، فالقوم يضحكون عليكم ويوالونكم، لكن لا عهد لهم ولا سلام، فإنهم ﴿َيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة:٣٣]، و﴿كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة:١٠٠]، هذا كلام الله يا قوم! فافقهوا عن ربكم.
فما هي قصة البقرة؟ قتل رجل منهم آخر، وكان فريق منهم يعرف ذلك؛ ولذلك يقول الله في آخر القصة: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ [البقرة:٧٢]، فالقاتل واحد ونسب القتل إلى المجموعة؛ لأن هناك فريقًا أيد ذلك، فأصبح الحكم للجميع، ولذلك لما قتلوا القتيل منهم جاءوا إلى موسى ﵇ يسألونه ليأتيهم بآية من ربه، ليعرفهم من الذي قتل، وهذا يشير إلى معنى: أن بني إسرائيل يقتلون المرء ويقفون لتقبل العزاء فيه! يقتلون وينصبون دائرة المفاوضات للسلام! يقتلون ويقولون للناس: نحن نبحث عن السلام الآمن، ثم يأتي هؤلاء القوم من جلدتنا ويصدقون هذا الكلام! فنقول لهم: يا قوم اعقلوا عن ربكم، فلا سلام مع هؤلاء، وإنما هم يريدون الانتقام من الأمة؛ لأن الحقد والحسد ملأ قلوبهم، وانظروا إلى ما حدث في سجن أبي غريب في العراق، فهذا نموذج يشير إلى الحقد الدفين في قلوبهم، فقد أتوا بعلماء الأمة من أهل السنة، وأئمة المساجد الذين يعظون الناس، فألبسوهم ملابس داخلية نسائية، ثم أدخلوهم زنزانة مع بعض النساء الهابطات، والأمة نائمة ومخدرة، بل وضائعة.
2 / 3
حال بني إسرائيل مع أوامر الله ﷿
2 / 4
تردد بني إسرائيل في متابعة طالوت حين ملكه الله عليهم
إن أول ملامح النصر للأمة: أن يبعث الله لها قائدًا مسلمًا، وهذا الذي كان في قصة طالوت وجالوت التي سنذكرها فيما بعد، وسنبين كيف أن الله سلط على بني إسرائيل العماليق فأذاقوهم سوء العذاب: فأخذوا منهم التابوت، وأسروا النساء والأبناء، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا هو واقع أمة محمد ﷺ اليوم، لكن عندما ننظر إلى جماعة الأشراف من بني إسرائيل الذين دب فيهم روح القتال، واجتمعوا إلى نبي لهم فقالوا: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ﴾ [البقرة:٢٤٦].
فقال لهم نبيهم: عهدي بكم أنكم لا عهد لكم ولا ميثاق، ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة:٢٤٦]، فأنت ترى الذل والهوان الذي نحن فيه، لكن هذه الروح الحماسية وروح المظاهرات والشعارات لا ينبغي للحاكم المسلم أن ينخدع بها، بل لابد من الاختبار، وهذه الروح الحماسية روح عاطفية مؤقتة، قال لهم نبيهم: أخشى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، أي: أخشى أن يكتب عليكم القتال فلا تقاتلوا، ثم قال لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ [البقرة:٢٤٧]، فهم يريدون قائدًا، وهذا هو أول أسباب النصر في الغزوات، القائد المؤمن الذي يقود الرعية لتحرير المقدسات، فـ طالوت هو الذي يقودهم إلى هذا، لكن: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ [البقرة:٢٤٧]، لا هو من العائلة المالكة، ولا هو من الأغنياء، وشروط الملوك عندنا: أن يكون من العائلة المالكة، وأن يكون من الأغنياء، ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة:٢٤٧]، زاده بسطة في العلم، لذا لا مخرج للأمة إلا بالعلم، وعليه فلا تسمعوا لأصحاب المظاهرات الذين يقولون: إن أهل السنة يعلمون الناس العلم ولا شأن لهم بجهاد، لا، فطريق الجهاد هو العلم، وهؤلاء يقولون كلامًا غير واقعهم، وانتبهوا يا قوم! فالقائد المسلم هو الذي يختبر الرعية في حماسها.
فماذا صنع طالوت؟ جاء دور التصفية للتضخم الكمي الذي لا عبرة له، فقال لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة:٢٤٩]، استثناء: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [البقرة:٢٤٩]، قال البراء بن عازب كما عند البخاري: كنا نعد أصحاب طالوت كأصحاب النبي ﷺ في يوم بدر.
ثلاثمائة وثلاثة عشر من مائة ألف، يعني: مائة ألف يرفعون الأعلام: بالروح بالدم نفديك يا أقصى، وأول اختبار ستجد أن ٩٠% من هذا العدد ولى مدبرًا ولم يعقب، فيا قوم روح الحماس لا تصنع أمة، وهذا هو شعار القائد المسلم، وتأمل لو أن هناك محاضرة بعد صلاة الفجر، فستجد أن المسجد فارغ من الناس، لأن الناس نائمون، فهؤلاء القوم سقطوا في الاختبار والابتلاء، ولذلك الحاكم المسلم هو الذي يختبر الرعية، فيقيس درجة الإيمان عندهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ [البقرة:٢٤٩]، قيل للشافعي: أيهما أولى للمؤمن أن يمكن أو يبتلى؟ فأجاب ﵀: لا يمكن حتى يبتلى، إذًا: لا تمكين في الأرض إلا بعد ابتلاء، فيا ليتنا نفهم المراد من الله ﷿.
2 / 5
مماطلة بني إسرائيل في ذبح البقرة وتشديدهم على نبيهم في وصفها
قال لهم نبيهم بعد أن جاءوا إليه في جماعة منهم وأخبروه بالواقعة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة:٦٧]، ما علاقة البقرة بقصة القتيل؟ القصة سارت على غير ترتيب البلاغيين وأصحاب القصص، فسببها جاء في الآخر، ومقدمتها في الأول، والخلاص في وسطها؛ وذلك ليشد انتباه السامع، وكان ينبغي لهم طالما أن الأمر من الله أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وهذا كحال بعض المسلمين اليوم عندما تقول له: إن الله يأمر بكذا، فيتلكأ ويتباطأ، فمثلًا تقول للمتبرجة: إن الله يأمرك بالحجاب، فتقول: أعطني فرصة حتى أتخلص من ملابسي، وكذلك الذي يلبس الذهب من الرجال، والذي يدخن السيجارة تقول له: إن الله يأمرك أن تترك هذا المنكر، فيقول: دعني أجاهد نفسي وأقلل المعدل، ونسي أنه ربما قد يموت والسيجارة في فمه، فماذا سيقول لربه ﷿؟ وربما قد تموتين وأنت على هذه الهيئة، إذًا: التباطؤ من صنيع بني إسرائيل، وقد جاء الله ﷿ بـ (إن) الفورية في الأمر ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة:٦٧]، وجاء بلفظ الدلالة؛ ليفيد عظم الأمر، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة:٦٧]، والبقرة نكرة فأفادت العموم؛ لأن كتمان البيان عند الحاجة لا يجوز، يعني: في شهر رمضان ينبغي أن نتحدث عن أحكام الصيام، لا أن نتحدث عن الجنائز، وفي الحج كذلك نتحدث عن أحكام الحج؛ وهذه قاعدة أصولية، والمعنى: أنه ينبغي أن تبين عند الحاجة، فجاء بلفظ البقرة نكرة، إذًا: غير مقصود صفات البقرة، وإنما أي بقرة، فماذا قالوا لنبيهم؟ ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة:٦٧]، وهذا سوء أدب منهم كعهدهم دائمًا، يقول العلماء: ولم يقولوا: (أتهزأ بنا)، وإنما (أتتخذنا) وكأن عادة موسى أن يصاحبه الاستهزاء! ولذا كان الاستهزاء بأمور الدين كفر وردة ونفاق، وحدث ولا حرج عن الذين يستهزئون بالله وبرسوله وبآياته، فمنذ حوالي أربعة أسابيع يرسم كاريكاتير في مجلة حمراء معروفة بهويتها: امرأة منتقبة تسأل العالم فتقول له: هل يجوز أن أغتسل وأنا ألبس النقاب أم لابد من خلعه؟! استهزاء منها، وبجوارها أيضًا امرأة تصافح رجلًا وتسأل العالم: هل بذلك يقام علي الحد؛ لأن أهل السنة يقولون: (اليد تزني وزناها اللمس)، استهزاء بالحديث، فهؤلاء القوم يكفرون من حيث لا يشعرون، ووالله الذي لا إله غيره إنهم يطعنون في القرآن، فيصعد الهابط إلى خشبة المسرح فلا يجد ما يضحك الناس إلا القرآن والسنة، فيعرض بحديث، أو يعرض بآية، أو يركب فوق الكعبة، أو ترقص راقصة وهي عارية فوق الكعبة، ولم يكفهم أن يستهزئوا بالموحدين وبأصحاب السنة، بل يأتون بالرجل له لحية وجلباب وقميص قصير، ويحمل سواكًا في جيبه على أنه مدفع! فيا قوم الاستهزاء أنواع، وسلاح الاستهزاء قديم، ولذلك نجد المنافقين في غزوة من غزوات النبي ﷺ كانوا مع حملة القرآن في طريق العودة إلى المدينة، فقالوا لحملة القرآن: ما نراكم إلا أكبرنا بطونًا، وأجبننا عند اللقاء، وأكذبنا ألسنة، يعني: أن المنافقين يستهزئون بحفظة القرآن، حتى يأتي طه حسين ويصور معلم القرآن في الكتاب بقوله: سيدنا يجلس وينادي: يا طه هل أرسلت أمك البطة أم لم ترسلها؟ إذًا حامل القرآن يبحث عن ملء بطنه، فيصورون للناس حامل القرآن بهذه الصورة السيئة، وقد أنزل الله قرآنًا يتلى في كتابه في شأن من استهزأ بحملة القرآن، فقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ [التوبة:٦٥]، فجاءوا إلى النبي ﷺ وقالوا: يا رسول الله! كنا نخوض ونلعب، ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة:٦٥ - ٦٦]، قولوا للقوم: إن الاستهزاء بآيات الله والاستهزاء بالقرآن والاستهزاء بالسنة والاستهزاء بأي شعيرة إسلامية كفر وردة، لكن الصحف تكتب ويخرج الاستهزاء بالقرآن والسنة والشعائر الإسلامية عيانًا بيانًا، واضحًا جليًا، ولا أحد يحرك ساكنًا.
قال تعالى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة:٦٧]، أي: ألجأ إلى الله من هذه السخرية، فأستعيذ بربي ﷿ من أن أكون من الجاهلين بأمره.
2 / 6
تشديد الله على بني إسرائيل في صفات البقرة التي أمروا بذبحها
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة:٦٨]، ولم يقولوا: ادع لنا ربنا.
﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ [البقرة:٦٨]، أي: صفات البقرة من اللون وغيره، يقول العلماء: إذا خرج الأمر أفاد الوجوب والفورية.
قال عمر بن عبد العزيز لأحد مواليه: أعط السائل ماعزًا، فأرسل المولى يسأله: ضأنًا أم ماعزًا؟ قال: ماعزًا، قال: أنثى أم ذكرًا؟ قال: ذكرًا، قال: سوداء أم بيضاء؟ فقال: أيها الرجل! يا متنطع! حينما آمرك أن تخرج فأخرج طالما لم أحدد لك الصفة على النحو الذي قلت، فهذا تنطع كتنطع بني إسرائيل في أحكام الله، ومنا من يفعل ذلك في أحكام الله سبحانه، فيتنطع ويتلكأ ويتباطأ ويجادل، وهذا ما ينبغي أن يكون لمسلم أبدًا، ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ﴾ [البقرة:٦٨]، قوله: (لا فَارِضٌ): يعني: غير مسنة، وقوله: (وَلا بِكْرٌ): يعني: ولا صغيرة لم تلد، وإنما خير الأمور الوسط، وهذا مثل عربي صحيح، وكل الأمثلة الصحيحة مستقاة من القرآن، فالمثل: (في الحركة بركة) من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ [النساء:١٠٠]، و(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) من قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف:٦٤]، والمثل (الجزاء من جنس العمل) من قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:١٢٣] وكل الأمثلة الصحيحة في حياتنا تعود إلى القرآن.
ثم قال الله ﷿: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة:٦٩]، واسألوا أهل اللغة: فالأصفر فاقع، والأسود حالك، والأخضر ناضر، والأحمر قانن، وهكذا بقية الألوان، لذلك يقول علي بن أبي طالب ﵁: إن نعل الرجل الأصفر يجذب همه، وكان يأبى أن يلبس نعلًا أسود؛ لأنه يدخل الهم إلى القلب، وهو قول الزبير أيضًا، ﴿صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ﴾ [البقرة:٦٩]، والسرور من الإسرار، وسرور القلب يختلف عن الحبور ويختلف عن الفرح، ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة:٦٩]، إذا نظر إليها سرته وأدخلت السرور إلى قلبه، ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:٧٠].
قال النبي ﷺ: (لو لم يقولوا: إن شاء الله لما هداهم الله إليها)، ولذلك يقول الفقهاء: فلتكن هذه الكلمة -أي: إن شاء الله- على لسانك في كل أمر مستقبل، وقد قال الله لنبيه ﵊: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف:٢٣ - ٢٤]، وقال موسى للخضر: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف:٦٩]، وقال الفقهاء: إن حلف الرجل على فعل شيء ثم قال: إن شاء الله ولم يفعل فلا كفارة عليه، وقسموا المشيئة إلى قسمين، إن شاء الله تعليقًا، وإن شاء الله تحقيقًا، ففي قوله ﷾: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الفتح:٢٧]، تحقيقًا لا تعليقًا، فإن شاء الله تعليقًا للحكم، وإن شاء الله لتحقيق الحكم.
وهنا قال الله على لسانهم: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:٧٠]، فجاءت الصفات الثلاث للبقرة، من اللون وصفتها وطبيعتها، وهذا حصر لكل الصفات، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، والإعجاز البلاغي واللغوي في القرآن له موضوع طويل، ولذلك قال: ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ [البقرة:٧١]، يعني: غير مذللة في إثارة الأرض، فلا تحرث الأرض، ولا تسقي في الحرث الزرع، ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ [البقرة:٧١]، أي: سليمة من العيوب ﴿لا شِيَةَ فِيهَا﴾ [البقرة:٧١]، أي: لا لون فيها إلا الأصفر، ولو أن فيها شعرة واحدة بيضاء لا تجزئ، ثم قال الله على لسانهم: ﴿قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة:٧١]، أي: يا موسى الآن فقط جئت بالحق! وهذا يدل على أن هؤلاء أناس أصحاب جدل ونفاق.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقر
2 / 7
الإعجاز البلاغي واللغوي في القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فبعد الجدل والمماطلة والمراء مع نبيهم، واستهزائهم بأمر ربه قال الله لهم: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة:٧٢]، وهذه الآية من السياق في القصص العادي هي أول آية؛ لأن ذبح البقرة كان من أجل إحياء القتيل، لكن القرآن ينوع في قصصه؛ ليشد انتباه السامع، وهذا من إعجاز القرآن اللغوي، لكن تجد بعض الناس -القردة والخنازير- في هذه الأيام يتطاولون على القرآن الكريم، ووالله إن مشركي العرب الأوائل كانت عندهم عقول هي أفضل من عقول هؤلاء، فقد قالوا عن النبي ﷺ: ساحر، مجنون، يعلمه بشر، أبتر، لكنهم ما استطاعوا أن يطعنوا في القرآن وهم أرباب البلاغة؛ لأنهم نظروا في القرآن فأعجزهم، حتى التقديم والتأخير فيه لمعنى عظيم، يقول الله ﷿: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء:٣١]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام:١٥١]، فهنا (نرزقكم)، وهناك (نرزقهم)، فهذا التقديم والتأخير لعلة، ففي الآية الأولى (نرزقهم) أي: عندما يكون الرجل غنيًا وامرأته حامل، فيخشى إن أتى الولد أن يكون سببًا في فقره، فالله يقول له: إن الولد يأتي برزقه فلا تقتله خشية الفقر، فنحن نرزقهم في حال الغنى، وفي حال وجود الفقر الحقيقي، فهذا إعجاز بلاغي ولغوي، وكذلك تأمل في سورة يوسف عندما قالت النسوة: امرأة العزيز، ولم يسموها باسمها، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف:٣٠]، وهذا يشير إلى أربعة معان: الأول: يشير إلى أنها متزوجة.
الثاني: تزداد المصيبة أنها متزوجة.
الثالث: قولهم: تراود، ولم يقلن: راودت، أي: لا زالت تراود مراودة، وتعرض نفسها عليه بكلام، وبفعل، وبإيماء، وحركات.
الرابع: أنها راودت فتاها، ويا ليتها راودت غير فتاها.
أيضًا: إتيان القرآن باسم المسيح بعدة أسماء، حتى قال قائلهم: إن القرآن متعارض متضارب؛ لأنه مرة يقول: المسيح، ومرة يقول: ابن مريم، ومرة يقول: عيسى بن مريم! ونسى هذا المغفل أن هذا من التفنن البلاغي في القرآن، وكذلك القرآن مرة يرفع في قوله: ﴿الصَّابِئُونَ﴾ [المائدة:٦٩]، ومرة ينصب في: ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة:٦٢] ثم يقول: ومعنى ذلك أن القرآن متعارض، فيا قوم إن القرآن معجزة أعجزت البلغاء، وأعجمت صناع اللغة وأرباب البيان عن أن يأتوا بمثله، وفي عصرنا الآن من ليس لهم علاقة بالإعجاز يتحدثون في القرآن.
2 / 8
عدم انتفاع بني إسرائيل بما يسوقه الله إليهم من آيات ومعجزات
والمهم أن الله قال لهم: اضربوا القتيل ببعضها: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ﴾ [البقرة:٧٢] وهذا يشير إلى أن القتل عندهم أمر مشهور، وكما ترى وتشاهد، قوله (فَادَّارَأْتُمْ)، أي: اختلفتم، فكل يدفع عن نفسه التهمة، ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة:٧٣]، أي: اضربوا القتيل ببعض البقرة، فأحياه الله ﷿ أمام أعينهم، لكن القوم لا تنفع معهم الآيات، فقلوبهم قاسية، فقام القتيل يقطر دمًا فقال له موسى ﵇ من الذي قتلك؟ فقال: ابن أخي هذا، ثم عاد قتيلًا كما كان، فالذي كان يسعى لمعرفة القاتل اتضح أنه القاتل، وفي هذا إشارة إلى أن اليهود يسفكون الدماء ويتنصلون من القضية؛ ولذلك قال الله لهم: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ [البقرة:٧٤]، يقول الخازن في تفسيره: شبه قلوبهم بالحجارة ولم يشبها بالحديد؛ لأن الحديد إذا دخل في النار لان، أما قلوب اليهود فلا ينفع معها نار، فهي أقسى من الحجارة، وحدث ولا حرج عن أفعالهم، فقد قتلوا أبناءنا في بحر البقر وقتلوا الأطفال الصغار في المخيمات، ودفنوا النساء أحياء في فلسطين وفي غيرها، وهذا هو الشرق الأوسط الكبير الذي صنعته الديمقراطية، فيا من يدعي محاربة الإرهاب، والله إنكم أنتم من تصدرون الإرهاب للعالم، ووالله إن الحقد الدفين ينبع من قلوبكم ونحن نعرف ذلك علمًا يقينًا؛ لأن الذي أخبرنا به الله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء:١٢٢]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:٨٧]، ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:٧٤].
والخلاصة: أن قصة بقرة بني إسرائيل تبين جانبًا من صفاتهم: الكبر، والعناد، والمكابرة، واستهزائهم بأنبياء الله ورسله.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همنا وغمنا، ونور أبصارنا، اللهم اجعل القرآن شفيعًا لنا يوم أن نلقاك، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم استر عوراتنا، وحجب نساءنا، واهد شبابنا.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا.
اللهم انصر دينك في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر دينك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ارفع راية الإسلام فوق رءوس الجميع، اللهم نصرك الذي وعدتنا، اللهم نصرك الذي وعدتنا، فرج كرب المكروبين، ارفع الذل عن عبادك المستضعفين.
نسألك رضاك والجنة، نعوذ بك من سخطك والنار.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.
اللهم ارحم ضعفنا، وعليك بأعدائنا، اللهم استجب لدعائنا، ولا تخيب فيك رجاءنا، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث.
اللهم إن اليهود ومن شايعهم طغوا وبغوا، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم انتقم منهم شر انتقام، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، دعوناك ونحن مستضعفون فاستجب لنا يا عزيز يا كريم، ارحم ضعفنا، اجبر عجزنا، عليك بأعدائنا.
ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.
اللهم استر عورتنا، وآمن روعتنا، وأمنا في بيوتنا وفي أوطاننا، إنك على كل شيء قدير.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربي من الراشدين، ربنا افرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
آمين، آمين، آمين.
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.
2 / 9
عجل بني إسرائيل
واعد الله نبيه موسى ﵇ ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، وفي خلال هذه المدة افتتن بنو إسرائيل بعبادة العجل الذي أخرجه لهم السامري، فعاد موسى إلى قومه غضبان أسفًا، ثم تاب الله على بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم، وهذا إن دل فإنما يدل على خبث ومكر هؤلاء القوم.
3 / 1
تمكين الله لبني إسرائيل في مصر في زمن يوسف ﵇
الحمد لله رب العالمين، ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة:٧ - ٩]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر:٣].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا مثيل ولا نظير له، مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
وأشهد أن نبينا ورسولنا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا مع قصص القرآن في سورة البقرة، وحديثنا عن قصة تحمل عنوان: عجل بني إسرائيل، فبعد بقرة بني إسرائيل نعيش مع عجلهم.
إن الناظر في تاريخ القوم في عجالة سريعة يجد أن حياة التمكين والعز كانت لهم في أول الأمر، وذلك يوم أن جاءوا من الشام إلى مصر في عهد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعًا الصلاة والسلام.
يوسف ﵇ الذي أدار شئون مصر الاقتصادية، وقال لملكها ولعزيزها: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ﴾ [يوسف:٥٥]، وقد كانت كل البلاد من حول مصر تعاني من مجاعة عظيمة، إلا مصر بفضل يوسف ﵇، فجاء الجميع إلى مصر ليأخذوا من قمحها وأرزها وطحينها، وهبّت مصر لتوزّع على الدنيا بأسرها.
فأين أنت اليوم يا مصر؟! بتّ تستوردين رغيف الخبز من إخوان القردة والخنازير، نسأل الله أن يمكن دينه.
يوسف الصدّيق طلب من العزيز أن يجعله على خزائن الأرض وبرر ذلك بقوله: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:٥٥]، أي: أن مقومات القائد الذي يتولى الاقتصاد: الحفظ والأمانة، فلا تسريب للمليارات من جيوب هذا الشعب الكادح المسكين المعاني، وانظروا إلى مصر وإلى تاريخها، وممن جاء إلى مصر أبوه وأمه، وإخوته العشرة بخلاف بنيامين ﵇، فنظر يوسف ﵇ إلى إخوته عندما جاءوا إليه جميعًا يشكون الجوع والقحط في أرض الشام: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ [يوسف:٨٨]، أي: من خيرات مصر، يقول ربنا: ﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [يوسف:٥٨].
من هنا نستطيع أن نقول: إن المؤمن يرى بنور البصيرة، فقد رآهم بنور طاعته وعبادته وتوحيده، وهم لم يعرفوه بظلمة معصيتهم، لأنهم قديمًا قد مكروا به وكادوا له، والحسد والكبر والقتل من مقومات الشخصية اليهودية، فهذا هو تاريخهم الأسود، مكروا بأخيهم، فأخذوه طفلًا لا قوة له، وما منعهم بكاؤه واستنجاده بهم، فقد جردوه من قميصه، وهذا هو خلق اليهود ﴿لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً﴾ [التوبة:١٠] فإن كان هذا مع الأخ، فما بالك مع أطفال فلسطين؟! وما بالك مع أطفال الموحدين؟ هذا هو تاريخهم.
والحاصل أنهم جاءوا إلى يوسف فأعطاهم وتصدق عليهم وأوفى لهم الكيل، وبنور بصيرته عرفهم، ولذلك دخل على عثمان ﵁ رجل نظر إلى امرأة نظرة محرمة لا تحل له فقال: أتدخلون على أمير المؤمنين وأثر الزنا في وجوهكم؟! فقالوا: أوحي بعد رسول الله يا عثمان؟! ما هذا الذي نسمع؟ أيوحى إليك؟ قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
فهذا نور البصيرة.
وعمر بن الخطاب بينما هو يخطب في المدينة على المنبر، وقد أرسل إلى نهاوند -تبعد عن المدينة آلاف الكيلو مترات- جيشًا وأمّر عليه سارية، فينظر إلى أرض المعركة بنور البصيرة، فإذا بـ سارية يقترب من النصر إلا أنه قد تخلى عن الجبل، كحال الصحابة في يوم أحد، فيستدير العدو ليحيط به من خلف الجبل، فإذا بـ عمر ينادي وهو يخطب: يا سارية الجبل الجبل، ومن استرعى الذئب ظلم، فإذا بالحضور يتعجبون من عمر، ينادي من؟ ويخاطب من؟ وإذا بصوت عمر يصل إلى أذن سارية بنور البصيرة، فيلزم الجبل
3 / 2
استضعاف فرعون لبني إسرائيل وخروجهم من مصر مع موسى ﵇
عاش بنو إسرائيل على هذا النحو إلى أن ذهب الملك وجاء بعده فرعون، وهو لقب لحاكم مصر، فأذاقهم سوء العذاب، وجعلهم عبيده، وسخّرهم في خدمة البيوت، وأذلّهم ذُلًا ما بعده ذُل، حتى أنهم كانوا في مصر يُسمونهم بالعبيد، يقول موسى لفرعون: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء:٢٢]، يعني: جعلهم عبيدًا بعد حياة التمكين والرفعة، وهذه سنة الله في الذي كفر بنعمته، فالله يعطي النعم ويسبغها على العباد ليشكروه لا ليكفروه، لكن شأن هؤلاء القوم أنهم كفروا بنعم الله ﷿.
يقول ربنا سبحانه -وهو موضوع اللقاء-: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:٥٤]، تبدأ قصة عجل بني إسرائيل بعد أن خرجوا من مصر، من ذُل فرعون واستهانته، وبعد أن أرسل الله إليهم موسى ﵇، فأخذهم وخرج بهم من مصر في معجزة سجلها القرآن: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة:٤٩]، ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [البقرة:٥٠]، وفي سورة الشعراء: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ [الشعراء:٥٢]، والمراد (بعبادي): بنو إسرائيل، والإسراء هو: السير ليلًا، فخرج بهم موسى بسحر وفرعون نائم، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء:٥٢]، فاستيقظ فرعون في الصباح فوجد البلاد خالية من بني إسرائيل، إذًا نستعبد من؟ ومن سيخدمنا؟ ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾ [طه:٧٨]، وقال تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ﴾ [الشعراء:٦٠]، أي في الصباح بعد شروق الشمس، ثم قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الشعراء:٥٣]، فالفراعنة في كل الأزمنة والعصور لغتهم واحدة، وقاسمهم المشترك واحد، فأرسل فرعون إلى زبانيته وبطانته: أن اجمعوا الجنود، واجمعوا القوة، ثم قام فيهم خطيبًا: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء:٥٤]، أي: فئة قليلة خرجت عن الشرعية، وحفنة تريد أن تشرّع للأمة شرعًا غير شرع الأسياد، غير مشروع الشرق الأوسط الكبير، أتدرون أن أمريكا تعد قرآنًا جديدًا للأمة يسمى: (الفرقان الأمريكي) وهو باللغة اللاتينية، إنهم يريدون أن يبدلوا كلام الله، والأمة لا زالت في حالة سبات وغفلة، نسأل الله العافية.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ [الشعراء:٥٥ - ٥٦].
ويقول ربنا سبحانه: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء:٦٣]، فأحاط بهم فرعون وجنوده من كل جانب، يمينًا ويسارًا وخلفًا، وأيقنوا بالهلاك، فجنود فرعون عن يمينهم وعن يسارهم ومن خلفهم، والبحر من أمامهم، قال تعالى حاكيًا عنهم: ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:٦١]، أي: سيدركنا فرعون وجنوده، وهنا يقول الواثق بربه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦٢]، إيمان وثقة ويقين بنصر الله، وهذا هو الذي ينقص الأمة اليوم، إذ تعلم أن ربها لا يغفل ولا ينام سبحانه، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال:٣٦]، شرق أوسط كبير، شرق أوسط صغير، أنفقوا الملايين بل البلايين، ﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال:٣٦]، فهذا الدين منتصر بنا أو بغيرنا، لكن مصيبتنا فيمن يتحدثون بألسنتنا، فيمن ينتسبون إلى جلدتنا، واسمع ولا حرج: استضاف مقدم برنامج ديني أستاذة في جامعة الأزهر وسألها: ما رأيُكِ في البنطال للمرأة؟ قالت: هو أستر لها من الحجاب ولا بأس به؛ لأنه ييسر لها الحركة! وأخرى تسأل: ما رأيكِ في المساحيق للمرأة؟ فتقول: لا بأس أن تضع المسحوق الخفيف، و(البرفانات) لتخرج بها، والسجائر غير محرّمة، ثم الاحتفال بشم النسيم جائز، وهم ينفخون فيها ويقولون لها: مفتية العصر! لا إله إلا الله، سكت دهرًا ونطق كفرًا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل:١٨]، تتقدم بالفتوى على سلف الأمة، وتظن أنها تحسن صنعًا.
وحين دخلت المسجد أعطاني أخ ورقة فقرأت فيها: أن عدم قراءة الفاتحة في الصلاة لا يبطلها! والنبي ﷺ يقول: (من لم يقرأ بفات
3 / 3
النهاية المخزية للظالمين
ثم بعد أن ضرب موسى بعصاه البحر انشق البحر، قال بعض المفسرين: انشق البحر إلى شقين، وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ [طه:٧٧]، أي: بدون ماء، ﴿لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى﴾ [طه:٧٧]، فنزل موسى مع بني إسرائيل البحر يريدون أن يفروا من فرعون إلى الشاطئ الآخر في معجزة خالدة رأوها بأعينهم، فجاء فرعون بجنوده ونزلوا بكل ما يملكون من عدة وعتاد، وقال فرعون لجنوده: لا تأبهوا به، فإنه ساحر يخيل إليكم أن البحر قد انفلق أو أن هناك بحرًا، فهيا بنا، والرعية تصدّق، وهذه مشكلة، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف:٥٤]، أي: يقول لهم: لا بحر، فيقولون: نعم لا بحر، فنزلوا، يقول ربنا سبحانه: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه:٧٨]، فجاء الموج الذي ارتفع كالحائط عاليًا وأطبقه الله على فرعون وجنوده، فأغرقهم ولم ينج منهم أحدًا، ونادى فرعون: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس:٩٠]، ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ﴾ [يونس:٩١] فاتعظوا يا فراعنة الأرض بما حصل لفرعون الأكبر.
وحال بني إسرائيل أنهم لم يصدقوا أن فرعون قد غرق، فقال الله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس:٩٢]، فأمر البحر فألقاه خارجًا في مكان مرتفع، ثم نظروا إليه فإذا به فرعون، ثم بعد عبورهم دخلوا إلى سيناء، ولا زالت أقدامهم مبتلة بالماء لم تجف بعد، فمروا على قرية فيها أقوام يعكفون على أصنام لهم، فقالوا: ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف:١٣٨]! فهذا هو دأب بني إسرائيل.
3 / 4